الباحث أحمد أشقر في دراسة هامّة عن: الهندسة السكّانيّة لبلاد الشام والعراق: من السفر برلك إلى مأساة سوريّا

أحمد أشقر* ( فلسطين ) – الأربعاء 14/10/2020 م …

طرحت قوافل اللاجئين السوريين المتلفزة بين الأعوام 2015- 2018 والذين كان يُسار بهم على الأقدام في الشوارع إلى بعض الدول الأوروبية وصور بعض قادتها وهم يستقبلونهم ويتبادلون أطراف الحديث معهم، طرحت التساؤل البسيط: ماذا يحدث؟ لكن بعد التوقف والانقطاع عن متابعة تلك المسيرات، يبدأ خليطُ من الصور والمعلومات التي تتحدث عن تاريخ أوروبا الدموي من عمليّات الإبادة التي قامت بها في الفترة الاستعمارية في أفريقيا وأسيا؛ وقيام ألمانيا النازية بمساعدة بعض الأنظمة والعصابات في أوروبا بإبادة أجزاء كبيرة من مواطنيها تطفو على سطح الذاكرة المعرفيّة لتؤكد للمعنيين أن الأمر ليس بهذه البساطة. فأوروبا لم تكن ولن تكون الأم الرؤوم للاجئين الغرباء. لذا يجب علينا استخدام منهج التكليف لفهم أسباب وتداعيات استقدام- استقبال اللاجئين السوريين (وغيرهم) على هذا الصورة من الساديّة البورنوغرافية التي تظهرها وسائل الإعلام التي روّجت للتهجير، ويستمتع بها مخططو العدوان على سوريا وأدواته وكافة الليبراليين الذين أنتجوا مأساة هؤلاء اللاجئين وأسهموا بها.




في هذا المقال سأقدم تحليلاً وتفسيراً لتهجير ملايين العرب بالعنف من بلاد الشام والعراق (الهلال الخصيب) في القرن الأخير منذ السفربرلك عامي 1914- 1915 إلى ما يجري في سوريا منذ العام 1911 إلى يومنا الراهن، 2020. يعتمد على مدخل الهندسة السكّانيّة- التي تهتم بتوزيع الناس والسكان المختلفين على بقعة أو بقاع من الأرضي ضاقت أم اتسعت مساحتها و/أو تحويل مجموعات سكانيّة دينية، اثنية أم قوميّة تعيش في مواطنها إلى بؤر صراعات وتوترات مختلفة كمجموعات وظيفية وفقاً لأجندات جيوسياسية أو استراتيجية. تتم هذه الهندسة في المناطق الجغرافية والسكان الذين يشكلون فيها كتلة فاعلة وحاسمة شريطة أن يتم تفعيلها في السياق الجيواستراتيجي لصالح الأمة أو المشاريع المعادية لها. كذلك التقليل من عددهم بواسطة الحروب والإبادات وهندسات المجاعة والإهمال الصحّي والطبيّ، وتنظيم الأسرة والحدّ من النسل وتشجيع الشذوذ الجنسي وتمكين المرأة والقنابل الديموغرافية عن طريق تحويل جماعة من طائفة إلى أخرى. عن كل جزئية من هذا الموضوع يجد المختصّ أو القارئ آلاف الدراسات الحصيفة والرصينة. كما يمكننا قراءة “مذكرة دراسات الأمن القومي: آثار النمو السكاني في جميع انحاء العالم على أمن الولايات المتحدة ومصالحها ما وراء البحار/

) Implications of Worldwide Population Growth  For U.S. Security and   Interests. Distemper 1974   (

والتي عُرفت فيما بعد بتقرير كيسينجر الذي يتحدث فيه عن ضرورة تقليل عدد سكان الكرة الأرضية بحوالي ثلثي عددهم وأوصى بضرورة خصخصة مياه الشرب كأداة مركزية في هذه الجريمة. (يمكن أن ندرج سدّ النهضة في هذا الباب. وسنتطرق إليه بمقال مستقل). فيما بعد تمّ تحويل ملف مياه الشرب إلى صندوق النقد الدولي ولـ(USAID  التابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية (C.I.A)  وهما يعملان على ضرورة خصخصة مياه الشرب وزيادة أسعارها.  وفي فلسطين يتبّع اليهود استراتيجية منع مياه الشرب من العرب في الضفة وغزة، وما إقامة إتحادات المياه الخاصة  في الأرض المحتلة 1948 وتحويل ملفات الذين يتخلفون عن دفع أثمانها الى شركة جباية خاصة لدرجة ضجّت المحاكم من سلوكها الذي يكاد يصبح جنائياً، إلا جزءا من هذه الإستراتيجيّة.

