الحرب و الصّراع و المساومات على “الحقائق” بين طمس “الوقائع” و تزويرها السّياسيّ التّاريخيّ (2/2) / د. بهجت سليمان

  د . بهجت سليمان* ( سورية ) – الخميس 8/10/2020 م …

* السفير السوري السابق في الأردن …




11▪ بتركيز بسيط على مجريات الحرب يمكن لأيّ مراقب أن يلاحظ تفاصيل استراتيجيّة هذه الحرب المعلنة على سورية ، و أدواتها الظّرفيّة و أساليبها في تنفيذ الاستراتيجيّة ، بدون عناء طويل أو حاجة إلى المرجعيّات التي تؤكّد هذا الواقع الحقيقيّ .

     و لكي يكون “الهدف” من الحرب مؤكّداً في تدمير البلد و إفشال الدّولة و سحق المجتمع ، كان لا بدّ من ضخّ ثقافة جديدة بمصطلحات “إنسانويّة” تخفي وراءها توجيهاً و توجّهاً إلى استغنام الحسّ العامّ و الشّعور الشّعبيّ ، بواسطة اختلاق تسمية “المناسبة” مع انتفاء “المناسبة” نفسها ، ممّا يجعل التّفكير العامّ يدخل في بلبلة و ارتباك و ارتياب يُسوّغ له فقدان الثّقة بذاته أوّلاً ، ثم ، ثانياً ، بالخطاب السّياسيّ الوطنيّ .

12▪ كان من الواضح أنّ أحد أبعاد الحرب العسكريّة المعاصرة على سورية هو في الحرب على “الحقيقة” ، بوصفها ، هنا ، هي “الواقعة” اليوميّة بكلّ محمولاتها الأيديولوجيّة و التّعبويّة التي دخلت في مواجهة النّقيض . كان على “الحدث” الواحد أن يظهر بمظهرين في الصّراع ، على الأقلّ ..

     واحدٌ منهما يُعبّر عن “الواقعة” الحقيقيّة نفسها ؛ و ثانيهما “يجب” أن يعبّر على تلك “الحقيقة” و قد خضعت لأشكال القسر و التّعنيف و التّشويه و التّزوير لكي تبدو مناقضة لذاتها و موحية بعكس محمولاتها ..

     و هنا كانت أفظع أشكال الحرب على “الحقائق” و إيحاءاتها العاطفيّة التي تستبذل الخرافة التّاريخيّة لتبتذل تطبيقاتها الاجتماعيّة و السّياسيّة الممكنة .

13▪ و كأيّ شكل من أشكال الحروب “العالميّة” كان من المأمول أن تُفضي تحليلات “الثّقافة” لوقائع الحرب إلى إمكانيّات تجهيليّة كبيرة ، تبعاً لتفاعل الشّعور الجماهيريّ العامّ مع “المظاهر” المنقطعة عن أسبابها ، في عمليّة تاريخيّة تشكّل سبقاً خطيراً في حرف الوعي الجمعيّ إلى هلاكه المدمّر و التّدميريّ في العواطف المتحفّزة نتيجة لدخول الحرب في صراع “عصبيّ” و “عنصريّ” يعتمد ، بالدّرجة الأولى ، على الشّعور القطيعيّ الذي يتنامى ، بحكم طبيعة الّلحظة ، في إطار تشويه الإدراك الاجتماعيّ العامّ ، و تشوّه المحصّلات النّاجمة عن هذا الإدراك ، في بوتقة مستحدثة للحقيقة في واقع جرى استبدال الوهم به و جعل من المواقف الجماهيريّة العامّة رهناً بالتّبدّد و الضّلال و الضّياع .

14▪ جرى رهان الحرب على تزوير الحقائق و طمس الوقائع العمليّة انطلاقاً من طبيعة الحروب الإمبراطوريّة المعاصرة التي يستطيع فيها “الفاعلون” خلط الأوراق في تشكيلة “عمليّة” و “واقعيّة” يتداخل فيها الاقتصاد و المجتمع و السّياسة و الثّقافة و التّاريخ .. ، إلخ ؛ مع العواطف و المشاعر المهشّمة و الجريحة في واقع للحرب تمكّن من خلط جميع تلك العناصر في خطاب إعلاميّ و دعائيّ مركّب و معقّد و خطير .

     و بالفعل فقد كاد الأمر أن ينجح في هولِ الصّدمة الأولى للصّراع الذي فقد سمته الحقيقيّ في الأعمال و الأفعال الافتتاحيّة للحرب .

