نظرية الظروف الطارئة … (مفهوم ، تاريخ، وجهة نظر) / سفيان توفيق بني عامر

سفيان توفيق بني عامر ( الأردن ) – الأحد 27/9/2020 م …




 [email protected]

شكلت تداعيات ظهور نظرية الظروف الطارئة ضجة قانونية كبيرة ، خاصة في بدايات ظهورها ، وما اعقبها من فترات تداعي ونقاش حول الأخذ بها من عدمه، وآليات ذلك وأثره على أطراف الإلتزام وعلى غيرها من القواعد القانونية الأخرى .

مفهوم النظرية :

ظهرت عدة تعريفات لنظرية الظروف الطارئة منذ تردد صدى القول بها، ومما ظهر لها من تعريفات جاءت متأخرة نسبيا، إلاّ أنّ شروطها وملامحها قد بدت منذ البداية كما سيظهر لاحقا ، ومن ذلك ما ذكره السنهوري في تعريفه ” الظرف الطارئ هو كل حادث عام، لاحق على تكوين العقد وغير متوقع الحصول عند التعاقد، ينجم عنه اختلال بين في المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه الى أجل او آجال ، ويصبح تنفيذ المدين لإلتزامه كما اوجبه العقد يرهقه ارهاقا شديدا ، و يتهدده بخسائر فادحة تخرج عن الحد المألوف في خسائر التجار، وذلك كخروج سلعة تعهد المدين بتوريدها من التسعيرة وارتفاع سعرها ارتفاعا فاحشا غير مألوف ولا متوقع”.[1]

ومن ثم انطلق السنهوري الى التفريق بين كل من القوة القاهرة والظروف الطارئة او الفجائية ، بقوله ان القوة القاهرة يشترط فيها امكانية الدفع واستحالة التوقع ، فيما تكون الظرف الطارئة امكانية التوقع ومستحيلة الدفع.[2]

كما توجه الى تعريفها الاستاذ عادل المطيرات ناظرا اليها على انها : “حالة عامة غير مألوفة لم تكن في حسبان المتعاقدين وقت التعاقد ، ويترتب عليها ان يكون تنفيذ الالتزام التعاقدي مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة”.[3]

فيما نظر اليها الجناحي على أنها :” تعديل التزام مرهق من عقد غير منفذ او فسخه لوقوع حادثة غير متوقعة خارجة عن إرادة المتعاقدين” .[4]

وكذلك الأستاذ احمد الصويعي شليبك الذي عرفها بقوله :” يقصد بالظرف او الحادث الطارئ هو كل حادث عام ، لاحق على تكوين العقد ، وغير متوقع الحصول عند التعاقد ، ينجم عنه اختلال بيّن في المنافع المتولّدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل او آجال ، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقا شديدا ، يتهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في خسائر التجار ، وذلك كخروج سلعة تعهد المدين بتوريدها من التسعيرة وارتفاع سعرها ارتفاعا فاحشا غير مألوف ولا متوقع” .[5]

التأطير التاريخي لنظرية الظروف الطارئة :

وردت أولى المؤشرات حول نظرية الظروف الطارئة في القانون الهندي القديم “قانون مانو” ، القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، (ونصوص هذا القانون قائمة على فكرة التوحيد) والذي يعتبر بمثابة الدستور الرسمي والدليل لأغلب فئات الشعب الهندي القديم، والذي تضمن في نصوصه بضع ملامح حول وجوب مراعاة الطرف الدائن في حال ضرره ووقع الظلم والجور عليه نتيجة ظروف خارجية أضرّت بالعقد وحمّلته ما لا طاقة له به.[6]

كما وردت ايضا لدى الإغريق خاصة في قانون الإيجار الذي كان يقضي ب “وجود حق للمستأجر في طلب تخفيض قيمة الايجار في حالة أصاب الأرض قحط ، وما شابهه من كوارث منعت عليه إمكانية استغلال ارضه”. [7]