استدراك- هذا لا يعني عدم وجود أسباب ورغبات داخلية للهجرة تقاطعت مع العوامل الخارجية. أعتقد أن الهجرة والتعاشر الطوعي بين الأقوام والثقافات ضروري. إلا أننا نتحدث هنا عن الأسباب الخارجية للهندسة السكانية والتهجير.

مصر وبلاد الشام

تنبع أهمية الهلال الخصيب كونه يحد كل من إيران شرقاً؛ تركيا شمالاً؛ البحر المتوسط غرباً ومصر جنوباً، أي من جبال طوروس شمالاً إلى البحر الأحمر جنوباً. إذن فهو يتوسط العالم. والذي يُسيطر عليه تمكنه السيطرة على خطوط اتصال وتواصل تربطه مع كل العالم. وكي يتم تفكيكه والسيطرة عليه يجب إنشاء بؤر توتر وصراع داخله ومع جيران الحيّز الجيوثقافي، مثل قضم الأطراف وتأجيج الهويات الهامشية لسكانه وتشتيت المركز وإفراغه من عناصر وحدته السكانيّة بالتهجير والإحتراب الداخلي. وهذا ما يحصل بشكل مُمنهج منذ أن حلّت قوى الاستعمار الجديد، بريطانيا وفرنسا ثم أمريكا بدل السلطنة العثمانية النهبويّة. إضافة لذلك فإن الهلال الخصيب الذي يتاخم مصر في نقطة أصبحت الأكثر سخونة في العصر الحديث ألا وهي فلسطين المُستقلة أو المُحتلة، تُعد مصدر قوة أو ضعف. فوحدة واقتطاع فلسطين من جنوبي بلاد الشام لا يزال المشروع الاستراتيجي الأخطر لإضعافها منذ أن أقدم البدوي ظاهر العُمر في بداية القرن الثامن عشر على اقتطاع ولاية عكّا من السلطنة العثمانية وتحويل مرجها ميداناً تستغله الشركات الفرنسية لزرع القطن بدل القطن المصري وضرب زراعته في مصر علماً أنه شكّل الرافعة للبرجوازية المصرية. وعندما نذكر ظاهر العمر يتوجب علينا ذكر كل من الألبانِيّيّْن محمد على وابنه إبراهيم وحملتهما على الشام من أجل توحيدهما مع ومصر سنة 1831. فالدول العظمى التي ساندت ظاهر العمر هي التي حاربت طموح محمد علي باشا الذي كان جيشه يتقدم باتجاه إستانبول وكاد أن يحتلها سنة 1839. هذه الواقعة تشكّل عقدة لدى النُخب التركية إلى يومنا الراهن وتحديداً السلطان القادم، أردوجان، وما علاقاته العسكرية من “إسرائيل” ومساعدته لإسلاميي غزّة ومحاولة انتزاع ليبيا من حيّزها العربي إلا تتويجاً لهذه العقدة ومحاولة لتجاوزها. كذلك حاربت ابنه إبراهيم سنة 1840 وشاركتها في ذلك الدول الاستعمارية الأوروبية على ضرب جيشه سنة 1860 عندما  كانت تنتظر انهيار “الرجل المريض”. ومع تفاقم صراع السيطرة على بلاد الشام والهلال الخصيب برمتّه ستتحوّل هذه المنطقة إلى الأكثر سخونة ودمويّة في العالم لمشروع الهندسة السكانيّة.  نذكر هنا: كان محمد على باشا وجيشه المصري قد أنقذ السلطة العثمانية مرتين: عندما قضى على المتمردين الوهابيين في نجد (1811- 1815)، وتمرد الأسطول اليوناني (1822- 1827).

