المنظمات غير الحکومية إديولوجية “دعاة نهاية الإديولوجية” / مَنال حَبّاشِي

مَنال حَبّاشِي ( تونس ) – الجمعة 9/10/2020 م …

دأب العالم الغربي على التعامل مع العالم غير الأوروبي و الأمريكي بوصفه يمثل مرحلة مبكرة أو طفولة العالم المتطور و يجب الأخذ بيده نحو بلوغ النضج إي استنساخ عملية التطور الغربيّة علي بقية” الشعوب المتخلفة” عنها .

علي هذا الأساس سعت دول المركز لإنشاء أداة للعب هذه المهمة. فبلورت في مرحلة مبكرة  حركات التبشير بشكل واسع ،وقد ميز المؤرخون بين مفهومين: التبشير و التنصير. يكون الأول بين الوثنيين  والثاني بين المسلمين ،وقد بررت هذه الحركات دوافعها بدوافع دينية و إنسانية .و تتمثل الدوافع الدينية أساسا في تفوق الديانة المسيحية علي الديانات الأخري و أن النظرة المسيحية للعالم متفوقة علي كل النظرات الاخري ،و بالتالي صبغ أهل هذه الدول بلون الحضارة ، و” إنسانية” كنشر التعليم و إنشاء المدارس. وكانت مهمة الأساتذة تعبيد الطريق ليتقبل المواطن الأصلي ثقافة غريبة عنه بتصوير الحضارة الأصلية بأنها متخلفة و العلوم والآداب المستوردة متفوقة عليها و بالتالي خلق نوع من الشعور بالنقص الذي يؤدي إلي الخضوع للحضارة الأرقى .إن الأساتذة أو لنقل المبشرين الأكثر إنسانية اعتبروا المواطنين دونهم مكانة كما كانت نظرة المستعمرين إليهم و إن مهمة إخراجهم من الظلمات إلي النور مهمة إنسانية ، كما تم بناء المستشفيات لعلاج المواطنين الأصليين من أمراض منتشرة و كان بعض الأطباء  جزءا عضويا من هذه الحركات ذات الإديولوجية الاستعمارية فمشاعره الإنسانية يفقدها و يظل المريض” ٱخر ” بالكامل .




اجتماعيا، استفاد من هذه المؤسسات التربوية و المستشفيات وما إلي ذالك أبناء العائلات البارزة الميسورة  وقد أدي هذا إلي نشوء تقسيم فئوي جديد النخبة /الجمهور . و لم تكن كل هذه الوسائل إلا أدوات للاستعمار الثقافي الذي تنهض فيه ثقافة المستعمِر طامسة ثقافة المستعمَر .    

 أما الدوافع غير المعلن عنها فكانت سياسية واقتصادية واستطلاعية.  فعندما قادت أوروبا  الدوافع الاستعمارية، عملت هذه الجمعيات جنبا إلي جنب مع القوة العسكرية لمعرفتها الواسعة بالمجال الجغرافي و امتلاك التفاصيل عن السكان الاصليين ̖ كما اعتمدت حكومات الدول الاستعمارية علي الطبقة المتخرجة من تلك المؤسسات التعليمية   لدعم الاستعمار الأجنبي ضد شعوبهم  .

لقد شهد الجنوب التّونسي مثلا قبل و بعد احتلال فرنسا لتونس تدفّق الجغرافيّين والعلماء والعسكريّين و اختفى بعضهم تحت غطاء الرحالة. و نتج عن هذا التّدفّق نشر عديد من المؤلفات حول الجنوب و قبائله و عاداتها . فمن مجموع مائة عنوان كتبت حول الجنوب نشر الثّلث قبل 1914.و أنجزت العديد من الدّراسات والمذكّرات التي اهتمّت بالتّاريخ وعلم الاجتماع والهيدروغرافيا والاقتصاد ساعدت القيادة العسكرية الفرنسية أثناء غزو الجنوب التونسي.

ثم برزت المؤسسات الخيرية التي أسسها الرأسماليون في المناطق الصناعية و المناجم بهدف السيطرة علي العمال و الفقراء.  فبعد الحرب العالمية الثانية، شكل الشيوعيون الخطر الأول علي الحكومات في أمريكا  و العالم الغربي فنشأت الحاجة إلي نوع جديد من المؤسسات لمواجهة هذا الخطر. و قد تسترت هذه الحكومات بالعمل حسب زعمهم علي نشر الخير للجميع و نشر حقوق الإنسان لكن هدفهم كان درء خطر الشيوعية. و قد ساندت المنظمات غير الحكومية مثلا “تشارسكي ” في بولندا كما مولت هذه المنظمات خليفة الحركات التبشيرية صانعي الأفلام ،الفنانين ،الكتاب و قدمت المنح بسخاء للطلبة  ومولت الثورات المضادة التي أسبغوها بألوان من الأزرق إلي البرتقالي .و نجحت هذه الثورات المضادة في عديد دول أوروبا الشرقية لكنها فشلت في كوبا و بوليفيا .