فيما أصاب الرومان حالة جدل حول الأخذ بها من عدمه ايضا، مع ان القاضي السنهوري كان قد صرّح في كتابه المعنون سابقا بأنّ ” الرومان لم يعرفوا هذه النظرية وانما سمعو عنها فقط من أقوال الفلاسفة الرومان أمثال شيشرون وسينيكا ” وهو ما يظهر في قول شيشرون ” عندما يتغير الزمن يتغير الواجب “.[8]

وايضا في قول سيبيديك ” انا لا أعتبر حانثا لعهدي ولا يمكن اتهامي بعدم الوفاء إلاّ إذا بقيت الأمور على ما هي عليه وقت التزامي ولم أنفذه ، والتغير الذي يطرأ على أمر واحد ويجعلني حرا في ان اناقش التزامي من جديد ويخلصني من كلامي الذي اعطيته، ويجب ان يبقى كل شيء على حالته التي كان عليها في الوقت الذي تعهدت فيه لكي استطيع المحافظة على التزامي”.[9]

و ما سبق يظهر لنا تداول الرومان لهذه الفكرة، ورسوخها بشكل يقضي بالأخذ بها لدى فلاسفتهم مع معارضة الفئة الأغلب لها طبقا لكونهم لا يؤمنون أصلا بفكرة الغبن، أو من وجهة نظرهم ان الغبن لا يعيب الرضا ولا يؤثر في صحة العقد وانعقاده .

كما تناولت الكنيسة في العصور الوسطى هذه المسألة ، وتكللت جهودهم بترتيب اثار قانونية تقضي بجواز تعديل بنود العقد في حالة حصول ظرف طارئ ما يجعل من تنفيذ الالتزام امرا مرهقا لأحد طرفي الالتزام . وهو ما يظهر ايضا في ظهور قاعدة “تغير الظروف” في القرن الثاني عشر ، والقاضية بمقتضى نظرية الظروف الطارئة من وجوب امتثال بنود العقد لنفس الوضعية والظروف التي صاحبت نشأة هذا العقد ، وفي حال تغير هذه الظروف بما يحمل العبئ على احد اطراف الالتزام فيتوجب على ذلك تغيير بنود العقد ، انطلاقا ايضا من ان حجم الظلم الواقع على الطرف المتضرر يعتبر غبنا ، وهو ضرب من ضروب الربا وبالتالي يحرم الاستمرار فيه.[10]

وهو حال الفقه الاسلامي ايضا ، حيث تناول المسلمون موضوع هذه النظرية بشكل مفصل ولائق ، -سيظهر ذلكم بشكل مفصل في موضوع منفصل لاحق- خاصة مع شبه الاجماع الفقهي والمذهبي على وجوب الاخذ بها انطلاقا من ورود عدة ايات قرانية تنادي بمراعاة ظروف المدين المعسرة ، ومنها قوله تعالى””وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا فهو خير لكم إن كنتم تعلمون “.

ويتضح هذا الانصاف الاسلامي لهذه النظرية مع تصريح فقيه القانون الفرنسي “لامبير” في إطار خطابه في المؤتمر الدولي للقانون المقارن ، والذي عقد في مدينة لاهاي في العام 1932 ، حيث قال ” ان نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي تعبر بصورة أكيدة وشاملة عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام ، في نظرية الظروف المتغيرة ، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف المقارنة وفي القضاء الانجليزي فيما ادخله من المرونة على نظرية استحالة تنفيذ الالتزام تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي نشأت بسبب الحرب ، وفي القضاء الدستوري الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة ” .[11]

وجهة نظر :

-ارتبط ظهور نظرية الظروف الطارئة والموقف “الشعبي ” منها في كل ثقافة انطلاقا من ناحية ايمانهم بأفكار أخرى دفعتهم الى الايمان بنظرية الظروف الطارئة والمناداة بها، او رفضها، ومن ذلك فكرة الغبن التي امن بها اليونان وطالبوا بتعويض المتضرر ، او كالرومان الذين رفضوا فكرة الغبن وبالتالي لم تكن ردة فعلهم ايجابية تجاه نظرية الظروف الطارئة على عكس اراء فلاسفتهم كشيشرون وسيبيديك كما سبق تبيانه.