سايكسبيكو: الأحواز والإسكندرون ولبنان

على خلفية ما تقدم افتتحت القوى الاستعمارية قرْنَيّْها الحالي، الحادي والعشرين، والسابق، العشرين، بسلسلة من الأعمال العدوانية ضدّ هذه المنطقة التي تشكل الأكثر الأكثر صلابة في النزعات والمشاريع العروبيّة، أقصد الهلال الخصيب. فقوى الاستعمار الجديد في القرن السابق لم تكتف بتفكيك السلطنة العثمانية، بل عمدت إلى تفكيك الأمة العربية وأراضيها إلى كيانات تحمل فيروسات تفجيرها وانفجارها عند الطلب.

تم افتتاح القرن العشرين بمشروعيّن عدوانييّن يندرجان في باب الهندسة السكانية وأسهما إسهاماً كبيراً في هندسة الهلال الخصيب سكانيّاً، الأول: السفربرلك- نتيجة للقمع واستيلاء العثمانيين على المحاصيل الزراعية لبلاد الشام من حبوب وكروم الزيتون وتجنيد رجالها في حربها للدفاع عن الأناضول ضدّ الدول الاستعمارية في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، انتقلت مجموعات سكانية عديدة إلى مناطق أكثر هدوءًا وأمناً داخل مواطنها. كما هاجرت مجموعات أخرى إلى الأمريكيتيّن، أمريكا اللاتينية تحديداً. إذ يبلغ عدد الأمريكيين اللاتينيين الذين ينحدرون من أصول عربيّة في هذه القارة حوالي 40 مليوناً منهم 400 ألف فلسطيني كانوا قد تقدموا بطلب الحصول على الجنسيّة وفقاً لقانون الجنسية التي أصدره الانتداب البريطاني سنة 1925 إلا أنه رفض. (يمكن العودة إلى دراسة نديم بوالصة، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة بير زيت

)Legislating Exclusion: Palestinian Migrants and Interwar Citizenship, Journal of Palestine Studies Vol.46 No. 2-Winter 2017).

الثاني:  اتفاقية سايكس- بيكو لسنة 1916- والتي قامت بتقسيم الهلال الخصيب إلى      مناطق نفوذ بين الاسْتِعّمَارَيّن الفرنسي والبريطاني. هذان المشروعان لا يزالا  المُحركيّن الأساسييّن لهجرة وتهجير سكان المنطقة واستدعاء الصراعات الطائفية والإثنية والقوميّة المختلفة. ومن تداعيات سايكس- بيكو أقدم الاحتلال البريطاني سنة  1920 على تسليم الأحوازالعراقية لإيران. وبعدعقدين أقدم الاحتلال الفرنسي سنة 1938 على تسليم لواء الإسكندرون الشامي لتركيا. بهذا وضع الاستعماران المذكوران الأمة العربية في صراع مستمر ومواجهة مفتوحة مع جاريّْن من نفس الحيّز الجيوثقافي اللذين من المفروض أن تكون مصالحهما مشتركة في مواجهة العدوان الخارجي والتحديات الاجتماعية والسياسية الداخلية. فيما بعد طوّر رجل الاستخبارات الأمريكية والأكاديمي (برنارد لويس، 1916- 2018)  مبدأ احتواء إيران وتركيّا احتواءً مزدوجاً لضرب سوريا لخدمة الكيان الصهيوني حيث أصبحت تركيّا قوة أساسيّة في العداء للمصالح القوميّة العربيّة بدءاً من حلف بغداد سنة 1956 (مندريس) إلى ما تقوم تركيّا الأردجونايّة في سوريا وليبيا وفلسطين. نذكر هنا أن مصر عبد الناصر سنة 1957 كانت أرسلت قواتٍ إلى الحدود السورية التركية لردّ أي عدوان تركي مُحتمل. وما محاولة الوحدة بين القطريّن (1958- 1961) إلّا محاولة في تدارك الخطر التركي- الصهيوني. ولا يزال مِلّفَّا كل من الأحواز والإسكندرونة مفتوحَيّن ولا سبيل لحلّهما حلّاً إيجابيّاً إلا بتفعيل عناصر وحدة شعوب وأمم المنطقة لتجاوزهما ومقاومة العدو الكلاسيكي- المعاصر.

