الفلسطيني موشيه هيرش / أسعد العزوني

 أسعد العزوني ( الأردن ) – الخميس 26/11/2020 م …

دعاني د.أيمن خليل محمود رئيس معهد الأمن الإنساني التابع لجامعة الدول العربية ومقره عمّان، لحضور مؤتمر نظمه في منتصف شهر أيلول،سبتمبر 1997 في فندق  عمرة على الدوار السادس ،فسألته عن موضوع المؤتمر ،وأجابني إجابة هزتني من الأعماق ،وهو أن مؤتمره يضم ممثلي الصهاينة في العالم .




قلت له ،ألم يخبرك الوالد عني ،وبالمناسبة فإن والده الصحفي العتيق خليل محمود هو من تدربت على يديه في الكويت عندما كان مديرا لتحرير مجلة الرسالة الكويتية ،فرد عليّ أن والده أخبره الكثير عني،فقلت له :ما دام الأمر كذلك فكيف تدعوني إلى مؤتمر صهيوني؟

أجابني بثقة أنه دعاني للمؤتمر كي أقف على نوعية العمل الذي يقوم به ،فلم أقتنع وإعتذرت له وقلت له  أنني لا أستطيع حضور مؤتمر غالبية مدعويه من الصهاينة ،ورغم محاولاته وتوسلاته بأن أراجع موقفي وأحضر المؤتمر ،إلا أنني حسمت الأمر وقلت لا.

يبدو أن د.أيمن  أصر على حضوري  فأمطرني في اليوم التالي بالمكالمات ،وكان يلح عليّ كثيرا ،وقال انه لا يريد مني أن اكتب تقريرا عن المؤتمر ،بل لأطلع على نمط عمله ،لكنني لم أرتح عن رفضي المطلق للحضور ،وكأنه أصر هو أيضا على حضوري .

عند العصر جاءتني مكالة تختلف عن كل المكالمات السابقة ،وكان صوته يحمل ألف رسالة ورسالة لي كي أغيّر موقفي وأوافق على الحضور ،وأعترف أنه نجح في تليين موقفي ،وربما أكون انا من أردت إنهاء  المكالمة بوعد غير مضمون التنفيذ  تهربا ليس إلا،لكنه نجح في نهاية المطاف بإقناعي بالحضور وإنتزع كلمة الموافقة .

رغم موافقتي على الحضور وإعطائه كلمة شرف ملزمة ،وجدت كابحا قويا يحرضني على عدم الحضور ،لكنني قلت لنفسي أنني أعطيت كلمة ،فتوجهت إلى فندق عمرة ،دون رغبة داخلية ،إذ كنت كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ،فالأمر ليس سهلا عليّ أن أجد نفسي وسط صهاينة .

وصلت قاعة المؤتمر متأخرا بعض الشيء ،ووجدت القاعة ملتهبة بصراخ يندلع من كل موطيء قدم فيها،وعندما سألت أحد الحضور العرب عن أسباب الضوضاء والضجة الحاصلة ،قال لي ان الصهاينة لا يريدون السماح للحاخام موشيه هيرش حاخام طائفة ناطوري كارتا المناهض للصهيونية وإسرائيل بإلقاء كلمته .

كنت أقرأ كثيرا عن الحاخام هيرش وكان لدي إطلاع كبير على طائفة ناطوري كارتا ومقرها القدس ،لكنني وجدت نفسي للمرة الأولى وجها لوجه مع رجل أكتب عنه كثيرا وأمجد مواقفه ،وأقول الحق أنني شعرت بالندم لعدم حضوري المؤتمر في يومه الأول.

وبينما  كان  الصهاينة يصرخون من كافة زوايا القاعة نساء ورجالا ويهتفون :لا تسمحوا لهذا النازي بالحديث …إنه نازي ..إنه معاد للسامية ..إنه يكره إسرائيل ،إنه ليس يهوديا ،وللحق أقول أنني شعرت بالمتعة وأنا أشاهدهم وكأنهم يغلون في  مرجل فوق نار حامية ،أو كبيضة في المقلى.

كان الرجل جالسا خلف المايكروفون ،ويبدو عليه الوقار ،إذ لم ينفعل ولم تتغير طقاطيع وجهه حتى ،وهو يستمع إلى صراخهم وشتائمهم ضده ،وتمسك بهدوء المؤمن المقتنع بموقفه ،والواثق من نفسه ،وهذا ما زاد من إنفعالعهم لأنهم هم الذين أظهروا  وجههم القبيح ،فيما هو ظل محافظا على وقاره.

وبينما كانت القاعة تروج وتموج وكأنها مرجل على وشك الإنفجار إعتلى المنصة الأب نبيل حداد ،وطالب المحتجين الصهاينة بالتزام مقاعدهم والمحافظة على الهدوء،وأكد لهم ان الحاخام هيرش هو ضيف المؤتمر وهومدعو مثلهم وله الحق في إلقاء كلمة لتبيان موقفه كما فعلوا هم ، ويجب عليهم ان يحترموه ،كما قال لهم أن القائمين على المؤتمر سمحوا للجميع بالتحدث ولم يعترضوا على أحد  رغمطبيعة ماقيل ،وبالتالي فإن عليهم قبول الحاخام هيرش والإستماع له.

كان الأب نبيل حداد حازما وحاسما في ندائه ،ونجح في إجبارهم على إلتزام مقاعدهم والمحافظة على الهدوء ،وبعد ذلك ،بدأ الحاخام هيرش يقرأ كلمته المكتوبة ،وكانت عبارة عن حمم جهنمية تتوالى فوق رؤوسهم ،وتخرجهم عن طورهم من جديد ،وعادت القاعة تروج وتموج،لكن الحاخام هيرش لم يتوقف عن قذف حممه فوق رؤوسهم.

كانت كلمة الحاخام هيرش بيانا يهوديا جرت صياغته بإتقان ،ووصف فيه الصهيونية بأنها الشيطان الرجيم ،وقال أن الصهاينة تحالفوا مع الشيطان ،وأن هيرتزل وشارون سرقا اليهود من الرب وسلماهم للشيطان الرجيم .

لم يتوقف الصهاينة الذي قدموا من كل حدب وصوب عن إثارة البلبلة والتهويش لمنع  الحاخام هيرش من إكمال تلاوة كلمته النارية ،لكن الحاخام هيرش كان صلبا لا يلين ،وواصل قراءة كلمته ،وأسمعهم صفاتهم ،والكلمات والأوصاف التي يستحقون .

عند إنتهاء كلمة الحاخام هيرش واصل الصهاينة الصراخ وضرب المقاعد بالأيدي مطالبين بإنزاله عن المنصة ،وتوجهت إلى المنصة وصافحته وقبّلت رأسه وعرّفته على نفسي ،وعدت إلى القاعة أتصفح وجوه الصهاينة وأدقق في تعابيرها ،وزيادة في المماحكة من قبلي ،إقتحمت مجموعة ملتهبة منهم ،وسألتهم بخبث عن سر إعتراضهم عليه وهو اليهودي مثلهم؟

لم أكن أعلم انني فجرت قنبلة نووية ربما يفوق أثرها قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما في اليابان على يد أمريكا نهاية الحرب الكونية الثانية ،إذ إنتفضوا مجددا وقالوا بصوت رجل واحد إنه شيطان وليس يهوديا ،فقلت لهم أنه هو اليهودي النقي ،فردت علي إحداهن وقالت بحسرة من أجل هذا صافحته وقبلت رأسه ،أما نحن فلم تصافح أيا منا ،فرددت عليها بنعم .

تحرك عندي الحس الصحفي وقلت في نفسي أن الرجل يستحق إجراء مقابلة معه لإستجلاء الموقف ،وعلى الفور طلبت من الدكتور أيمن مفاتحته في الأمر،لكن أيمن رفض الفكرة لتأخر الوقت ورغبة الحاخام هيرش بالمغادرة مبكرا حتى لا يغتالونه في الليل .

ركبت رأسي وقلت لنفسي أنني لن أعود خالي الوفاض ،وإنني سأحصل على المقابلة ،فتوجهت إلى الحاخام هيرش الذي ما يزال جالسا على المنصة ،وقلت له أنني أرغب بإجراء مقابلة صحفية معه ،فحاول بداية الإعتذار بحجة تأخر الوقت وخوفه من إغتياله في الليل ،لكنني قلت أن أحدا لا يقول لي لا.

نظر إليّ بتمعن وسألني كم  أحتاج من الوقت؟فأجبته أنني بحاجة لخمسة عشر دقيقة فقط،وعندها نهض من على المنصة وقال إتبعني إلى الغرفة ،وسرنا معا وهو يقول ان الصهاينة سرقوا اليهود من الرب.

جلسنا على حافة السرير في غرفته ،وبدأت بطرح الأسئلة عليه وهو يجيبني بكل أريحية ،وكشف لي أسرارا كثيرة عن الطائفة المناهضة للصهيونية وإسرائيل ،وكيف أنهم قدموا طلبا للأمم المتحدة عام 1948 بمنحهم جوازات سفر لاجئين لأنهم لا يعترفون بإسرائيل ولا يرغبون بالعيش فيها،لكن الأمم المتحدة لم ترد عليهم حتى حينه ،وقال أنهم لا يعترفون بإسرائيل ولا يتعاملون بالشاقل،ويعانون من التهميش من قبل الحكومات الإسرائيلية .

كما قلت كنت بحاجة إلى ربع ساعة لكنه إستمر في الحديث ثلاثة أرباع الساعة ،ولم يكن لديه رغبة بالتوقف ،وقد أجبرته على إنهاء المقابلة خوفا على حياته ،حتى لا يغتالونه في الليل وهو مغادر إلى فلسطين عن طريق جسر الأمير محمد أو جسر دامية كما يسمى.

أنهى الحاخام هيرش المقابلة على مضض ،وأحسست أنه فضفض كثيرا ،وختم المقابلة بقوله :يا إبني أنا فلسطيني مثلي مثلك!!!!

 

قد يعجبك ايضا