دراسة … أهم عوامل الفوات الحضاري لعالمنا العربي (1 من 2) / د. عدنان عويّد




د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 12/11/2020 م …

     الفوات الحضاري في سياقه العام, هو حالة السبات أو الركود البنيوي الطويل الذي يصيب مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم, ويجعلهما في موقع متأخر جدا عن بقية المجتمعات أو الأمم الأخرى. ومن هذه الأمم التي دخلت حالة الفوات الحضاري هي أمة العربية.

     فدعونا هنا نتعرف على أهم سمات وخصائص هذا الفوات الحضاري في واقع أمتنا العربية:

    1- هو واقع لم يزل مأزوماً في تخلف بناه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, كونه واقع لازالت تتحكم فيه عدة أنماط إنتاج متخلفة يغلب عليها الاقتصاد البسيط والصغير بسماته وخصائه الريعية, وتحدده بالتالي علاقات اجتماعية مأزومة أيضاً لم تستطع حتى هذا التاريخ أن تخرج من شرنقة العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, يرافقها بناء فوقي (ثقافي وقيمي/ أخلاقي) هجين يتداخل فيه البعد الديني الامتثالي الاستسلامي الوثوقي والطائفي, بالقومي واليساري والليبرالي والقبلي.

     2- لم يزل يمثل في بنيته السياسية أنظمة حكم شمولية (مملوكية أو سلطانية) في ممارستها السلطوية, تتفاوت فيها درجات الاستبداد ما بين أنظمة شمولية قروسطية في عقليتها وممارستها, وأنظمة شمولية شعبويّة معاصرة… أنظمة تقودها قوى سياسية تشعر أن الدولة بكل ما فيها ملك لها. فكل شيء فيها مباح دون حسيب أو رقيب حتى ولو خسرت مئات مليارات الدولارات يومياً من أموال الشعب في أسواق النفط خدمة لمصالحها واستمرارها في الحكم, وهي انظمة لا يهمها أصلاً لا الشعب العربي ولا مصالحه.

     3- وجود أمة غاب عنها الفكر العقلاني التنويري أو غُيب قسراً, وحورب فيها بقوة بسيف أو سوط السلطة كل من يشتغل على هذا الفكر منذ مئات السنين, ليسود الفكر السلفي الغيبي الامتثالي الاستسلامي والتكفيري… فكر يقيس الشاهد على الغائب… فكر يؤمن بالإطلاق ويرفض النسبية والحركة والتطور… فكر يعتبر كل جديد يفكر فيه, أو يمارس من قبل الفرد أو المجتمع بدعة, وبالتالي ضلالة… وهو بالتالي فكر يلاقي كل الدعم من العديد من القوى الحاكمة التي وجدت في نشر هذا الفكر وتعميمه والنفاق له أحد العوامل الرئيسة في تجهيل الشعب وتغيبه عن واقعه ومعاناته وبالتالي شرعنة قيادته.  

     4- غياب شبه كامل لممارسة الفعل السياسي المعارض وما يمثله هذا الفعل من قيم التعددية والمشاركة في قيادة الدولة والمجتمع, وكذلك غياب الرقابة الشعبية, وعدم احترام الرأي والرأي الآخر, ومصادرة كليّة لوسائل الإعلام, وتجييرها لمصلحة القوى الحاكمة, الأمر الذي فرض معارضة ظلت ملجومة وتعمل لسنين طويلة بصمت وخوف من عقاب السلطة, لذلك عندما أتيحت لها الفرصة كي تعبر عن نفسها تجلى جهلها الفاضح في عدم قدرتها على تحديد أجندة مشروعها السياسي والتعبير عنه بعقلانية… فمعارضة ما سمي بثورات الربيع العربي, تبين أن الكثير من حواملها الاجتماعية, من حيث  التكوين والطموح والأهداف, لا تختلف في الحقيقة عن القوى الحاكمة ذاتها, فإضافة لجهل هذه القوى وسطحية ومثالية وشعارية وذاتية مفاهيمها في أحيان كثيرة, وبالتالي ابتعادها عن الفهم الحقيقي للنشاط السياسي المعارض وآلية حراكه فكراً وممارسة, جعلها تغرق في الإرادوية والطفولية في مطالبها, فهي تريد كل شيء أو لا شيء. فسياسة خذ وطالب والخطوة خطوة, أو بتعبير آخر السياسة القائمة على تحليل الظروف الموضوعية والذاتية للواقع, والنظر في الواقع الملموس في الزمن الملموس, لا تعرفها في اللعبة السياسية. أما من حيث بنيتها الطبقية فهي نتاج الواقع المتخلف ذاته, فهي لا تنتمي لقوى طبقية ولا لمشروع فكري أو أيديولوجيا محددة, فعندما فسح لها في المجال أن تمارس حريتها السياسية في بعض الدول العربية الشمولية مؤخراً ولو في الحدود الدنيا, راحت تشكل مئات الأحزاب و الفصائل المسلحة لترفع السلاح بوجه السلطات الحاكمة لإقصائها قبل الخوض في مفاوضتها أو الحوار معها, الأمر الذي يدل على جهلها, وعلى قوة شهوة السلطة لديها, وهذا ما جعل معظمها يرهن قراره السياسي مباشرة للخارج كي يؤمن له الخارج الوصول إلى السلطة. بل هي لم تتوان في استخدام العنف بكل أشكاله ضد ممتلكات الدولة ومؤسساتها وضد الشعب نفسه وممتلكاته, وهو الشعب نفسه الذي راحت تتاجر باسمه في ثوراتها الربيعية.

     5- ملاك القول:

 تظل في المحصلة أنظمة الحكم السائدة هي من يتحمل المسؤولية الأكبر في تخلف هذه الأمة وتجهيلها, إن لم نقل إن طبيعة الأنظمة السلطوية القائمة هي أحد الأسباب الرئيسة في مأزق تحقيق نهضتها, فبالرغم من أنها هي ذاتها – أي الحكومات – محكومة في ظروف موضوعية وذاتية معقدة كنا قد أشرنا إلى أهمها في العديد من دراساتنا وكتبنا, إلا أنها قادرة أن تحقق قفزات نوعية في حياة شعوبها إذا ما تخلت قليلاً عن أنانيتها واستحواذها المطلق على السلطة, والإيمان إلى حد ما بالمشاركة السياسية وتعميق حرية الرأي والرأي الآخر, والفسح في المجال للمؤسسات الدستورية أن تأخذ دورها, وتُؤسس بشكل ديمقراطي يعطي الحرية الحقيقة لكل مواطن أن يختار ممثليه فيها وبخاصة القوى الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقة, وهي القوى الوطنية المضطهدة تاريخياً.

كاتب وباحث من سورية

[email protected]

 

قد يعجبك ايضا