– لعب التشريع الكنسي دورا ايجابيا في المناداة بنظرية الظروف الطارئة انطلاقا من الايمان الكنسي بحرمة الربا و الغبن .

– توج الفقه الاسلامي مسيرة ظهور نظرية الظروف الطارئة بوجهة مشرفة جمعت معها اغلب المذاهب الاسلامية على وجوب الاخذ بنظرية الظروف الطارئة انطلاقا من قوله تعالى””وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا فهو خير لكم إن كنتم تعلمون ” وغيرها ، وما سيظهر من تبيان في موضع لاحق .

– نظرية الظروف الطارئة في مضمونها هي نظرية اخلاقية انساني في مضمونها من قبل ان تتبناها حتى اي شريعة وضعبة او الهية ، وهي تحمل في طياتها الخير لأطراف النزاع .

– نظرية الظروف الطارئة تحمل في بعديها جانبا وقائيا وعلاجيا ، علاجيا من منطلق وقوع حادث طارئ خارجي غير متوقع الحدوث ويصعب استبعاد تأثيراته ، وبالتالي فان احد اطراف الالتزام قد يتحمل عبئا لا طاقة له به ، فقد جائت هذه النظرية لمعالجة ذلك وتخفيف العبئ الحاصل .

وهو اسلوب وقائي ايضا من منطلق الابتعاد عما سيتبع ما حصل من كوراث سابقة “الظروف الطارئة” ، وما سترتب عليها من اضرار يمكن تفاديها حين يتم اللجوء الى هذه النظرية لتلافي ما سيتبع من اضرار كالخصام مثلا بين اطراف النزاع ، او الانهاك الكامل لاحد اطراف النزاع .

 السنهوري ، عبد الرازق ، الوسيط في شرح القانون المدني ، الجزء الاول ، مصادر الالتزام ، ص 515. [1]

 المرجع السابق، ص 735. [2]

 المطيرات ، عادل مبارك ،  احكام اللوائح في الفقه الاسلامي ، وصلته بنظريتي الضرورة والظروف الطارئة ، رسالة دكتوراة من قسم الشريعة الاسلامية في كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، 2001 ، ص 66 . [3]

 الجناحي ، عارف محمد ، تطبيقات نظرية الظروف الطارئة ، في بيع التقسيط والمرابحة للامر بالشراء في الفقه الاسلامي والقانون . جامعة الشارقة  ، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والداراسات الاسلامية ، المجلد السادس عشر ، العدد الاول  ، 2019 ،  ص 129 . [4]

 شليبك ، احمد الصويعي ، نظرية الظروف الطارئة : اركانها وشروطها ، المجلة الاردنية في الدراسات الاسلامية ، المجلد الثالث ، العدد الثاني ، 2007،   ، ص 121-122 .[5]

 انظر : شارف ، بن يحي ، ضرورة اسقاط الشرط عمومية الظرف الطارئ في القانون المدني الجزائري ، دراسة مقارنة بالفقه الاسلامي ، الاكاديمية للدراسات الاجتماعية والانسانية ، 2010، ص 47 .[6]

 انظر المرجع السابق ، ص 47 . [7]

 مسكوني ، صبيح ، القانون الروماني ، الطبعة الاولى ، بغداد ، 1968 ، ص 232 .[8]

 المرجع السابق ، ص 232 . [9]

 فودة، عبد الحكيم ، اثار الظروف الطارئة والقوة القاهرة على الاعمال القانونية ، منشاة المعارف ، الاسكندرية ، الطبعة الاولى ، 1999 ،  ص 27 [10]

 الترمانيني ، عبدالسلام ، نظرية الظروف الطارئة ، بيروت ، دار الفكر ، ص 35-36 . [11]

قد يعجبك ايضا