لقد تزامنت هذه المرحلة مع حركات التحرر الوطني في الوطن العربي و حصول بعض الأقطار علي استقلالها فسارعت دول المركز لتركيز مثل هذه المنظمات و كانت تونس أول بلد عربي يستقبل ” فرق السلام “الأمريكية سنة 1962 التي أسسها جون كينيدي سنة 1961 .و قد تواصل عملها طيلة 34 سنة قدم خلالها 2382 أمريكيا لتونس و عادت لنشاطها سنة 2012 بموافقة رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي بعد زيارة رسمية من مديرها أرون وليامس.و تتحرك “فرق السلام” تحت غطاء أنشطة مثل تعليم اللغة الأنڨليزية في المعاهد و الجامعات ،و تنمية مهارات الشباب لتعزيز سوق الشغل الرأسمالي بالتأكيد .

كانت بداية تاريخ إحلال المنظمات غير الحكومية محل الجمعيات التبشيرية في أوائل القرن العشرين إذ برزت عشرات الآلاف من المنظمات غير الحكومية العاملة في كل أنحاء العالم في كامل مجالات الحياة تبشر بالديمقراطية و المساواة و الحوكمة الرشيدة .

لتفادي كل خلط علينا ان نميز  أولا بين المنظمات غير الحكومية من جهة و المنظمات الجماهرية كالأحزاب و النقابات و اتحادات المرأة و الجمعيات من جهة أخرى حيث أن الأولي  أتت بمثابة أداة جديدة للعولمة التي  اعلي مراحل الرأسمالية  وسيطرتها علي العالم الثالث ، ترافقت مع أزمة المديونية، يكون تمويلها بالاساس اجنبي وارتباطات اجنبية ، إما الثانية فقد نشأت من رحم المجتمع لها تنظيم محلي أقيمت علي أساس طوعي و تمول نفسها عن طريق الاشتراكات و أهدافها نضالية وطنية و قومية لا علاقة لها بالتمويلات الأجنبية حين تكون لها قيادات وطنية.

هذه المنظمات بدأت تري النور بشكلها الحديث زمن ريغان- تاتشر و صعود الإديولوجية النيوليبرالية. فتحولت الأموال التي كانت موجهة لمجابهة الشيوعية  للسيطرة علي الغضب الشعبي حيث ولجت هذه المؤسسات إلى نسيج المجتمعات التي اكتوت بلهيب الرأسمالية المتوحشة لتخفي ذالك الوجه القبيح للمركز . و زاد تكاثر هذه المنظمات الممولة من الحكومة الأمريكية و امتداد لها ولسياستها في الدول النامية/ أوروبا الشرقية.

و كان دورها غرس ثقافة التبعية و ترسيخ الرأسمالية و بالتالي الهيمنة و طمس الأضرار التي لحقت بطبقات الشعبية اثر النيولبرالية و الخصخصة و الإصلاحات المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي و التنظير لبناء أسس جديدة كبديل للحكومات المحلية المستبدة.

و اصطبغت بسعي متواصل لتجنب التطرق إلي الامبريالية والاحتلال و الاستغلال و  إفراغ كل حراك من محتواه الطبقي و تجريم العنف الثوري فهذه المنظمات معارضة وفق قوانينها الداخلية لآي عنف في السياسة حتى و لو كان عنف يمارس ضد الاحتلال.

لقد تمّ ربط السكان المحليين عن طريق هذه المنظمات  بمنظومة الاستغلال و الحلول دون انخراطهم في الأحزاب و النقابات بحجة أن زمن الأحزاب و الإديولوجيات قد ولي مع الحيلولة لإلغاء مفاهيم مثل إعادة توزيع الثروة .

تشجع دول المركز و تمول المنظمات غير الحكومية في البلدان الفقيرة لعرقلة أي تطور للعمل النقابي و الحزبي الذي يدافع عن الطبقات العاملة و الفقيرة فما المنظمات غير الحكومية إلا أدوات لخدمة مصالح الامبريالية و الدليل ذلك إن دول المركز و صندوق النقد الدولي تعاملها بسخاء كبير فهي منظمات لا تهدد مصالحها نظرا لطبيعتها المشتتة و المبعثرة في العالم و عدد المنخرطين في كل منظمة محدود بالمقارنة مع الأحزاب و النقابات ذات الأعداد الهائلة من المنخرطين و التجمعات العمالية. فهم ليسو حزبا و لا طبقة و لا نقابة أما الحزب هو قوة تنظيم اجتماعية و سياسية يمثل طبقة معينة أو مجموعة طبقات يتبني و يعلن برنامجه الذي يعبر عن مصلحة هذه الطبقات و مصالح الشعب بأسره. و تسعى هذه المنظمات لطمس كل عمل حزبي أو نقابي خاصة في الأوساط الشبابية فهي بالضرورة تتمتع بطاقات ثورية كبيرة مناهضة و معادية للاستعمار و الامبريالية و معقل لانتشار الأفكار الثورية اليسارية. و تنشط هذه الجمعيات غير الحكومية لإحلال  إديولجيتها و مبادئها مثل الفردانية و السعي للخلاص الفردي دون إبداء أي اهتمام لبقية الشعب و التنكر للطبقة التي انحدروا منها و بالتالي الأمة .و تروج هذه المنظمات لأفكار مثل نهاية الإديولوجية و نهاية دور الحزب و النقابة لأنها قوى تتمتع بزخم شعبي و تاريخيا وقفت أمام الامبريالية و هددت مصالحها مقابل تشجيع العمل الجمعياتي و الحقوقي علي حساب النضال السياسي و الطبقي.

وتتعامل  هذه المنظمات مع ” فئة ” تتكون من باحثين و مناضلين  سابقين ونقابيين تمت رشوتهم عن طريق الندوات و السفرات و المنح  سعت الامبريالية إلي تحويلهم  إلي نشطاء بأجر وتحول بالتالي المناضل إلى ناشط.  كما ورثت هذه الفئة امتيازات المبشرين سواء كانت شخصية كالارتقاء في السلم الاجتماعي  او مادية ، مهمتهم الأولي غرس الثقافة الليبرالية و الديمقراطية السياسية و نشر التطبيع مع الكيان الصهيوني و التنظير لنمط مجتمعي معين يتماهى مع الرأسمالية

تنشط  في تونس حاليا 23599 جمعية في جميع مجالات الحياة ̖.و  تعاظم نشاط الجمعيات الألمانية بعد 2011 تحت عنوان مثل  ” دعم الديمقراطية الفتية في تونس ” و إصلاح السياسات التشريعات تنمية القدرات ،التحول الديمقراطي وخلق المناخ السياسي و الثقافي الداعم للديمقراطية و حقوق الإنسان .و مولت الحكومة الألمانية مشاريع  تقترحها وتنفذها جمعيات تونسية وذلك في إطار صناديق الدعم المباشر التي تضعها السفارة لفائدة المجتمع المدني التونسي وهي صناديق “التنمية للجميع” و”الثقافة للجميع” و”الديمقراطية للجميع” حيث مولت أكثر من 74 مشروعًا و74 جمعية تمتعت بحوالي 950 ألف يورو بين عامي 2016 و 2019 كجزء من تمويلات صندوقي الثقافة للجميع والديمقراطية للجميع وشملت المشاريع المنفذة 22 ولاية و132 بلدية .

كما تضطلع هذه الفئة بدور ٱخر يتمثل في تخزين المعلومات و المعطيات حول شعوبها “المخبر المحلي “بتركيز مراكز دراسات في الوطن العربي و  تزود بها دول المركز. فلم تعد الامبريالية بحاجة لإرسال مبشرين ليلعبوا هذا الدور التجسسي . و يكون عمل هذه الجمعيات تحت غطاء إنساني لتتمكن من الولوج إلي أماكن تخضع للحروب و المجاعات يستعصى الوصول إليها في شكل “منظمات طبية”و “منظمات إغاثة” تتكون أساسا من السكان الدولة المستهدفة المحليين .. فتحت هذا الغطاء الإنساني تقتحم دول تحت الاحتلال ” فلسطين ،العراق ، لبنان ،السودان،نيجيريا باختصار في كل مكان محتل أو تدور فيه حروب بالوكالة .

بقي أن نشير إلي أن هذه المنظمات لا تمتلك استقلالية القرار. فهي تأتمر بأوامر المركز الامبريالي و أمام الانبهار الناتج عن كل ما يأتينا من المركز و الحوافز المادية تستقطبهم تلك المنظمات  للعمل ضد مصالح مجتمعاتهم أو طبقتهم التي انحدروا منها . و لا يشارك الناشطون صلب هذه المنظمات  و لا الدول المستقبلة في البرامج المقترحة و لا طريقة الإنجاز بل تقتصر مهمتهم أساسا على تنفيذ المشاريع المعدة سلفا مستغلة قدراتهم و مهاراتهم .

إن الممولين لهذه للمنظمات امتداد للأنظمة الاستعمارية التي نهبت ثرواتنا ونصبوا وكلائهم حكاما مؤسسين بذالك لاستعمار جديد.
إنّ المندفعين للنشاط صلب هذه المنظمات لم يتسرب إلي أذهانهم التساؤل التالي ولو مرة واحدة: هل من مصلحة الامبريالية تركيز هذه القيم في مجتمعاتنا ؟ و ما هو سبب سخاء هؤلاء “الطيبين” الذين يتوافدون علي مجتمعاتنا لمساعدتنا علي تحمل الفقر والاحتلال ؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا