من وصاية القناصل إلى وصاية السفراء … الضياع والقهر يستوطن الشعب اللبناني / موسى عباس




موسى عبّاس / لبنان

…  السبت 10/4/2021 م 

منذ ما بُقارب  ماية وثمانين عاماً بالتحديد بين عاميً 1840 -1841 اندلعت حرب طائفية في جبل لبنان بين الموارنة والدروز ،في عهد الأمير بشير الثالث وليس خفيّاً أنّ قنصل بريطانيا في لبنان حينها هو الذي ساهم فعليّاً في تعيين “الأمير بشير الثالث” حاكماً على جبل لبنان وأنّه عيّن له مستشاراً من”آل مسك “كان يعمل مُخبراً عنده.
 وفي أيلول من نفس العام أقدمت الدولة العثمانية التي كانت تحتل جبل لبنان على تقسيمه إلى ما عُرِف بالقائمقاميتين : شمالية يحكمها قائمقام(نائب حاكم) مسيحي وجنوبية يحكمها درزي ، وكان لقناصل فرنسا وبريطانيا دور فعّال في تعيين الحاكم ونوّابه،وأوّل حاكم كان حينها يُدعى”عُمرْ باشا النمساوي”.
فعندما توفّيَ حيدر أبي اللمع قائمقام المنطقة الشمالية دَعَمَ القنصل الفرنسي”دوليسيبس”بشير أحمد ابي اللمع ضد نسيبه ” بشير عساف ” المدعوم من القنصل الإنجليزي “مور”.
في منتصف القرن التاسع عشر أصبح جبل لبنان موطناً للتدخل الأجنبي، حيث بات قناصل فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا يتحكمون في جبل لبنان عبر الطوائف التي كانوا يدعمونها،حيث تعاملت الدول الأوروبية مع جبل لبنان كجزء من منظومتها الاستعمارية، وراح قناصلها يتدخلون بالحياة العامة، ويساهمون في الصراعات داخل الطوائف نفسها وبين الطوائف.
وما أشبه الأمس باليوم ، لكن مع فارق هو أنّ اللاعبين المحليين على الأرض تغيّرت أسماؤهم وانتماءات بعضهم الطائفية والمذهبية، كما تغيّرت الأسماء والوجوه وتحوّل القناصل إلى سفراء، وحلّت الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى جانب فرنسا مكان بريطانيا التي خفَتَ ثقلها الديبلوماسي إلى جانب الدروز فأخذت الولايات المتحدة مكانها ، والسعودية مكان تركيا عند السُّنّة ،  كما دخل  الصهاينة بعد إغتصابهم “فلسطين”كلاعب في الساحة اللبنانية إلى جانب من لا يرون فيها عدوّاً ، وبالمقابل برز دور جديد وهام ومؤثر للطائفة الشيعية المدعومة بالكامل من” إيران “منذ إنتصار ثورتها ضد حكم الشاه رضا بهلوي فبات لها  ثقل أساسي ووازن في توازنات الساحة اللبنانية  بعدما أنجزته المقاومة التي شكّل المقاتلون الشيعة الثقل الأساسي فيها وأنجزت تحرير الجنوب اللبناني من الإحتلال الصهيوني في أيّار عام 2000  وهزيمة الصهاينة في حرب تموز وآب 2006.
بالعودة إلى أسباب فشل تشكيل حكومة سعد الحريري وتأثير اللاعبين الإقليميين والدوليين ، تُطرح أسئلة عديدة:
— هل هي الكيمياء المفقودة بين رئيس الجمهوريّة اللبنانية ميشال عون والرئيس المُكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري التي تعطّل تشكيل الحكومة ؟
 أم  هو إنعدام الثقة بين الرجلين منذ  إستقال  سعد الحريري من رئاسة الوزراء دون إعلام مسبق لرئيس الجمهوريّة بعد  انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019 وذلك بعد أن أوعز إليه الأمريكيون بوجوب الإستقالة الأمر الذي أزعج رئيس الجمهورية خاصّةً وأنّه يعتبر أنّ الحريري لم يحفظ له جُهدَه الذي بذلهُ لأجل الإفراج عنه عندما احتجزه وليّ العهد السعودي في تشرين الثاني من العام 2017 ؟
أم هو الخلاف على تقاسم الحِصص الوزاريّة؟
أم هو رفض الأمريكيين والأعراب لمشاركة حزب الله في الحكومة؟!
أم استبداد وتعنُت الرئيس سعد الحريري برأيه حول تعيين وزراء مسيحيين من قبلِه ليستطيع ضمان الهيمنة على الحكومة وبالتالي منع  تمرير أيّ مشروع  إصلاحي لا يرى فيه الحريري مصلحة له وتعطيل أي تحقيق جنائي يكشف حقيقة النهب والسرقات التي حصلت منذ العام 1992 ،
ويُنهي مسألة ضياع أموال المودعين كل ذلك تحت شعار “عفى الله عمّا مضى” كما يروّج الرافضين لأيّة تحقيقات
الأمر الذي يعتبره الرئيس عون والتيّار الوطني الحرّ  وغالبيّة اللبنانيين غير مقبول ؟
 
