الأخوة الأنذال ( قصة ) / أسعد العزوني

 أسعد العزوني ( الأردن ) – السبت 27/2/2021 م …




بعد أن ووري جسد الحاج كامل التراب وتركه الناس في القبر يواجه حسابه مع رب السماوات العادل، بقي ابنه ليواجه أرباب الأرض الذين يأبى الظلم أن يكون من فصيلتهم، فبينما كان ابنه فارس يتقبل التعازي بوفاة والده من الفقراء الذين يعرفون قصة الحاج كامل جيداً، ناداه  عمه الحاج سليم كي يصطحبه إلى الديوانية لأمر هام، كان هذا الأمر تكرارا لما حدث مع أبيه ،إلا أن فارس لم يكن بهذه السهولة التي كانوا يتصورونها.

كانت الديوانية فسيحة ويخيم عليها الحزن الظاهري بينما الفرح داخل صدور كبار العائلة يدغدغهم لأنه  هيء لهم إمكانية النجاح فيما ينوون القيام به!

– اجلس يا ولدي – قالها الحاج سالم بلهجة تنم على التحفز.

جلس فارس وفي مخيلته أن عمه سوف يخبره بالوقوف إلى جانبه بعد وفاة والده.

– نعم يا عماه – قالها فارس والدموع تنهمر من عينيه حزناً على وفاة والده!

– نعطيك شيئاً لتسكت!

– أسكت عن ماذا؟

– تسكت وخلاص.

صمت فارس قليلاً لأنه لم يستوعب الموقف جيداً.. سيطر عليه كابوس ثقيل.. شعر باختناق.. أراد أن يصرخ.. الله أكبر ليجف تراب والدي أولاً!.. راجع كل كلمة قالها عمه.. قارنها بموقف عمه من أبيه!.. رفع رأسه فجأة.. قال بكل الهدوء المشوب بالتوتر:

– أريد أن أقول لكم شيئاً!

وقعت هذه الكلمات في نفوس أعمامه وقعاً جيداً وبدى عليهم كمن فتحت لهم خزائن السماء! وقال عمه الحاج سالم بهمس:

– ها هو قد وافق.. إني أعرفه جيداً.. إنه ليس من طينة أبيه مبروك يا جماعة!

ورغم أن عمه قد تكلم همساً مع بقية أعمامه ومختار البلدة وإمام جامعها ،إلا أن فارس سمع ذلك الهمس وشك أن في الأمر شيئاً… لكنه آثر الصمت حتى يتمكن من استعادة رباطة جأشه وطرد التفكير في موت أبيه!

– ها – قل ماذا عندك يا ولد؟ قالها المختار.

– نعم سأقول ما عندي! ولكن هل عندكم الاستعداد الكافي لسماعي واستيعاب ما أقول؟

– قل! قل! كلنا آذان صاغية، قالها عمه الحاج سليم.

– أولاً: أنا لست ولداً كما تنادونني! أنا شاب في مقتبل العمر – قوي والحمد لله! وأفهم..!

لم يدعه عمه الحاج سليم أن يكمل ما عنده وأخذ يصرخ:

– هل سمعتم ما قاله.. إنه يفهم.. يفهم.. يا إلهي هل رأيتم كيف كان يشد على كلمة يفهم؟

– نعم – نعم .. لكن لا يهم ذلك – قالها أحد أعمامه وتوجه إلى فارس!

– ماذا تعني بكلمة تفهم يا ولد؟

– قلت لك إنني لست ولداً – أنا رجل ولو أنني لم أتزوج بعد.

 أثارت هذه الكلمات الجميع وأخذوا يضحكون بملئ أشداقهم.

– ها ها ها .. ليس متزوجاً.. هاهاها.. لقد حل المشكلة بنفسه.. وقالوا بصوت واحد.

– سنزوجك.. سنزوجك.

رمقهم فارس بنظرة التحقير.

– تزوجونني ممن يا ترى؟

فتح المختار فمه وكأنه لم يصدق ما يسمع وقال لعمه الحاج سليم

– لقد وافق – لقد وافق هيا  هيا أخبره! إنها فرصة!

تململ عمه وعدل جلسته وقال بهدوء:

– ابنة عمك.. ابنتي يا فارس!

ابنتك يا عمي! هل أنت موافق؟

– نعم! نعم هل أقول مبروك؟

صرخ فارس بكل ما أوتي من قوة في وجه عمه وقال:

– لا أريدها.. وفر عليك فالزواج عندي ليس المشكلة رقم واحد! ثم إنني لو أردت ابنتك لنلت منها ما أريد بدون زواج!

خيم الصمت قليلاً على الجميع لسماع هذه الكلمات من فارس الذي يتفوه على ابنة عمه بهذا الكلام الذي عناه كلمة كلمة وأراد أن يخبر أعمامه بوضعهم وهو أنهم قد فقدوا الشرف والكرامة.

