التوازنات العالمية والإقليمية في صالحنا ومحور المقاومة العالمي يتشكل / د. عبد الحي زلوم

د. عبد الحي زلوم – الجمعة 25/12/2020 م …




فات قطار الثورة الصناعية التي أشعلها اكتشاف النفط بأمريكا الشمالية سنة 1859 وما صاحبها من تقدّم  علمي  لم تَنَل منه ‏أكبر قوتين في اقليمنا وهما الدولة العثمانية (بما فيها الوطن العربي)  وبلاد فارس أي نصيب. وما زاد الطين بلّة أن هاتين الدولتين الإسلاميتين قد أبقيتا بابي الاجتهاد والقياس  مغلقين وهما الأداتان الشرعيتان  لتطوير الأساليب مع ادوات العصر لتطبيق مبادئ الدين الحنيف ،  مما خلق شيزوفرينيا  بين الدين والدنيا وأصبحت  الدولتان تعيشان خارج عصرهما .

استطاع بريطاني من أصل ألماني اسمه جوليوس  دي رويتر الحصول  سنة 1872  على امتياز حصري من الشاه ناصر الدين للتنقيب واستخراج كافة المعادن بما فيها النفط  بالاضافة الى انشاء سكك الحديد والطرق وقنوات المياه . لكن سرعان ما قامت المظاهرات تطالب بإلغاء هذا الامتياز  ‏بعد أن سرّبت روسيا القيصرية ان اسم صاحب الامتياز الحقيقي قبل تغييره  كان (اسرائيل جوزيفات ) وانه يهودي، فاضطر الشاه لالغاء  الامتياز.    وبالمناسبة فإن رويتر هذا هو نفسه مؤسس وكالة رويترز للأنباء. لكن  رويتر بقي مصمماً على استعادة الامتياز بل وتوسيعه ، ولربما استغل تعيين السير هنري دراموند وولف وزيراً للامبراطورية البريطانية في طهران سنة 1878  وهو يهودي  ايضاً ، فقام الشاه ناصر الدين بالتوقيع سنة 1889 على ‏امتياز حصري لرويتر باسم ( البنك  الامبراطوري الفارسي)والذي أعطى رويتر ليس فقط حق  التنقيب عن النفط حصرياً لمدة 60 سنة ولكن أيضاً اعطاءه حصريا رخصة أول بنك في فارس له ايضاً مهام البنك المركزي باصدار العملة الوطنية ، وبقي البنك يمارس ذلك حتى سنة  1929 ! باع رويتر امتياز النفط لشركة بريطانية مقابل 150000 جنيه استرليني لكنها  لم تمارس أي نشاط واصبح اهتمام رويتر هو بنكه،  وفتح له فروعا كثيرة وكان اسم فرعه بالعالم العربي  (بنك الشرق الاوسط )  .

كان انطون كتابجي  Antoine Kitabgi ارمنيا فارسياً  تقلّد مناصب رفيعة عدة تعرّف خلالها على السير هنري وولف اثناء خدمته في طهران بين 1878  و 1880    وبقيا على اتصال(!) . تحت غطاء مهمته كمدير لجناح بلاده في معرض باريس التقى كتابجي سنة 1900 بالسير وولف (ورشّح) له منح امتياز النفط الى المستثمر البريطاني وليام نوكس دي ارسي D’Arc . تم التوقيع على امتياز حصري لمدة 60 عام  للتنقيب عن النفط عام 1901، علماً بأن D’Arcy  لم يكن لديه اي خبرة في مجال النفط وتم التنقيب تحت حراسة الجيش البريطاني.

تم  اكتشاف أول بئر للنفط سنة  1908 وتم تأسيس (شركة  البترول الفارسية البريطانية ) في بريطانيا كشركة خاصة تم طرحها كشركة عامة سنة 1909  . تلقّت بلاد فارس 20 ألف جنيه استرليني فقط كدفعة نقدية عند توقيع عقد الامتياز على أن يتم تسجيل ما يعادل 20 ألف جنيه استرليني أخرى كأسهم في شركة استخراج النفط المستقبلية  مضافا اليه 16% من الارباح الصافية .

قامت الشركة ببناء مصفاة للبترول في عبادان  وفي 17 حزيران 1914 (أي قبل شهور من بداية ‏الحرب العالمية الأولى ) قدّم وزير البحرية Winston Churchill لمجلس العموم البريطاني مقترحاً من بندين أساسيين أولهما  أن تستثمر الحكومة البريطانية 2.2 مليون جنيه استرليني في شركة البترول الفارسية البريطانية مقابل استملاك 51 %  من  أسهمها ، وثانياً تعيين الحكومة البريطانية عضوين في مجلس ادارة الشركة لهما حق النقض (  الفيتو ) ضد أي قرار لا ترغبه وزارة البحرية البريطانية، بالاضافة لإبرام  اتفاقية سرية لبيع وقود أساطيل البحرية البريطانية بأسعار تفضيلية . كان أول عضوين  بريطانيين في مجلس الادارة من الادميرلات  . كانت الأسعار المباعة للأساطيل البريطانية تجعل ربح الشركة زهيداً لتصبح حصة ال16% لبلاد فارس تكاد لا تُذكر!

فكما في بلاد فارس كان هناك ارمنيا في اسطنبول اسمه كالوست كولبنكيان كان وكيلاً لشركة شل (والتي أسسها اليهودي Marcus Samuel بتمويل من ال روتشيلد ) قام بالحصول على امتياز  من الباب العالي لأول شركة للتنقيب عن النفط في العراق ، وأسس لذلك (شركة البترول التركية ) وكان شركاؤها  شركة البترول الفارسية البريطانية وشركة شل والبنك الالماني ( وأعطيت حصته لفرنسا بعد هزيمة المانيا بالحرب ) و احتفظ كولبنكيان ب5٪ لنفسه . تغيّر اسم الشركة بعد الحرب الاولى  الى  (شركة نفط العراق IPC) .

انشأت الحكومة الفرنسية شركة البترول الفرنسية (CFP)  حصرياً لتصبح شريكاً في  شركة نفط العراق ومن ايراداتها تلك تطورت لتصبح شركة نفط كبرى على أكتاف العراقيين ، وامّا شركة النفط الفارسية البريطانية فقد تم  تغيير اسمها  الى شركة البترول البريطانية (BP) بعد تأميم محمد مصدق للنفط الايراني . واستحضر هنا أن الولايات المتحدة قد انشأت مصفاة راس التنورة في السعودية لتكون محطة تزويد للاساطيل الامريكية وأن الرئيس روزفلت أصدر سنة  1943  أمرًا باستملاك  حقول نفط شركة ارامكو وإنشاء شركة حكومية امريكية لهذا الغرض اسمها ( شركة الاحتياط البترولي) واعتبرت الولايات المتحدة دوما احتياطي السعودية كأنه  احتياطها ، وأنشات أول قاعدة عسكرية وجوية لها في الشرق الاوسط فوق  حقول  النفط في الظهران .

من الواضح اذن  أن هناك تاريخاً ومستقبلاً  مشتركاً بين الوطن  العربي وبلاد فارس، والتي  أصبح اسمها ايران من سنة 1935. بل كان الاستعمار الرأسمالي  الصهيوني  عدوهما المشترك  عمل على زرع الفتنة بينهما لنهب ثرواتهما وسلب سيادتهما.

حمل العرب الى الفرس دينهم فأسلموا،  وساهموا بدورهم في بناء وإثراء الحضارة العربية الاسلامية التي زاوجت ايجابياً بين القوميات  وأنتجت العلماء  في كافة العلوم بما فيها اللغة العربية (كسيبويه ) . تخشى قوى الظلام من اندماج القوى العربية والايرانية لصون مصالحهما المتصادمة حتماً مع عمليات النهب الغربية والتي يمارسها المستعمرون تحت يافطة (الحفاظ على مصالحنا بالمنطقة) !