أم أنّ المقصود إطالة أمد الصراع والفراغ في لبنان حتى تنتهي ولاية الرئيس عون والإتيان برئيس جمهورية مطواع بيد الأمريكيين يُنفّذ سياساتهم ضدّ المقاومة في لبنان ويتنازل عن حقوق لبنان في حقول الغاز والنفط البحرية في البلوكات 8و9 لمصلحة الكيان الصهيوني ؟ 
أسئلة عديدة تُطرح دون جواب شافٍ ومُقنِع.
يقول بعض من المقرّبين من كبار السياسيين أنّ الأسلوب الذي يتبعه الحريري في مقاربة عملية تشكيل الحكومة ليس من عنديّاته وإنّما خضوعاً لإرادة الأمريكيين والسعوديين والدليل سعيه لتوسيط وليّ عهد الإمارات والرئيس الفرنسي “ماكرون” لإقناع وليّ العهد السعودي بأن يُخفّف من شروطه كي يرضى عنه وكذلك لإقناع الأمريكيين بالتخلي عن بعض شروطهم لتسهيل تشكيل الحكومة.
لكن يبدو أنّ جميع الجهود فشلت وقد تبيّن ذلك بعد الإجتماع الذي عقده رئيس الجمهوريّة مع سفراء الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية والكويت في اليوم التالي  لفشل الإجتماع الثامن عشر بينه وبين الرئيس المُكلّف.
فشل اجتماع السفراء بعد رفض السفير السعودي الموافقة على صدور  موقف موحّد عن المجتمعين تتبناه حكومات الدول التي يمثلونها يكون دافعاً لتشكيل الحكومة اللبنانية، رفض ذلك خشية أن يصبح الموقف الذي قد يصدر مبادرة مُلزِمة لدولته، في الوقت الذي لا يبدو فيه أنّ الرياض تهتم لتشكيل حكومة في لبنان ،في الوقت الذي يتناغم فيه الموقف السعودي مع الموقف الأمريكي برفض أي مشاركة لحزب الله مباشرة أو غير مباشرة في أي حكومة قد تتشكّل.
الموقفان الأمريكي والسعودي يلاقيهما موقف وزير الخارجية المصري”سامح شكري” في نسخة طبق الأصل عن مواقفهما الحاقدة على المقاومة ، من الواضح أنّ زيارة الوزير المصري الذي التقى جعجع والجميل وجنبلاط والحريري والبطريرك الراعي لم يلتقِ الطرف الأساسي المُتّهم بالتعطيل رئيس “التيارالوطني الحرّ” ولا حزب الله ، دليل على أنّ الزيارة هي زيارة “رفع عتب”وهي لدعم فريق ضد فريق آخر .
اليوم لدينا شكل دولة، يحكمها ويتحكّم بغالبيّة قياداتها السياسية سفراء بدلاً من القناصل ، سُفراء يمارس كلٌّ منهم نفوذه على جماعة معيّنة.
في لبنان يمكن لسفير دولة فاعلة أن يفرض رأيه ليس فقط على السياسيين وإنّما حتى على القضاء ، وما جرى في عمليّة الإفراج عن العميل للكيان الصهيوني “عامر إلياس الفاخوري “والذي كان يُعرف باسم “جزّار معتقل الخيام”خير دليل على ذلك.
في “دولة المَزارِعْ”  يُمكِن لسفيرة دولة مُنعدمة الأخلاق أن تمنع إصدار نتائج تحقيق جنائي يكشف حقيقة ما جرى في تفجير مرفأ بيروت، كما تحمي حاكم المصرف المركزي وتمنع القضاء من إصدار حكم يدينه بعدما ثبتت مساهمته في إفلاس خزينة الشعب اللبناني متواطئاً ومحميّاً من السياسيين في أعلى مواقع الحكم ومن كثير من المرجعيّات الدينيًة الذين يتبارون بإلقاء المواعظ ولا يملّون من الحديث عن وجوب محاربة الفساد والفاسدين في خطب الآحاد والجمعات.
نقلت وثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف) التي صدرت تحت رعاية الوصاية الأمريكية والسعودية والسوريّة نقلت السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مجتمعاً ، فأنشأ إتفاق الطائف عن سابق إصرار وتصميم”ترويكا” تتقاسم الصلاحيات التنفيذية في الصف الأول للحُكم وأتبعتها في الصف الثاني من تبقى من أمراء الطوائف.
وأصبح مجلس الوزراء مجلس طائفي مذهبي تنسحب منه الطائفة التي لا توافق على قراراته في الوقت الذي تبقى فيه فاعلة ومسيطرة في مناطقها وعلى مذهبها.
إن توزّع النفوذ في لبنان من الوصاية الأجنبية إلى أمراء الطوائف ووكلائهم والذي تتحكّم فيه المصالح الخاصّة بكلّ جهّة  يشكّل تهديداً مستمراً لوجود الكيان واستقراره وأي عبث به من أية جهّة  سيؤدي إلى تفككه وإنهياره .
إنّ وجود دولة مدنيّة تحظى بثقة غالبية مواطنيها وذات سيادة وتحكمها القوانين فقط وليس المصالح الخاصّة، يؤدي ذلك إلى مناعة كبيرة ضد الضغوطات مهما كان حجمها أو  الجهّة التي تمارسها إن كانت آتية من سفارة دولة كبرى أو من مرجعية دينية أو سياسيّة  ، ولا تسمح باستغلال الفرص لتوجيه ضعاف النفوس لإثارة الفِتن والتحريض ، لكن يبدو هذا الأمر حُلُماً بعيد المنال ، وعلى هذا سيبقى الحال على هذا المنوال إلى أن يقضيَ الله أمراً كان مفعولا.

قد يعجبك ايضا