المفكر الإقتصادي غازي أبو نحل: آسيا تنشئ أكبر تكتل تجاري في العالم … مصير مشترك لمواجهة التحديات الكبرى

غازي أبو نحل* – الأربعاء 2/12/2020 م …
* رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D



* الرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية
شكّل خمس عشرة إقتصاداً آسيوياً أكبر منطقة تجارة حرة في العالم الشهر الماضي، في صفقة تدعمها الصين وتستبعد الولايات المتحدة التي انسحبت من مجموعة منافسة لآسيا والمحيط الهادئ في ظل رئاسة دونالد ترامب.
الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP) هي اتفاقية تجارة حرة (FTA) تضم الدول العشر الأعضاء في كتلة رابطة دول جنوب شرق آسيا – آسیان (بروناي وکمبوديا وأندونيسيا ولاوس وماليزيا ومیانمار والفلبين وسنغافورة وتايلند وفيتنام) وخمسًا من شركائها في اتفاقية التجارة الحرة (أستراليا والصين واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية). وتغيب عنها الهند، التي كانت أعلنت العام الماضي أنها غادرت المفاوضات بسبب مخاوف من أن صناعاتها المحلية ستدمّر بسبب السلع المصنّعة الرخيصة من الصين والمنتجات الزراعية ومنتجات الألبان من استراليا ونيوزيلندا.
حتى من دون الهند، تظل الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة اكبر اتفاقية تجارة حرة في العالم، حيث تمثل 30 في المئة من سكان العالم والناتج المحلي الإجمالي. وهي تضم اقتصادات رائدة مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، بالإضافة إلى بعض الدول الأقل تطورًا مثل لاوس وكمبوديا.
والأهم من ذلك، أن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة ستمثل أولى اتفاقيات التجارة الحرة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية، أول وثاني ورابع أكبر اقتصادات في آسيا، علمًا إن زعماء آسيان قالوا أن الباب لازال مفتوحاً أمام الهند للإنضمام إلى هذه الإتفاقية.
غياب الولايات المتحدة
توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة خلال قمة إقليمية في هانوي، شكّل ضربة جديدة للمجموعة التي كان يساندها الرئيس السابق باراك أوباما وانسحب منها خلفه دونلد ترامب في 2017.
ووسط تساؤلات عن مدى اهتمام الولايات المتحدة بآسيا، قد تعزز الشراكة وضع الصين كشريك اقتصادي لجنوب شرق آسيا واليابان وكوريا الجنوبية، إذ تضع ثاني أكبر اقتصاد في العالم في مكانة أفضل لصياغة قواعد التجارة في المنطقة.
غياب الولايات المتحدة عن اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة وعن المجموعة التي حلّت محل الشراكة عبر الأطلسي التي قادها أوباما، يستثني أكبر اقتصاد في العالم من مجموعتين تجاريتين تغطيان أسرع المناطق نموًا على وجه الأرض.
نشأت الإتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (RCEP) من الشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، التي كانت مكوّناً رئيسياً لإستراتيجية الرئيس الأميركي السابق باراك اوباما “التمحور حول آسيا”، التي إنسحب منها لاحقاً الرئيس دونالد ترامب.
الصين… النفوذ الاقتصادي
سعت الصين الى إنشاء شبكة اتفاقية التجارة الحرة مع الشركاء التجاريين كجزء من جهودها لتعزيز نفوذها الاقتصادي، وزادت هذه الجهود بشكل كبير، خصوصًا بعد دعوات دونالد ترامب إلى مزيد من الحمائية التجارية وفرض سلسلة من التعريفات الجمركية على الشركاء التجاريين الرئيسيين مثل الصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي. وبمجرد الانتهاء، ستكون اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة أول اتفاقية تجارة حرة متعددة الأطراف تشارك فيها الصين على الإطلاق، مما يعزز انتشارها الاقتصادي في المنطقة بينما يمهّد الطريق لمشاركة بكين المحتملة في اتفاقيات التجارة الحرة الأكثر تقدمًا.