لم يطل صمتهم.. ضحكوا دون أن يشعروا بأنهم يضحكون.. كالبلهاء كانوا..

هاهاها كانت ضحكاتهم تعلو من حناجرهم، إلا عمه الذين توقعوا منه أن   يثور ويضرب ابن أخيه.. لم يثر عمه.. ولم يحرك ساكناً كما توقعوا بل ضحك هو أيضاً بشكل عال وقال:

– عال – عال يا ولدي أنا مبسوط منك مبسوط – مبسوط!

فغر فارس فاه لردة الفعل الباردة من قبل عمه وقال:

– لماذا أنت مبسوط يا عمي؟

– لأني أعرف أنك لن تخونني

رد عليه عمه!

لمعت كلمة الخيانة في ذهن فارس وتذكر أشياء كثيرة فعلها عمه مع أبيه!

– آه .. الخيانة .. ولكنك خنتنا من قبل يا عماه!

نظر الجميع إلى بعضهم البعض وقالوا بصوت واحد.

– ألم تسمعوه يقول إنه يفهم؟

حاول عمه أن يضيع الموضوع وقال:

– كيف ومتى حدث ذلك يا بني؟

ضحك فارس بخبث وأيقن أنه أصاب الهدف وقال:

-أنت تعرف.. كلكم تعرفون!

توقف قليلاً ورمق الجميع بنظرة حادة ثم قال:

– أريد أن أسألكم سؤالاً واحداً.. وأريد أن أعرف الجواب الآن..

بهت الجميع وقالوا لقد تخطى حدوده ولكنهم أرادوا مسايرته كي يعرفوا ماذا يريد بالضبط وقال عمه الحاج كامل:

– اسأل! اسأل!.. سنجيبك!

وقال آخر:

–  تراه يريد أن يعرف ماذا ترك له أبوه بعد موته؟

أطرق عمه الحاج كامل رأسه قليلاً ثم رفعه وقال بلهجة تخفي وراءها أشياء كثيرة.

– بسيطة سنتدبر الأمر ونعرف لماذا أقبل على الانتحار.. وعلى كل سنقوم بحملة تبرعات من البلدة كلها ونسدد ديونه كاملة!

انتفض فارس كمن لسعته من تحته أفعى أو عقرب وقال:

– من الذي ورط أبي في الدين؟ ولماذا لم تساعدوه بل تركتموه يقتل نفسه لأنه لم يتمكن من سداد دينه؟ مع أنه رهن الأرض لكم؟

– ها .. فغرت أفواههم وقالوا بصوت واحد.

– من أخبرك بهذا يا ولد؟

حاول عمه الحاج كامل أن يستدرجه أكثر وقال له متودداً.

– من أخبرك يا بني بذلك؟ وهل تصدق أننا نفعل هذا بأبيك؟ لا لا أكيد أنك تمزح! ثم إننا لسنا متأكدين من عملية الانتحار.. إن أباك مات ميتة طبيعية يا ولدي!

صرخ فارس بالجميع وقال:

– كفى كذباً! أنا متأكد أن أبي مات منتحراً لأنه لم يستطع مواجهة أمي بالحقيقة… لم يرد أن يخبرها بأن أخوته وأبناء عمومته قد غدروا به وخذلوه وقت الشدة ولم يرد أن يقول لها أنهم ورطوه بأوهام خيالية ثم قتلوه!

– إنها أمه.. هذه الحية الداهية، قالها عمه بحنق.

– إخرس

رد عليه فارس

– أنتم الحيات وليست أمي، إنها أرجل منكم.. لقد باعت كل صيغتها وذهبها وأعطت ثمنها لأبي ولكنه لم يستطع إنقاذ نفسه من ورطته التي ورطموه بها!

شعر عمه الحاج كامل أن الولد يعرف كل شيء.. حك رأسه.. نظر إلى بقية إخوته وإلى المختار واستنجد بإمام البلدة أن يقول شيئاً!

أدرك إمام البلدة أن الحاج كامل يستغيثه.. عدل من جلسته.. مسح بيده على لحيته.. عبثت اليد الآخرى بمسباحه ثم قال بلطف:

– إذاً من الذي أخبرك بهذا يا بني؟ قل لعل الله يفرجها ونعرف الحقيقة ونكشف عمن يريد السوء بينك وبين أعمامك!

– حتى أنت يا شيخ  البلد؟ – يا قارئ القرآن – سأقول لك الحقيقة لأرى كيف ستتصرف بعد ذلك – فأنت تعرف بالدين.

– قل يا ولدي واستعذ بالله من الشيطان الرجيم!

تململ فارس ونظراته ترمق الجميع بكراهية واضحة وقال:

– لقد سمعته يهذي قبيل مفارقته للحياة.. كان هذيانه مسموعاً لقد كان يقول إخوتي هم السبب.. ورطوني .. ضحكوا عليّ!