يندرج اقتطاع لبنان سنة 1920 بإقدام الاستعمار الفرنسي على اقتطاع 225 كيلومتراً بعرض 45 كيلومترا من ساحل بلاد الشام وحوّله إلى لبنان الحالي ضمن الهندسة السكانيّة، حيث هندسه- فخخه بالنزاعات الطائفية والعنصرية الداخليّة والفوقية تجاه سوريا والسوريين وحوّله خنجرا مؤلما في الخاصرة السورية. فنزاعات الطوائف اللبنانية أتعبت ولا تزال الشام كثيراً لأنها تحرك هذا الخنجر في الخاصرة السورية. وهذا ما خطط له أصلاً. هذا ناهيك عن حرمان سوريا من هذه المنطقة الساحليّة الاستراتيجية التي تكشفّت خطورتها باستجلاب الإرهابيين وعتادهم عبر هذه السواحل وإدخالها إلى سوريا في مأساتها الحاليّة.

بعد انفجار ميناء بيروت في الرابع من شهر آب 2020 تم تسليم صواعق تفجير هذه المخططات بأيدي كل من، القاتل المُدان الذي فجر كنيسة سيّدة النجاة المارونيّة سنة 1994، سمير جعجع، وعدم الضمير بطرك الموارنة الراعي الذي قدم أوراق اعتماده لإسرائيل سنة 2014! كذلك جاءت كل من زيارة وزير الخارجية الفرنسي، (جان- إيف لورديان) في نفس الشهر، إلى لبنان وتصريحة عن زوالها إذا لم تسارع القوى السياسية لتشكيل حكومة، ورئيس الجمهورية، ماكرون، بعد عدة أيام من زيارة (لورديان) أن خط الحرب الأهلية يتهدد لبنان إذا (…) إلا دليلاً على اعتبار لبنان كيانا وظيفيّا وليس دولة مستقرة وثابتة. وما سكنه إلا طوائف- مفخخات وحجارة شطرنج.

الكيان الصهيوني والمفخخات الطائفية

يمكن القول إن إنشاء الكيان الصهيوني سنة 1948 وتثبيته بواسطة شرعية فلسطينيّة في اتفاقية أوسلو سنة 1993 يعتبر أهم الفصول والأدوات في الهندسة السكانية للمنطقة، كان ضمن استحقاقات سايكس- بيكو. فالكيان الصهيوني الذي تمكن في عدوانيّة سنتي 1948 و1967 من طرد ملايين الفلسطينيين بقوة السلاح أو منعهم من العودة إلى وطنهم، عمل أيضاً على هندسة الفلسطينيين الذين بقوا فيها بوضعهم في معازل كبيرة وصغيرة: عرب 48 في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة؛ فصل القدس العربية عن محيطها العربي، والضفة الغربية التي يحيطها جدار كبير يحاصر معازل عديدة فيها أكثر من 600 ألف مستعمر يهودي وجيتو قضاء غزّة (…). هذه المعازل قضت على التواصل السكاني بين قضاء غزة والضفة الغربية وعرب 48- من جهة؛ وأضعفت التواصل داخل الضفة الغربية وعرب 48 الأمر الذي يمكن القول إنه شلّ قدرات الشعب الفلسطيني على “الصمود” والتطور- من جهة أخرى. كذلك قام الكيان باستجلاب ملايين اليهود من أركان الكون الأربعة، منهم أكثر من نصف مليون من العالم العربي وأسكنهم بدل عرب فلسطين. كما توّج الكيان هندسته بقانون القومية لسنة 2018 الذي يعتبر أن عرب فلسطين وشرق الأردن سكاناً وليسوا مواطنين/ (جوييم) في “أرض إسرائيل” التي تمتد من البحر المتوسط حتى أنبار العراق وهي “وطن الشعب اليهودي” دون غيرهم من الذين يعيشون فيها.  ويمكن إدراج سياسته الأخيرة في مشروع ضم الضفة الغربيّة لأنه سيعيد هندسة فلسطينيي الضفة الغربيّة في معازل جديدة لتزيدهم ضعفاً على ضعف. يمكن القول أن أبلغ حالة من عنف هذه القانون الصورة التي جمعت (نتنياهو) من بعض مشايخ الموحدين الدروز وضبّاط الجيش منهم يستعطفونه ليستثنيهم من القانون إلا أنه رفض ولسان حاله يقول: أشهد بالله أن أولادكم جنود مطيعون.. لكننا للأسف لا نصاهركم! وانضم مؤخراً إلى مشروع تفكيك فلسطينيي عرب 48 وهندسة نُخبه مجدداً نظام آل سعود عندما أعلن في شهر أيار من العام الفائت 2019 أنه على استعداد لاستقبال قوى عاملة ومستثمرين منهم. بعد أيّام نفى النظام هذا التصريح وهذا الموقف. لكن لو اكتفينا بالتصريح والنفي فقط، دون خطوات عمليّة، لاكتشفنا كيف يتخذ مشروع الهندسة السكانية ألف أداة وأداة.

