عبيد روما الجديدة وقضية فلسطين / مهند إبراهيم أبو لطيفة

مهند إبراهيم أبو لطيفة  ( فلسطين ) – الجمعة 25/9/2020 م …




تقدم مجموعة من الظواهرالإجتماعية والإقتصادية التي مرت في تاريخ البشرية، دروسا وعبرا يمُكن إستنتاج مقاربات منها مع واقعنا العربي المعاصر، ولربما وللأسف في مقدمتها الرق والعبودية، أو ظاهرة الإسترقاق.

من يتابع المشهد السياسي العربي خلال المئة سنة الماضية، ويدقق في حال بلداننا سياسيا وإقتصاديا وثقافيا، يكتشف أننا نعيش زمن العبودية لروما الجديدة، النظام العالمي أو الزمن الأمريكي، وتشكل الشرق الأوسط الجديد تحت إدارة سيد المنطقة القادم: الكيان الصهيوني، الوكيل الرسمي والوحيد، وتدور في فلكه كيانات صغيرة تؤدي أدوارا وظيفية ثانوية.

موقعنا الحضاري في هذه الحقبة، مع تسارع الهرولة نحو إعلان التطبيع وإستمرار التبعية والإمعان في خدمة السيد الأمريكي وبالتالي الصهيوني، وغياب الإرادة الحرة من أجل تعميم ودعم فكر وفعل التحرر والإستقلال، يجعلنا أمام تحديات صعبة، فإما إستمرار الإسترقاق، أو المواجهة بروح الأحرار والسادة الرافضين لذل الهيمنة.

لا تخلوا حضارة قديمة من وجود ظاهرة الإسترقاق، فقد مرت بها الهند القديمة والحديثة، حسب شريعة “مانو” البراهمية، وحاليا بما يعرف بطيقة “المنبوذين”، كذلك الفارسية وحضارات العراق القديمة، اليونان والإغريق، والرومان.

في أثينا التاريخية، كان يخدم سكانها البالغ عددهم عشرين ألفا، أكثر من أربعمائة ألف من العبيد، وكلما كان الإغريق يحققون الإنتصارات وتتسع أمبراطوريتهم ، كان عدد العبيد يزداد.

يقول فيلسوف اليونان أفلاطون حول هذه الظاهرة: ” إن الله يسلب الرجل نصف عقله متى وقع في الرق”، ويقول أرسطو : ” إن الطبيعة أوجدت رجالا للأمر والسيطرة، وآخرين للطاعة والخضوع، فالعبيد للخضوع، ويجب على الأحرار أن يستكثروا من العبيد ليستخدمونهم في الأعمال اليومية الشاقة، وينصرفوا هم للأعمال الفكرية”.

شكلت فترة العصور الوسطى في أوروبا، مرحلة هامة في التاريخ، فقد إنتشرت في أوساط ورثة الإمبراطورية الرومانية، ظاهرة الإسترقاق وبرزت كمؤسسة ، ما زالت موجودة لغاية اليوم ، ومنطقتنا العربية جزء أساسي منها. إعتمد الأنجلوساكسون، الجرمان، القوط ، البلغار، الغاليون في فرنسا والإيطاليون على مؤسسة العبودية ، وخلال الحقبة الإستمعارية، عاملوا الشعوب التي نهبوا ثرواتها وخيراتها كعبيد.

قامت أمريكا الجديدة، على إبادة سكان البلد الأصليين من الهنود الحمر، وعلى طبقة العبيد المستوردين عن طريق تجارة الرقيق الإنجليزية، الفرنسية، الهولندية، الإسبانية والبرتغالية، فالحروب والتجارة بالرقيق، كات أهم مصادر الحصول على الرقيق، للخدمة في المزارع والإقطاعيات والبيوت والجيوش.

تحت مبررات أخلاقية بنشرالحضارة والمدنية، استعبد الملايين من البشر، وكما كان الإغريق والرومان قديما يفعلون، كان ثمن العبيد هو الملح كمقابل مادي لا أكثر، أو قدماء القوط ( القبائل الجرمانية الشرقية)، الذين كانوا يفقؤون عيون عبيدهم ، حتى لا يلهيهم شيء عن مخض الحليب.

من يرتضي أن يرهن حاضره ومستقبله بمؤسسة العبودية ، ويتجاوز نصرة القضية الفلسطينية، ومحاولة إفقادها لقدسيتها وشيطنة شعبها ، يكرر قصة يوسف، الذي باعه أخوته، أولاد يعقوب ( حسب رواية العهد القديم) للإسماعيليين، والذين باعوه بدورهم إلى فوطيفار رئيس شرطة الفرعون ( تكوين 37: 36) ، بثمن بخس هو عشرين شاقلا من الفضة.

تفرق شريعة العهد القديم، التي  شكلت الأساس الديني والعقائدي لقيام الكيان الصهيوني، ما بين العبد العبراني والعبد الأجنبي، فبينما كان بالإمكان إطلاق العبد العبراني وتحريره إما بالفداء أو بعد مرور ستة سنوات في ما سمي بسنة اليوبيل ( لاويين 25: 29-43)، فيكون حرا، كان العبد الأجنبي يُستعبد إلى الأبد، ويتوارث الأبناء عن الأباء عبيدهم.

في كتابه : تأملات في تاريخ الرومان، يكتب الفيلسوف السياسي مونتسيكو (1689 م- 1755م ) عن أسباب عظمة روما وصعودها:

” من حسن طالع روما، وأحد أسباب سعادتها، أن ملوكهم كانوا دوما أصحاب همة عالية وموهبة، لا نلاحظ في تاريخ الآخرين سردا من الساسة وقواد الحرب، بالكفائة التي برهن عليها حكام روما.عندما تأسست دولة ما  يكون الرئيس هو الذي يشكل المؤسسة فيما بعد تقود المؤسسة، وهي التي تشكل الرئيس”.

قامت عظمة روما كأمبراطورية، على إرادتها وسعيها نحو المجد، وعلى مؤسساتها وفي مقدمتها العسكرية، وحيث كان تعتمد على قوتها كانت تتقدم وتحقق الإنجازات ويصعب أن يقف أحد في وجهها، وسقطت حين تحولت للإستهلاك والتراخي.

وحيث لا يفيد على ما يبدوا في هذه المرحلة، أن نستفيد من دراسة حال السادة والقادة العظام، فعلى من يقامرون بتاريخ العرب وقضيتهم المركزية وقلعتهم الأخيرة فلسطين، أن يتعلموا من أحوال عبيد روما.

في مجتمع الرق الروماني، لم يكن العبيد يقومون فقط بأداء مهام أو أعمال خدمية بسيطة، في المنازل مثلا أو الحقول، بل كان بإمكانهم أن يتولوا بعض الوظائف المهمة التي تتطلب مهارات عالية، مثل المحاسبة والطبابة، وربما ظهر وكأنهم ينتمون لطبقة السادة ، ولكن يبقى العبد حسب القانون الروماني عبدا إلى الأبد، لا إعتبار لشخصيته أو لوضعه القانوني كفرد، فلا مانع من أن يتعرض للتحقير والإذلال والضرب والإعتداء الجنسي، أو الإعدام. وكلما تراكت الثروة أكثر وتوسعت روما، إزدادت الحاجة لمزيد من العبيد لتلبية متطلبات الأثرياء الإقتصادية.

لم تكن أسعار العبيد ثابتة أو متساوية، بل حسب العرض والطلب، العمر والجنس والحالة الصحية، كأي بضاعة أو سلعة أخرى، فثمن الأمة في سن الإنجاب مثلا اعلى من ثمن العبد الذكر.

في بابل القديمة، جاء في قوانين حمورابي ( نحو 1740 ق.م )، أن متوسط ثمن العبد حوالي ثلاثين شاقلا ( درهما أو دينارا أو جنيه)، وكان السعر يختلف حسب العصور والمجتمعات والدور الوظيفي.

إعتمدت معاملة العبيد على شخصية سادتهم، فمنهم من كان يثق بهم فيحسن معاملتهم قليلا، ومنهم من كان قاسيا فظا، ويمتلك الحق الكامل في تأديبهم بقسوة، وفي حالات نادرة إستثنائية، كان يُسمح للعبد أن يقدم شكواه لسيده وان يطلب التقاضي أمام القانون، ولكن في حال  محاولة العبدالهرب من صاحبه، يتم معاقبته بشدة، وفقط من ينجح بالهرب إلى مكان آخر، أو دولة أخرى، كان ينجو بنفسه، ولكي لا تتكرر محاولة الهروب، كان يوضع طوق حديدي حول رقبته، عليه نقش أو إشارة عن مالكه، وعن مكافأة لمن يجده ويسلمه.

لا يُسمح للعبد بأن يمثل سيده، بل عليه القيام بأعمال وأشغال شاقة، ، وتم الإستفادة من طاقات العبيد لإقامة المشاريع والصروح الكبيرة، فمثلا هناك جزء كبير من البيت الأبيض الأمريكي، بُني بسواعد العبيد.

هل بتنا بحاجة لمعهد أكاديمي تعليمي متخصص في إعداد وتأهيل العبيد؟، ربما من المفيد لمن يرفضون خيار المقاومة، على خطى سبارتكوس، الثائر على مؤسسة العبودية والذي تحدى روما، البدء في إعداد شعوبهم  للمرحلة القادمة، فلا يتسع المجال هنا للإستفاضة، ولكن تكفي الإشارات السريعة من واقع قوانين العبودية الروماني:

لا يجوز للسيد أن يبيع عبده لأحد لا يشتريه لتشغيله وتسخيره لمصارعة الوحوش في الحلبات والخدمة في الحقول والمنازل، والعبد الذي يتركه سيده لمرض أو شيخوخه يعتبر حرا، من قتل عبدا مريضا أو هرما، لا يتم القصاص منه، بل يتم مقاضاته فقط، وإذا أمر السيد عبده تأديب عبد آخر يجب عليه تنفيذ أوامره دون إعتراض.

بإمكان السيد أن يبيع عبده، أو أفراد عائلته، فزواج العبد لا يعتبر شرعيا، وليس له سلطة أبوية على أولاده، وكان يحرم عليه أن يتزوج من بناته، فقط لتفرقته عن البهائم والحيوانات.

كان كل روماني يرفض الخدمة العسكرية يقع في الرق، وكل منلا  يسدد ديونه يُسترق، فالسيد يملك السلطة المطلقة على شخص العبد، على عقله وتفكيره وأنفاسه وكلامه، وعليه واجب خدمته وطاعته تحت جميع الظروف.

وحدها قضية فلسطين، بمركزيتها وقدسيتها وأبعادها القومية والدينية والإنسانية، بإمكانها إستنهاض كل من يرفض إلا أن يكون حرا، هي العنوان والبوصلة.

 

 

 

قد يعجبك ايضا