لقد ذكر أسماء أعمامي واحداً واحداً وعدد الطرق التي تعاملتم بها معه.. هل تريدون مني أن أعيدها على مسامعكم؟

شعر أعمامه بالرعب يهزمهم من الداخل وأيقنوا أن فارس ليس ولداً يضحكون عليه، وقالوا:

– لا لا يا ولدي.. لسنا.. لقد كنا مرغمين على ذلك!..

لم يمهلهم فارس إكمال كلماتهم حيث بصق في وجوههم.

تفو…! ها أنتم تعترفون أيضاً.. يا لها من وقاحة.. ما  أنذلكم.. ما أسفلكم.. سأتبرأ منكم إلى يوم القيامة.. لقد خنتم أخاكم.. بعتم شرفكم بدينار.. تباً لكم.

لم يستطع أعمامه التفوه بكلمة بل تركوا الأمر لإمام البلدة….

هون عليك يا ولدي الامر ليس بيدهم.. ليس لهم حيلة إننا جميعاً عبيد مأمورون.

حول فارس نظره إلى عمه الحاج كامل وقال:

– هل صحيح أنكم عبيد مأمورون.. بهذه السهولة تقولون وتعترفون بواقعكم المخزي، من أجبركم أن تكونوا عبيداً.. هل حقنوكم بإبر الذل؟

ساد صمت قصير قطعه المختار بقوله:

– ألم يقل لكم أنه يفهم؟

كان كلام المختار حقنة قوية لعمه الأكبر الذي وجد نفسه وقد انكشفت أوراقه.

– ليس هذا هو المهم! المهم أن يوقع وكفى.

– على ماذا أوقع يا عمي؟

– لا شيء لا شيء يا ولدي! إنها ورقة صغيرة.. بسيطة.. كلمتين فقط وينتهي الأمر.

– ها ها ضحك فارس بأعلى صوته وقال:

– تريدني أن أوقع على بياض، يا لكم من أعمام شهماء.

ثم صمت قليلاً وقال بهزء وسخرية:

– سأوقع ولكن بشرط.

– قل يا بني قالها عمه الحاج كامل قل وسنلبي لك كل شروطك.

– سأقرأ الورقة التي سأوقع عليها أولاً!

– ها – لقد وافق قال عمه الحاج كامل – هيا يا مختار – هيا يا شيخ – أحضروا ورقة وقلم رصاص وشدد على كلمة “قلم رصاص” ومال على المختار وقال بهمس – وبعد التوقيع سنمحوا ما خطه قلم الرصاص ونستبدلها بكتابة حبر!

سمع فارس ما قاله عمه للمختار وأراد أن ينهي هذه الجلسة الفارغة وقال بتحد واضح:

– عماه… ما دمتم ستكتبون ما سوف أوقع عليه بقلم رصاص فإن توقيعي سوف يكون “بالرصاص” أيضاً. وشدد بدوره على كلمة الرصاص!

– ها.. هل سمعتم ما قاله هذا الولد، إنه مجنون إنه يريد ان يقتلنا! هذا المجنون!

– إنه يفهم قالها أحد الحضور!

عدل الحاج كامل من جلسته وقال:

– ما بكم هكذا.. ألم يكن أباه مثله في بادئ الأمر؟ ثم فعلتم به ما فعلتم!

– ما الحل يا حاج كامل – سأله المختار؟

– بسيطة سأزوجه ابنتي وبعدها يصبح في أيدينا كالخاتم!

– عظيم يا حاج! قالها إمام البلدة – ولكنه قال إنه لن يقبل!

– هو ذاك يا عمي – قالها فارس – سوف لن أقبل هذا الزواج ولن أقبل عروضكم المخزية! إنكم كالحيات – لا بل كالعقارب لا يؤتمن جانبكم! ثم كيف سأقبل أن أتزوج منكم وأنا أنوي التبرأ منكم! عماه لقد أصبح الثأر بيننا! سوف لن أنس والدي وأرضي!

انتفض إمام البلدة وقال:

– لا يا ولدي – الثأر! الله أكبر… فكر بعقلك يا ولدي إنهم عزوتك! سندك عند الضيق!

– أي ضيق يا شيخ؟ ألم يمر أبي في ضيق شديد؟ لماذا لم يساعدوه؟

أراد عمه أن يدخل على الخط ويشوه سمعة أبيه.

– لقد كان معنا – يقامر معنا – برضاه هل تفهم؟ وصرخ بأعلى صوته.

– نريدك أن توقع وبعدها إلى جهنم هل سمعت؟

– لن أوقع! وجهنم ونارها من نصيبكم

! قالها فارس وخرج!

البقاع الغربي-لبنان

1/8/1982

قد يعجبك ايضا