كان الأمر مؤسفاً في بداياته ، و قد استغرقت “الحقيقة” الفعليّة حتّى تظهر بوضوح الكثير من الوقت و الجريمة و التّذابح على مستوى العامّيّات الأولى التي استغرقت البدايات ؛

15▪ و لقد كان لا بدّ من مسافة زمنيّة ملحميّة و مأساويّة تستغرق الأطراف المتصارعة حتّى يستقرّ مشهد الانقسام الحقيقيّ و الواقعيّ الذي نضج بعد سلسلة من التّضحيات المجانيّة الأولى التي استغرقتها أحداث الحرب ..

     و كان لا بدّ من الكثير من الاختلاطات الفرديّة و الجمعيّة و الجماعيّة حتّى يتبيّن الصّراع “الحقيقيّ” في أطرافه المختلفة المحلّيّة و الإقليميّة و الدّوليّة ، و ليُبرز بوضوح طابع هذه الحرب المركّبة الظّلاميّة العاتية .

16▪ لا نقول شيئاً جديداً عندما نؤكّد طبيعة الحروب عبر التّاريخ و أنّ الحرب على “الحقيقة” – و ليس من أجل الحقيقة – هي جزء من الحرب و أساليب الحرب المتعدّدة و أداء الحروب و أدواتها التّنفيذيّة لإنجاز أغراضها و مراحلها نحو أهدافها و غاياتها ، إذ ما من حرب إلّا و لها غايات و أهداف منها ما هو معلن و منها ما هو ضمنيّ يتعلّق بأهداف المنخرطين فيها مع تباين أهدافهم و اختلافها و تناقضها الضّمنيّ أو الصّريح ، في سياق ترسيخ القناعات و إحداث قناعات أخرى تمثُل في أفق المعركة على المعتقدات و المصالح و الصّراع على المغزى الذي يُمثّل العقائد و الأيديولوجيّات المتطاحنة في عمليّات فرض الوقائع و المقاومات التي تتخلّل المواجهات و التّحدّيات ، التي لا تنتهي معها الحرب إلّا بتثبيت بعضها على الأرض و تحطيم بعضها الآخر و جعله من مخلّفات نتائج الصّراع الشّاهدة على الهزيمة أو الانتصار .

17▪ و هكذا يدخل في عداد النّتائج النّهائيّة للصّراعات و الحروب ، أن تنتصر رؤية سياسيّة لطرف من الأطراف على باقي الرّؤى الأخرى التي شكّلت مضامين النّزاع و مفاعيل الطّاقة التي جعلت الحرب ممكنة في الاستمرار كحالة من تحدّي الإرادات و القناعات و التّصوّرات المختلفة ، و في سياقه أن تظهر حقائق جديدة أو أن يجري التّأكيد على حقائق قديمة ، كان كلٌّ منها كافياً لجعل الواقع الأوّليّ قابلاً لتناقضاتها و مواجهاتها في عمليّة من عمليّات إثبات وقائع متغيّرة تمثّل الحقائق التي جرت من أجل انتقائيّتها عمليات الصّراع ، بحيث يؤدّي ذلك إلى القناعة الأخيرة بأنّ المنتصر هو صاحب الحقيقة الأقوى و الأكثر تمثيلاً للواقع الاجتماعيّ و السّياسيّ الموافق لحركة القوى و اتّجاهاتها التّاريخيّة و ميولها الأنضج و الأوضح و الأكثر استحقاقاً ، لفرضها على دونها من سائر الأخريات من القوى و القناعات و الإيمانات و المعتقدات .

18▪ أخيراً ، و هو الأهمّ ؛ و في إطار تبادل طمس الحقائق و المساهمة الذّاتيّة في الّلعبة السّياسيّة و التّصرّف الاختياريّ في التّخلّي عن “الحقائق” و العبث بِ”الوقائع” و إبراز عكسها أو تمويهها خدمة لأغراض و أهداف مرحليّة و قاصرة عن فرز الخلائط الأيديولوجيّة و المصالح التّاريخيّة المتمايزة ..

     يجب أن نقول إنّ “التّسويات” العقائديّة و السّياسيّة و الاجتماعيّة ما بين “الوقائع” و “الحقائق” المتناقضة ، و التي جرى الصّراع من أجل إزاحة بعضها و تثبيت بعضها الآخر ، إنّما تُعدّ جزءاً من التّراجعات المتبادلة و التّواطؤات الضّمنيّة و العلنيّة و التّواضعات الظّرفيّة الكاذبة في مجريات الصّراعات التّاريخيّة على “الحقيقة” ( أو “الحقائق”) ، و جزءاً من التّردّدات التّاريخيّة التي تمثّل تراجعاً مشتركاً ، و في وقت واحد ، للتّناقضات ، بما في ذلك تأجيل الحسم التّاريخيّ ، الاجتماعيّ و السّياسيّ ، لمفاعيل نتائج هذه التّناقضات التي ، بطبيعتها ، لا يمكن لها الاجتماع الدّائم ، جنباً إلى جنب ، و المصالحات الاستراتيجيّة .

19▪ و هو ما يعني ، بالتّحديد ، قبول جميع الأطراف بالمساومات التّاريخيّة التي لا بدّ لها من العجز ، أخيراً ، في التّوافقات السّياسيّة المؤقّتة ، و هذا يُحيلنا ، بطبيعته ، إلى “تأجيل” التّفوّق الحاسم لحقائق دون أخرى ، و لقناعات مؤقّتة بطبيعتها ، حاملة في رحمها جمر اشتعالها في أوّل مناسبة من مناسبات اختلال موازين القوى التّاريخيّة لصالح طرف من الأطراف ، دون أطراف أخرى ، و هو ما يجعلنا على “موعدٍ” لاحق مع تأجيج “الحرب” من جديد ، في صراعات مقبلة و خطيرة لا يُمكن لها الصّمت الدّائم في التّسويات الظّرفيّة التي شكّلت حلّاً تاريخيّاً ناقصاً و مبتوراً و هشّاً لا يمكن أن يصمد أمام تطوّرات “حقائق” الواقع و “معقوليّاته” التي تشقّ طريقها ، دوماً ، إلى التّبلور النّهائيّ الذي يجعل من استعادة الصّراع أمراً حتميّاً في تفاعل أسبابه المرتبط بتطوّرات تاريخيّة ، لا يمكن للتّاريخ ان يسكت عنها في مرحلة من مراحل دوافعه التي لا يمكن لها ان تبقى طيّ التّواطؤ و الصّمت و التّنازلات المتبادلة عن آليّات التّغيّر و التّغيير الموضوعيّة ، و التي لا تستأذن الرّغبات عندما يحين أوانها عند نضوج حاملها الاجتماعيّ و السّياسيّ ، أو عند العكس ، و أعني عندما يتسنّى لطرف من الأطراف أن يُشوّه ، نهائيّاً ، حوامل الصّراعات في عمليّة من عمليّات التّزوير المأساويّة للتّاريخ .

20▪ و هذا هو الجانب الأخطر في تمييع الحدود ما بين التّناقضات النّاضجة ، و طمس الحقائق و تزوير آليّات و جبهات الصّراع ، و التّضحيّة بالّلحظة المناسبة للفرز التّاريخيّ النّهائيّ في “المواقف” المتناقضة و المتناحرة تاريخيّاً ، و تقديمها في إخراج اجتماعيّ – سياسيّ جديد يوحي بالمصالحة التّاريخيّة ما بين المتنافرات الاستقطابيّة ، و هو ما يُعتبر أشدّ خطراً من الحرب على “الحقائق” و التّنازع على “الوقائع” ، و الذي يؤدّي في خاتمة الصّراع الصّميميّ إلى إظهار هذا الصّراع على أنّه صراع ظرفيّ و موسميّ في الوقت الذي يؤسّس فيه هذا الأسلوب من المساومات إلى إعادة تحضير و إنتاج لجذور و أسباب الصّراعات التّاريخيّة التي ستظهر في حينٍ لا يعود من الممكن تسويتها تسوية “عاطفيّة” فيما تنذر بأشدّ أشكال احتدام الصّراع دمويّة و إجراماً ، لا يُخفّف منها جميع الحلول الودّيّة المؤجّلة لانفجارها انفجاراً شاملاً لا يمكن التّكهّن بحدوده و أدواته و أساليبه و دوافعه ، التي تكون قد تكيّفت مع حاجاته القصوى لإنجاز الفاجعة التّاريخيّة التي ليس لأحد عليها سيطرة أو إمكانيّة ما للتّحكّم بها أو حرفها عن طريق الجريمة الكاملة المؤدّية إلى انتحار واسع وعميق .

قد يعجبك ايضا