وذكرت وزارة التجارة الصينية أن الصين توصلت الى اتفاقيات تجارة حرة ثنائية مع 17 دولة وكتلة اقليمية، وتجري محادثات تجارة حرة مع 15 دولة. في غضون ذلك، تجري الصين مفاوضات مطوّلة مع الاتحاد الأوروبي بشأن معاهدة استثمار، على الرغم من أن الوصول الى الأسواق لا يزال يمثل نقطة عثرة، اذ تجري الصين أيضًا محادثات مع اليابان وكوريا الجنوبية منذ عام 2012 بشأن اتفاقية التجارة الحرة الثلاثية، ولكن لم يتم إحراز تقدم ملموس يذكر.
على رغم أن رئيس الوزراء الصيني لي كه تتشيانغ حاول وضع الإتفاقية في إطار السعي إلى منفعة إقتصادية عالمية شاملة بقوله بعد مراسم التوقيع الإفتراضية: “في ظل الظروف العالمية الحالية، يوفر التوقيع على هذا الإتفاق بصيص نور وأمل” مضيفاً “يظهر بوضوح أن التعددية هي الطريق الأمثل والإتجاه الصحيح لتقدم الإقتصاد العالمي والبشرية” فإن إحدى أبرز الحقائق العملية لهذا الإتفاق، أشار إليها خبير التجارة لدى كلية الأعمال التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية ألكساندر كابري بقوله إن الاتفاق “يرسّخ طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية الأوسع حيال مبادرة حزام وطريق”، في إشارة إلى مشروع بيجينغ الاستثماري الهادف إلى توسيع نفوذ الصين عالميًا. وأضاف: “إنه عنصر تكميلي نوعًا ما”.
اتفاقية ضخمة
تعتبر الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ، التي يُنظر اليها على نطاق واسع باعتبارها واحدة من اكثر الصفقات التجارية المتعددة الأطراف تقدمًا في العالم، أکثر انفتاحًا وشمولية، وتنطوي على الغاء أكبر للتعريفات الجمركية (99 في المئة) على الواردات بين الأعضاء، كما تتضمن أحكامًا بشأن معايير العمل والبيئة.
تغطي الإتفاقية 30 في المئة من الإقتصاد العالمي، والنسبة ذاتها من سكان العالم، وتصل إلى 2،2 مليار مستهلك.
تعهدات الكتلة الجديدة تشمل إلغاء عدد من الرسوم الجمركية داخل المجموعة، ينفّذ البعض منها على الفور والبعض الآخر على مدى 10 اعوام، وهي المرة الأولى التي تتوصل فيها الصين واليابان إلى ترتيب لخفض الرسوم الجمركية، بما إعتبر واحداً من الانفراجات التاريخية بين البلدين. وبالإضافة إلى البنود المحددة التي تغطي التجارة في السلع والخدمات والإستثمار، تتضمن الإتفاقية أيضاً فصولاً في مجالات جديدة مثل الملكية الفكرية، التجارة الإلكترونية، المنافسة، المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التعاون الإقتصادي والتقني والمشتريات الحكومية… بإختصار انها أكثر إتفاقيات التجارة الحرة طموحاً للآسيان، علماً أن الرابطة، خلال السنوات الثماني الماضية، حافظت على دورها كقائد ودفعت عملية المفاوضات بنشاط.
معهد بيترسون للإقتصاد الدولي قدّر أن يثمر الإتفاق عن زيادة الدخل القومي العالمي بمقدار 186 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2030، فضلاً عن إضافة 0،2 في المئة إلى اقتصادات الدول الموقّعة عليه، وفي حين يعتقد بعض المحللين ان الإتفاق سيفيد كلًا من الصين واليابان وكوريا الجنوبية أكثر من باقي البلدان، فإن الخبير الإقتصادي نيك مارو يؤكد: “قد لا تتعدى الفوائد الإقتصادية للإتفاق أن تكون هامشية بالنسبة لدول جنوب شرق آسيا، لكن هناك مكاسب إضافية يمكن أن تحرزها دول شمال شرق آسيا جرّاء الحركة التجارية والتعريفات الجمركية”.
والاهم في اعتقادنا، أن هذه الإتفاقية تتألف من مزيج متنّوع من الاقتصادات المتقدمة والنامية والأقل نمواً في المنطقة مع خلفيات ثقافية وأنظمة سياسية مختلفة، وإن توحّد هذه الدول المتنوعة وتوصلها إلى مثل هذا الإتفاق يظهر الجاذبية الهائلة للتجارة الحرة والتعاون المربح.
الإتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ ستظهر الدعم للنظام التجاري المتعدد الأطراف والمفتوح الشامل القائم على القواعد، وتعزز الثقة الإقتصادية العالمية وتسهم في الإنتعاش الإقتصادي والتنمية على المستويين الإقليمي والعالمي، لاسيما بعد الانتكاسات الحادة والتراجع القوي والإنكماش القاتل التي اصابت اقتصادات العالم خلال العام الحالي في ظل جائحة كوفيد-19 التي ستترك بصماتها السيئة على إمتداد اعوام مقبلة.

قد يعجبك ايضا