مشروع توطين اليهود في الارجنتين / د. أمين محمود




د. امين محمود ( الأردن ) – السبت 20/3/2021 م …

شهدت الارجنتين في العقد الاخير من القرن التاسع عشر محاولات لتوطين يهود اوروبا الشرقية قام بها البارون موريس دي هيرش وهو رجل اعمال يهودي الماني واحد اهم ممولي الحركة الصهيونية . ففي عام ١٨٩١ وفي نفس الفترة التي قامت فيها محاولة تاسيس دولة يهودية في مدين بادر البارون دي هيرش الى تاسيس جمعية الاستيطان اليهودي بهدف تسهيل هجرات يهود اوروبا الشرقية صوب دول الامريكتين وخاصة الارجنتين.

وقد برر هيرش اختياره للارجنتين لكون اراضيها من اكثر الاراضي خصوبة، وتمتعها بمناخ معتدل نسبيا اضافة الى قلة عدد سكانها واتساع مساحتها ، اذ تشير الموسوعة البريطانيةBritannica Encyclopediaالى أن تعداد سكان الأرجنتين في تلك الفترة لم يكن يتجاوز الاربعة ملايين نسمة ، علما بان مساحتها تبلغ حوالى مليون ومىة الف ميل مربع . فقام هيرش بشراء ٧٥٠ الف هكتارا من الاراضي الارجنتينية واسس عليها عشرين مستوطنة ضمت ما لا يقل عن ٢٠٠ مزرعة تعاونية، كان معظمها يقع في منطقة انتريزيوس الخصبة ، واخذ يشجع يهود اوروبا الشرقية على الهجرة اليها ، وقد نجح بالفعل في جلب حوالي ٣٥٠٠ اسرة يهودية فور بداية مشروعه الاستيطاني ، واستمرت هذه الهجرات اليهودية تفد بانتظام الى الارجنتين من اوروبا الشرقية بمعدل ١٣٠٠٠ مهاجر سنويا . وفي تحديده للهدف من وراء محاولته هذه، اشار هيرش الى انه كان يرمي الى تقليل عدد المهاجرين اليهود الى اوروبا الغربية، وبالتالي التخفيف من حدة اللاسامية والمعاناة اليهودية، وخلق جيل يهودي جديد يثمن قيمة العمل في الارض ويرضى باحتراف الزراعة ( فارس المنصوري ، البارون هيرش والحركة الصهيونية ،شوون فلسطينية، يوليو ١٩٧٥ ، ص ١٣٥ – ١٤٠ ) .

كانت خطة هيرش تقضي بتهجير ما لا يقل عن ٣،٥ مليون يهودي الى الارجنتين بحيث تكون غالبيتهم من اوروبا الشرقية وذلك على نحو تدريجي وعلى مدى ربع قرن كي لا تحدث ردود فعل معادية لدى الشعب الارجنتيني ازاء هولاء المهاجرين اليهود فيما لو تسربوا الى البلاد دفعة واحدة .

وقد تولى الزعيم الصهيوني البريطاني جولدسميد Goldsmid مهمة الاشراف على ادارة هذه المستوطنات التي كلفت هيرش عشرات الملايين من الجنيهات . وكان المهاجرون اليهود الوافدون من روسيا واوروبا الشرقية يستقرون في هذه المستوطنات الريفية حيث كانوايتلقون فيها التدريب والتاهيل اللازمين للانخراط في النشاط الزراعي وتربية الماشية ويقومون باستخدام الريع الناتج عن هذا النشاط في اعالة العاملين فيها وبنا شبكات المهاجرين الجدد بالإضافة الى المساهمة في تمويل النشاطات الصهيونية الرامية الى ايجاد الوسائل المناسبة لتسهيل أكبر عدد ممكن من اليهود خارج روسيا ودول أوربا الشرقية .

وهنا يتبادر الى ذهن القارىء تساؤل حول حقيقة الحافز الذي جعل هيرش يستغل هذه الثروة الطائلة لتغطية نفقات ومتطلبات هذا المشروع ؟ هل هو بالفعل عطفه على اوضاع اليهود السيئة في روسيا واوروبا الشرقية ؟ للاجابة على هذا التساؤل لا بد من الاشارة اولا الى ان معظم الثروة التي كونها هيرش كانت من جراء الصفقة التي عملها مع الدولة العثمانية عام ١٨٦٩ ، وذلك بحصوله على امتياز انشاء وتشغيل شبكة من الخطوط الحديدية الواقعة في منطقة البلقان خلال مدة تبلغ خمسة وعشرين عاما . وقد احاطت بهذه الصفقة فضيحة مالية كبرى نظرا لحجم المبالغ التي حصل عليها هيرش نتيجة اتباعه اساليب ملتوية ، اذ اتهم بانه بنى خطا حديديا تكثر فيه الانحناءات والمنعطفات كي تتضاعف ارباحه، اضافة الى انه اتهم باستغلاله الرشاوى الهائلة في سبيل الحصول على هذا الامتياز (المنصوري، المصدر نفسه). وقد تسببت هذه التهم التي احاطت بهيرش الى قيام العديد من منافسيه الرأسماليين اليهود بتشويه صورته والحيلولة بينه وبين الحصول على مزيد من الصفقات وكان في مقدمة هولاء اسرة ال روتشيلد . ولذلك فقد كان لا بد لهيرش من العمل على محورين : الاول المحافظة على مصالحه الحيوية في الدولة العثمانية ، والاخر القضاء على حملة التشهير التي كان رجال المال اليهود يقومون بها ضده ولكي يحقق هذين الهدفين فانه قد لجا الى اغداق جزء كبير من ثروته على توطين يهود اوروبا الشرقية في الارجنتين ليضمن بذلك ابعاد الهجرات اليهودية عن الاراضي العثمانية كي لا تقوم في هذه الدولة حركة معادية لليهود ، من الممكن جدا ان توثر تاثيرا سلبيا على مصالحه ، وفي الوقت نفسه يكون قد ظهر امام غالبية اليهود بمظهر المحسن الرؤوف وتصبح له بينهم شعبية كبيرة تتيح له خطف الاضواء بعيدا عن الفضيحة المالية التي كان يتخذها منافسوه من رجال المال اليهود سلاحا للتشهير به .

ولكن خطط هيرش لم تلبث ان تعرضت للانهيار ، حيث ان الموت لم يمهله طويلا فتوفي في مزرعته بالمجر عام ١٨٩٦ مما ادى الى فشل تجربته الزراعية في الارجنتين ، حيث هجر غالبية المستوطنين اليهود مزارعهم التعاونية وانتقلوا للاقامة والعمل في المدن الارجنتينية الكبيرة ، وهكذا لم يتهيا له المجال لتحقيق حلمه الكبير الذي اخذ يراوده في سنين حياته الاخيرة بانشاء دولة يهودية على جزء من ارض الارجنتين (Max Budenhoimer , Prelude to Israel , p. 62).

قد يعجبك ايضا