لاحظوا معي ‏أن التاريخ الحديث لتركيا وايران مرّ بمراحل متشابهة ،  ‏فقد كانت الدولتان غارقتين في ظلمات القرون الوسطى، وبعد الحرب العالمية الأولى قام الاستعمار باستبدال أنظمتهما السيئة بأنظمة أكثر منها سوءا  صممها الاستعمار ‏لتأمين مصالحه ‏، فجاء  بكمال أتاتورك من العسكر الى الحكم في تركيا ، وأسس نظاماً شموليًا أراد من خلاله  فصل البلاد عن تاريخها  ودينها . وجاء إلى بلاد فارس  بعسكري آخر هو رضا بهلوي ، فجعلا من نفسيهما صنمين  يعبدهما الناس من دون الله . كما تم تنصيب صنم لكل كيان خلقه الاستعمار في نظام عربي صهيوني رسمي فأصبحت صناعة الشعوب هي عبادة الاصنام،  ودخلت في جاهلية جديدة معظم سنين القرن العشرين . ومما ساعد على ذلك غسيل الدماغ الممنهج،  وحصر وظيفة  جيوش هذه الأنظمة لحراسة هذه الأصنام وبرامج تغريبها ، لا حماية الاوطان .  وظنّت الاصنام  أن الدنيا قد حيزت لها، فإذا بالشعوب تتململ بعد أن ساءت احوالها فانتفضت حتى بزغ فجرٌ جديد في تركيا وايران حطمت الشعوب اصنامهم خلاله ! … ‏وقامت حركات مقاومة هنا وهناك ، لكن القاسم المشترك بين ‏كل تلك النهضات والثورات أنها أرادت أن تستعيد هويتها وسيادتها. ‏

قد يتسائل البعض لماذا نجحت بعض هذه الحركات وفشلت غيرها كالربيع العربي ولربما جاء الجواب في مقدمة الدستور الايراني : ” تتجلى الميزة الأساس لهذه الثورة عن سائر النهضات التي شهدتها إيران في القرن الماضي في عقائدية الثورة وطبيعتها الإسلامية. وقد توصل الشعب الإيراني المسلم بعد مروره بتجارب النهضة المناوئة للاستبداد ونهضة تأميم النفط المعادية للاستعمار وما كلفته هذه التجارب، إلى أن السبب الأساسي البيّن لفشل هذه النهضات هو عدم عقائديتها.” فهل نجاح الحركة الاصلاحية في تركيا  بما لها وعليها هو أيضاً بسبب عقائديتها ؟ ‏تدعم علوم العصر الإدارية  الحديثة ‏هذا الافتراض والذي يبيّن  فرع السلوك التنظيمي منه أن المجتمعات والدول بل  والشركات  تكون أكثر انتاجية وتماسكاً حين تعمل في نطاق ثقافتها التنظيمية ( organizational culture).

محور المقاومة العالمي وموازين القوى :

سنستعرض التحولات العالمية والاقليمية لنرى أن تلك التحولات تتجه لصالح شعوبنا وحركات مقاومتها .  ففي المسرح العالمي تتهاوى اليوم  القطبية الاحادية للامبراطورية الصهيوامريكية ، العدو المشترك للعديد من شعوب العالم المظلومة .

عندما أستعملُ كلمة ( محور المقاومة العالمي) فأنا أعني  محور الصين -روسيا -ايران وقد تنضم اليه باكستان ، تركيا ودول بريكس في وقت ما. ودول هذا المحور تتعرض جميعها للعقوبات الامريكية الظالمة ‏والتي تعتمد أساسا على هيمنة الدولار ونظام تبادله كعملة الاحتياط العالمية . ولدول محور المقاومة هذا انياب عسكرية ونووية واقتصادية وعمق تاريخي وجغرافي وجيوسياسي .وهناك امتدادات لهذا المحور الصاعد في وطننا العربي يتمثّل بدول المقاومة وحلفائها.

يقابله على الطرف الاخر النظام الصهيوامريكي المتوحش الذي يتآكل من داخله ، ويتصرف كالثور الهائج المذبوح . حتى حين أصبحت الأحادية الامريكية بلا منافس،

كتبت مجلة ‏هارفرد بزنس ريفيو عدد يوليو-اغسطس 1993 : ” انه أمر غريب ان أمة كانت تباهي في تفاؤلها الذي لا يقاوم ، نراها اليوم  يملكها الخوف من التراجع . ان قائمة الشكاوى في امريكا تبدو الى ما لا نهاية ، فالرواتب  المعدلة بأسعار اليوم هي في هبوط ،  والنمو الناتج عن تحسن الانتاجية في هبوط ايضاً ، والشركات الامريكية اصبحت لا تستطيع المنافسة عالمياً  ، والوظائف  الخدمية  لم يعد أصحابها يشعرون بالامان الوظيفي،  والبنية التحتية للبلاد تنهار ،  والعجز الحكومي يتصاعد ، والنظام الصحي في تراجع  ، والمدن أصبحت غير آمنة،  والمدارس في تراجع، والهوّة بين الغني والفقير باتساع “. اذا كان هذا هو رأي مجلة تصدر عن نخبة الاكاديمية الامريكية قبل 27 سنة فما بالنا اليوم ‏وقد أصبحت شوارع المدن ساحات معارك، وهناك رئيس في البيت الابيض يقول  أن الاعلام الامريكي اعلام كاذب،   وان الانتخابات في الديمقراطية الامريكية مزيفة  ، وهو من يصدّقه نصف الشعب الامريكي ! والاكيد ان  الرئيس الامريكي الجديد ومن بعده ومن بعد من بعده لن يستطيعوا أن (يُصلح العطار ما أفسد الدهر ) . ‏أمّا من يظن من الدول المتحالفة مع إسرائيل اليوم او غداً  بأنها ستحميهم فقد أخطؤا الحساب ، فاسرائيل  بحاجة لمن يحميها اليوم ، وهي آيلة للانهيار نتيجة انحدار راعيها وحاميها ، ونتيجة عوامل ذاتية داخلية ‏ديموغرافية ، فاليهود الحريديم والعرب الفلسطينيين داخل فلسطين ما بين النهر والبحر سيصبحون الاكثرية بعد عقدين أو ثلاثة من الزمن ، وهم لا يؤمنون بشرعية وجود دولة يهودية في فلسطين‏ .  كما أن المجتمع الإسرائيلي الزائف  يزداد عنصرية وتطرفاً وانقساماً وتنافراً ، فهو لم يستطع أن  ينتج حكومة خلال ثلاث انتخابات في سنة واحدة  والرابعة في الطريق  ، وهو كيان يرأسه فاسد متهم بإساءة الأمانة والفساد . وقد سقطت ركيزة عقيدة الدفاع الاستراتيجية وهي الحروب القصيرة خارج حدوده.

المستقبل لنا: أعجبني ما كتبه أحد الاخوة المعلّقين المثقفين و المنتمين لقضايا الامة على مقالي الاخير حيث كتب ” كل من يعتقد أن القضية الفلسطينية قد ماتت بعد الهرولة التي نشاهدها فهو مخطئ… باعتقادي فإن قضية فلسطين قد ولدت من جديد بعد أكثر من سبعة عقود وهي مختطفة من النظام العربي الرسمي بادعائهم أنها قضيتهم القومية والمركزية..…ابشروا بالخير فإن القضية ولدت من جديد …”

محصلة التغييرات هي في صالحنا ، وبيننا وبين النصر صبرُ ساعة، لكن علينا أن نتذكّر أن  ثواني ساعة التاريخ سنين .

قد يعجبك ايضا