مع بدء الطفرة النفطية في الخليج في سبعينات القرن الماضي أقدمت (الأونروا) على إقامة كليّات تقنية في فلسطين والأقطار المحيطة: الأردن وسوريا ولبنان ومصر لتأهيل أبناء الشبيبة للعمل كفنيّين “وسهلّت” انتقالهم للعمل في الخليج العربي. لذا يمكن إدراج هذا المشروع في إعادة هندسة القوى الفلسطينية الشابة، وبدل التحوّل إلى مناضلين في الأقطار المتاخمة لفلسطين، تم تحويلهم إلى فنيين وإبعادهم عن حدود فلسطين، حدود التماس مع “إسرائيل”. فيما بعد تمّ استخدام هؤلاء العمّال وعوائلهم أدوات للضغط على الأقطار التي أُخرجوا منها وما طرد فلسطينيي الكويت سنة 1991 وآلاف العمال المصريين والسوريين واللبنانيين أثناء الأزمات المختلفة إلا تأكيداً على دور وخطورة هذه الهندسة.

وفقاً لإحصائيات باتت مقبولة على النخب الفلسطينية يبلغ عدد الفلسطينيين اليوم 13.5 مليون يعيش منهم 8 ملايين في الشتات والمهاجر والبقية في معازل وجيتوات في الوطن.

يُضاف إلى طرد الفلسطينيين من وطنهم وإعادة هندسة بعضهم داخله، طرد أكثر من 100 ألف سوري من الجولان عندما احتل سنة 1967. فبعد احتلاله بسنة واحدة، سنة 1968، حاول الكيان إقامة إقليم درزي باقتطاع المناطق التي يسكنونها في كل من سوريا ولبنان. إلا أن حساباته كانت خاطئة بالمطلق عندما اختار لهذه المهمة الشيخ كمال كنج أبو صالح من مجدل شمس وعضو مجلس الشعب السوري وعميد الدفاع في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كشف الخطة أمام القيادتين السورية والمصرية فأفشلوا المشروع (…). (من يريد قراءة قصة هذه المحاولة يمكنه العودة إلى كتاب  قصة الدولتين المارونية والدرزية لمؤلفه محمد خالد قطمة، 1985). ومحاولة إقامة كيان درزيّ والذي بدأت إرهاصاته في بداية ثلاثينيات القرن الماضي والتي لم تهدأ في هذه المنطقة وعادت مرة أخرى سنة 2011 عندما أختيرت درعا محطة أولى للعدوان وتفكيك القطرالسوري. لتأكيد وجهة النظر التي تقول إن ما حدث في سوريا كان مدبرّاً سلفا يمكننا العودة إلى التقرير المُعنون “سيناريوهات الأردن 2020- السيناريو التصوري”، الصادر عن المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، الجمعية العلمية الملكية [الأردنيّة] سنة 2003 وفيه يرى معدوه أن ضرب سوريا ” بدأ بالتحول نحو التعدديّة الحزبيّة وتداول السلطة وكسر احتكار حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في سوريا أولاً سنة 2008، نتيجة الضغوط الشعبيّة الدوليّة الرامية إلى كسر احتكار الحزب الواحد للسلطة وبلغت الضغوط الشعبيّة أوجها بقيام مظاهرات في بعض المدن السورية بصورة متقطعة سنة 2007. وتلتها ضغوط أمريكيّة وأوروبيّة اقتصادية وسياسية في الاتجاه نفسه وكلّف الرئيس الأسد أحد القادة البعثيين الليبراليين بتأليف حكومة تمثل البعث والقوى السياسية الأخرى في البلاد، ومهدت لإجراء انتخابات نيابيّة عامة دون تدخل من السلطة حصل فيها حزب البعث على 40% من مقاعد مجلس الشعب السوري. وبذلك دخلت سوريا مرحلة جديدة من عهد جديد من الحياة السياسية” (ص 188). وعندما فشلوا في الضغط على الدولة والنظام جهزوا 17 ألف مسلح سوري في درعا قبل بدء عدوان 2011 الذي بدأ في درعا تحديداً- هذا ما كشفه ضابط المخابرات الأمريكية (إدوارد سنودن) سنة 2018 والذي يعيش حاليّا في روسيا. فقد وجد (سنودن) ملفاً بهذا الشأن في وثائق (ويكليكس) تعود إلى سنة 2011. أما الأردن فقد تم إنشاؤه كدولة عازلة تمنع أي اشتباك مباشر معها من قبل قوى قادمة من الشرق والجنوب والشمال الشرقي. كذلك عبر إعادة توزيع سكاني جديد حيث يجري حاليّاً تحويل مخيّم الزعتري إلى مدينة تربط بين أربد والمفرق.

كما أشرت سابقاً كانت عملية اقتطاع الكيان اللبناني سنة 19206 وهندسته على شكل مربعات ومثلثات طائفية 1920 جاءت لإضعاف سوريا وتحويل لبنان إلى خنجرٍ في خاصرتها تعمل القوى المعادية لها على تحريكه على مدار الساعة. والكيان الصهيوني الذي ورث الانتداب لا يزال يعتقد- وفقاً لأخبار صحفية على الأقل- بضرورة إقامة كيان مارونيّ يكون جزءاً من مجاله الحيوي ضدّ سوريا والمنطقة. إلا أن جميع محاولاته السريّة والمعلنة منذ اجنياح الليطاني سنة 1978 باءت بالفشل (…). ويمكن القول إن تفجير المفخخات الطائفية سنة 1975 على شكل حرب أهليّة دامت عقدًا ونصف العقد، كانت الأخطر في سلسلة الانفجارات الممتدة في تاريخ رقعة هذه الطوائف. ما يهمنا هنا ثلاث نتائج: الأولى- نجحت الهندسية السكانية للبنان إلى إضعافه وإضعاف سوريا بتدخل الجيش السوري سنة 1976 (…)؛ الثانية- اتخذت مفخخات الطوائف اللبنانية موقعها في المشروع التدميري ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان والدولة السورية؛ الثالثة- يتناقل اللبنانيون أن عدد اللاجئين الذين هاجروا من لبنان من بداية القرن العشرين إلى اليوم حوالي 11 مليوناً بينما بقي فيه 4 ملايين فقط، أي كان من الفروض أن يكون عدد سكان لبنان 15 مليوناً وليس أربعة فقط. في كتابها عدوّ عدوّي: العلاقات اللبنانية الصهيونيّة 1900- 1948 تتحدث مؤلفته Laura Zittrain Eisenberg  عن اهتمام الحركة الصهيونية المبكّر في مجاميع الطوائف اللبنانية لاستمالتها في تثبيت مشروعها في فلسطين وتعزيز عدوانها ضدّ الأمة العربية. والكثير من فصول هذه الاستراتيجية باتت معروفة للقاصي والداني منذ عدوان الليطاني سنة 1978 مروراً باحتلال جنوبه سنة 1982 إلى يومنا الراهن. أما فرقة (بن جوريون) الموسيقيّة فلن تعزف أبداً لأنها في أحسن الأحوال ستبقى واقفة على “إجر ونصّ”.

في شهر كانون الأول من سنة 2019 انفجر في لبنان حراك مطلبيّ سرعان ما استدخلت إليه قوىً تعمل على تجييره ضدّ مصالح اللبنانيين والمقاومة. كما ضمته أمريكا إلى قانون قيصر الموجه ضد سوريا وفرضت عليه العقوبات خدمة لمصالح إسرائيل كما صرح (بومبيو) وزير الخارجية الأمريكي. في المحصلة المستمرة يتسارع هبوط العملة المحلية وتهريب الدولارات إلى الخارج وبات الجوع يهدد غالبية اللبنانيين. لذا وبدل أن تقاوم القيادة اللبنانية هذا الحصار توجهت إلى صندوق النقد الدولي للحصول على قروض علّها تطفئ بعض لهيب هذه الأزمة التي علّق وزير المالية اليونانية الأسبق، (يانيس فاروفاكيس)، الذي خاض مفاوضات بلاده مع صندوق النقد الدولي الذي هدد أركان حكومة اليونان حينها بقبول شروط النقد الدولي أو تنفيذ انقلاب عسكري سيكون أشرس من انقلاب (1967- 1974) بالقول: إن “برنامج لبنان مع صندوق النقد سينتهي بكارثة” و”سيُهاجر معظم الشباب اللبناني، وخاصة الأكثر تعلّماً” (ليّا القزي، الإثنين 29 حزيران 2020، الأخبار اللبنانية). وفي الرابع من شهر آب 2020 بعد يوم من انفجار ميناء بيروت حذر الوزير اللبناني السابق ورجل الأعمال الحالي، فادي عبود، على تلفزيون المنار، قائلاً إذا لم تسارع الدولة اللبنانيّة بإعادة بناء الميناء بسرعة وتحويل الاقتصاد اللبناني إلى منتج سيهاجر نصف الشعب اللبناني.

في سياق المأساة السوريّة تم دفع وتسهيل دخول حوالي مليون ونصف سوري إلى لبنان لتغيير التوزيع السكاني وتحويلهم إلى عبء على الدولة وضرب المقاومة اللبنانية.

العراق والشام (1990- 2020)

في القرن الحالي، الحادي والعشرين، واصلت هذه القوى مشاريع التفكيك التي بدأتها في القرن الماضي باحتلال العراق سنة 2003 وتفكيكه إلى ثلاثة كيانات: شيعية وسنيّة وكرديّة، ومعازل عرقية وطائفية ومذهبية قاتلة. كما عمدت على تجريف القيادة والنخب البعثيّة والكتلة السكانية المدينية التي تسهم في إقامة وإعادة إنتاج الدولة والمجتمع وتهجيرها بواسطة المفخخات والاحتراب الطائفي والمذهبيّ منذ سنة 2006. وكانت آخر محاولة في زيادة تشريع هذه الهندسة الاستفتاء الفاشل المدعوم من “إسرائيل” وحدها الذي قام به الأكراد في منطقة كردستان سنة 2017. وفي سنة 2014 قامت أمريكا بإنشاء عصابة داعش الإجراميّة التي أقدمت على تجريف إثنيات وطوائف دينية أصلية في العراق فقتلت وهجرت غالبيتهم إلى الخارج. هكذا تم إلحاق الأذى في العراق وتخسيره أهم ميزة له في الكون: لوحة الفيسفساء السكانية المكونة من عشرات العرقيات والأقوام والإثنيات والطوائف وما تختزنه من تاريخ لها وللعالم.

بعد ذلك بدأت عملية تفكيك سوريا سنة 2011 بدعوة الناس للهجرة وتجهيز أماكن لجوء في دول الجوار وفي أوروبا. فقامت بتجريف قوى الإنتاج في الأرياف وحلب (…). وتمنعهم اليوم من العودة إلى وطنهم كما يحدث لهم في لبنان. وتم تهجير حوالي 7 ملايين من الشعب السوري، أي ما يعادل نصف عدد الشعب السوري. هذا ناهيك عن المهاجرين الداخليين ومئات آلاف القتلى والجرحى من السوريين. ولا يزال النزيف السكاني مستمراً. وخسارة سوريا الحضارية والثقافية شبيهة بخسارة العراق. يمكن فهم الأحداث التدميرية التي لا تزال تعصف في المنطقة من خلال خُطّتيّْن اثنتين وردتا في تقريرين هامين؛ الأولى- الوثيقة التي أوردتها مجلة “كِفونيم” الإسرائيلية بتاريخ 13 حزيران 1982، والثاني- خارطة الدم التي أصدرها الببنتاجون سنة 2004. الوثيقتان تدعوان إلى إعادة تقسيم المنطقة على أيّ أساس من شأنه أن يضعفها ويبقيها تابعة لأمريكا (وإسرائيل). تضمن الوثيقتان/ المشروعات تفتيت المنطقة الواقعة بين النيل والفرات في المفهوم اليهودي وإبقاء “إسرائيل” واليهود موحدين دون غيرهم من السكّان/ الجوييم.

بريجنسكي وإرهاق أوروبا باللاجئين

عند العودة إلى فهم أسباب تسيير قافلات ومهرجانات اللاجئين إلى أوروبا وألمانيا تحديداً علينا العودة إلى ما قاله بريجنسكي (1928- 2017)، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر (1977 -1981) والذي يعتبر من كبار منظري السياسة الخارجية الأمريكية (إلى جانب هنري كيسنجر)، نستحضر ما يلي:

اعتبر (بريجنسكي) اللاجئين موضوعاً للتأجيج في الصراعات الدوليّة وقوله أن أمريكا هي التي تُوّزِّع الصراعات وتديرها ولن تحلّها. يرد هذا في كتابه الهام رقعة الشطرنج (1986). وبعد سنة واحدة، 1987 ، قال بضرورة إرهاق أوروبا بدفع قوافل اللاجئين إليها كيّ لا تنفك تبعيّتها لأمريكا. وقد خصّ ألمانيا بالقول: “إن ألمانيا الصاعدة هي التي تستحق المراقبة والمتابعة بشأن طموحها وتطلعاتها، وليست الصين التي ينحصر همها في تحسين أوضاعها الاقتصادية” (تغيّر موقفه هذا فيما بعد). فمن هنا نفهم أن المهاجرين السوريين كانوا ضمن هذا الموضوع وأن القوافل والمهرجانات المُتلفزة ومخيّمات الاستقبال تمّ إعدادها سلفاً. هذا لا ينفي وجود مصلحة لألمانيا باستجلاب عمّال وكوادر علميّة أخرى لأنها باتت تشيخ سكانيّا وليس بمقدورها الاستمرار بالريادة الأوروبية والعالمية. وعلينا أن نذكر أن مواطني ألمانيا وتاريخها ليسا ودوديّن تجاه من هم ليسوا من العرق الآري والغرباء. في حزيران الفائت، 2019 أقدمت وزارة الأمن الداخلي على تفكيك وحدة من الشرطة لأنها كانت تعجّ بالنازيين الجدد “عنصرية كامنة أيضا لدى الشرطة الألمانية” كما صرحت ساسكيا إيكسن زعيمة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. بكلمات أخرى: إن إعادة هندسة بلاد الشام العراق سكانيّاً بتجريف مواطنيهما ونخبها وقوى إعادة إنتاجها كان وسيظلّ مطلباً من أجل إضعاف المنطقة في مواجهة “إسرائيل” وأعدائها الخارجيين والداخليّين.

نجمل: لا حياة لبلاد الشام إلا بوحدتها. ولا سبيل لتطورها إلا بوحدتها مع مصر المستقلّة عن التبعيّة.

أختم بما يلي: طالما أن سوريا لا تزال وستبقى مُستهدفة من الأعداء إلى أن تنتصر أرى ضرورة منح جنسيّتها لأهالي كل بلاد الشام ومن ينحدر منها في القرن الأخير، لتكون دلالة رمزية على ضرورة استعادة وحدتها الجغرافية والسكانيّة.

  • أحمد أشقر- باحث في الديانات المقارنة، ومترجم عربي – عبري. نشر العديد من المقالات (بالعربية والعبرية والإنجليزية) والكتب. له سبعة كتب وهي: التدمير الذاتي- الناصرة نموذجاً (جذور الصراع وخفاياه في ساحة شهاب الدين، 2000؛ التوراتيات في شعر محمود درويش: من المقاومة إلى التسوية، 2005؛ مكانة النساء في العقائد اليهمسلامية: من المسؤولية عن الخطيئة الأولى إلى التبرئة، 2011؛ وقصة لوط التناخي وديناميكية العداء للآخرين (…)، 2011؛ من التهجير إلى الإبادة: الصهيونية الفقه المعاصر لليهودية، 2018؛ تحقيق الرسالة اليمنية لموسى اب ميمون، 2018 والصراع على الهوية: ثلاثية؛ المرأة والجنس والـgoy، 2018. 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا