موسى مونتفيوري وأثرياء الشعب الفلسطيني / مهند إبرهيم أبو لطيفة

مهند إبرهيم أبو لطيفة  ( فلسطين ) – الثلاثاء 15/9/2020 م …  

الكاتب ابو لطيفة




بالتأكيد ليست دعوة- حسب الأدبيات اليسارية – للحقد الطبقي، ولا هي دعوة ” للشحدة” أو التسول، بقدر ما هي دعوة للإستثمار والشراكة في عملية التحرر الوطني الطويلة والمعقدة . ليس بالإمكان التدقيق أو حصر – بشكل علمي- حجم ونوعية مساهمة الأثرياء من الشعب الفلسطيني في دعم قضيتهم، كما يصعب تتبع كم ساهم بعضهم في حصته وواجبه في إسناد هذا الشعب، ولكن من الواضح تماما أن هناك تقصيرا كبيرا نلمسه من واقع الأوضاع في قطاع غزة ، وظروف المخيمات الفلسطينية في الداخل والمنافي خصوصا في لبننان والأردن وسوريا.  

عند تتبع تاريخ الحركة الصهيونية ومدى إسهام الأثرياء منهم في دعم مشاريع حركتهم ، يفرض السؤال نفسه على الذهن: ألا يستحق شعبنا الفلسطيني تقل هذه التجربة – بالرغم من أننا كنا ضحاياها- لرفد صموده وكفاحه وحقه في الحرية والإستقلال كباقي شعوب العالم؟.  

من النماذج الصهيونية – وهي كثيرة -على سبيل المثال، الدور الكبير الذي قام به الثري ” موسى مونتفيوري” (1784 – 1885)، وهو عمدة لندن السابق، وأحد أهم من ساهموا في إرساء دعائم الإستيطان اليهودي في فلسطين.  

يُعتبر صاحب أول عملية تنفيذ مباشر لفكرة الإستيطان في عام 1837، وهو من أنشا أول مستعمرة في فلسطين التي كانت تخضغ للحكم المصري في زمن محمد علي باشا ، في الفترة ما بين 1832 – 1840 ، قام بزيارة فلسطين لإستكشافها عدة مرات، وبدعم مباشر من الإنجليز ، وتحديدا من وزير الخارجية البريطاني ” بامستون” واضع أساس السياساة البريطانية إتجاه الدولة العثمانية، وبعض الحاخامات أمثال: إبراهام شوشة، وصموئيل عبو، تمكن من مقابلة محمد علي، وحصل منه على وعد بأن يُمنح إمتيازا لإستئجار أجزاء من أرض فلسطين وتحديدا 20 قرية في منطقة الجليل لمدة خمسين عاما معفاة من الضرائب، والسماح بإرسال خبرات زراعية وصناعية لتدريب المستوطنين وتأهيلهم مهنيا، وفي المقابل يقوم منتفيوري بتأسيس سلسلة من البنوك البريطانية في مدن مصر وسوريا وفلسطين الرئيسية.  

نتيجة للتنافس الإستعماري بين فرنسا وبريطانيا في ذلك الوقت على المنطقة، وبعد معركة “نصيبين” بين الجيش المصري والجيش العثماني في 24 حزيران 1835، وبسبب الموقف العثماني الرافض( وهو صاحب الصلاحية بمنح أو حجب التراخيص في إمتلاك الأراضي)، تم إخراج محمد علي من بلاد الشام، واكتفى مونتفيوري بشراء  بعض الأراضي ليقيم عليها مزارع صغيرة في المناطق المجاورة  لياقا والقدس وصفد.  

 وبالرغم من منع السلطات العثمانية من  بيع الأراضي والعقارات تحديدا في القدس بشكل رسمي، إلا أنه وبضغط من بريطانيا  حصل على فرمان من السلطان عبد المجيد عام 1849  يسمح بموجبه لليهود بشراء بعض الأراضي، فقام على الفور وبعد مقابلة ثانية مع السلطان العثماني، بشراء أول قطعة أرض في القدس خارج حدود أسوارها القديمة، كان من المفترض أن يقيم عليه مستوصفا لفقراء اليهود، ولكنه أسس لأول حي سكني تبعه أحياء أخرى بلغ عددها حوالي ثمانية حتى عام 1852 .  

ساهمت القنصليات الغربية في فلسطين ، في تسهيل الإستيطان، ولحل مشكلة المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، التقت المصالح على حساب شعب فلسطين، مما سهل مهمة منتفيوري وروتشيلد، وتأسست جمعية الإتحاد اليهودي العالمي بفرنسا، وبدأت موجات الهجرة نحو فلسطين، ليرتفع عدد المهاجرين من 1500 عام 1838 إلى نحو 10000 في عام 1840 ، ثم زاد العدد عام 1860 إلى 15000 ، وفي عام 1881 إلى نحو 22000 مستوطن ، تركزغالبيتهم في القدس.  

وعلى الرغم من أن منتفيوري لم يولد في فلسطين، بل في بريطانيا لأسرة إنجليزية دات اصول ايطالية سفارديمية *، إلا أنه كان يهتم بأوضاع الجاليات اليهودية في اوروبا الشرقية والغربية ويتابعها، زار روسيا عام 1846 ، وعام 1877، وأجرى مباحثات مع الحكومة القيصرية ، وزار المغرب عام 1863 ، ورومانيا عام 1867، زار روما عام 1858، وزار فلسطين سبع مرات كان آخرها عام 1875 وهو في عمر التسعين، للإطمننان على أحوالهم، وعندما  حقق ثراءا سريعا بفضل عمله في بورصة لندن وتجارة الماس وقطاع المصارف وغيرها، وبعد إرتباطه بالمصاهرة مع عائلة روتشيلد المالية الثرية،  تايع مشروعه في خدمة طائفته، حتى بعد إعتزاله العمل العام سنة 1824 جيث كان يتولى منصب عمدة لندن، وكان أول يهودي يحصل على لقب “سير”، وتفرغ تماما  لدعم المشروع الصهيوني.  

سخر منتفيوري علاقاته الواسعة في البلاط الملكي البريطاني ليحقق مكاسب إضافية لليهود، ولتحسين ظروفهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية في فلسطين وخارجها، ولم يتردد في سبيل ذلك من المساهمة في تمويل بعض مشاريع الحكومة البريطانية نفسها، على قاعدة تبادل المصالح، ويروج أنه قدم رشوة للباب العالي العثماني لكي يحصل على فرمان (قرار) الإستيطان حسب ما جاء في دائرة المعارف اليهودية، طبعة 1905 ،الجزء العاشر، صفحة 410 ، كما ادعى “الكونت كاموند” الذي عمل مديرا لأعمال البنوك في الحكومة العثمانية ، والذي من المفترض أنه كان الوسيط في هذه العملية.  

عمل منتفيوري إضافة إلى آخرين، لجعل البريطانيين يتبنون مشروعا لإقامة وطن قومي في فلسطين، وهو المشروع الذي عملت عليه المنظمة الصهيونية العالمية، وأكدت أثناء سعهيا لكسب التأييد، على أنها على إستعداد للقيام بالدور الوظيفي المطلوب منها في المنطقة خدمة للمصالح الإستعمارية البريطانية،. ركز على  تحويل اليهود إلى قطاع إقتصادي مُنتج، عن طريق تعليمهم اصول الزراعة والصناعات المرتبطة بها، ووفر لهم الخبرات اللازمة لذلك من شرق اوروبا. أنشأ المستشقيات ومؤسسات الخدمة الإجتماعية للعناية بالفقراء، واشترى أرضا في  يافا جعلها بيارة للحمضيات لتوفير أماكن عمل للمستوطنين الجدد كانت تحمل إسم ” شأنايم”.  

تم تكريم منتفيوري من قبل حركة أحباء صهيون وهي إئتلاف من طلائع الصهيونية، نظير الخدمات الكبيرة التي قدمها، عندما بلغ من العمر مائة عام، وفي مؤتمر الحركة العام  عام  1884 في ” كاتوفيتش” البولنديةن  وشاركت فيه جاليات اوروبا الشرقية، تم تأسيس صندوق لدعم المستوطنان في فلسطين حمل إسم ” مزكيرت موشي” أو ” ذاكرة موسى”.  

إستطاع مونتفيوري أن يتدخل للتخفيف من ملاحقة بعض اليهود واطلاق سراح آخرين من السجن، اتهموا بتأجيج الصراع الطائفي بين المسيحيين والدروز في الشام في عام 1860 ، وبالرغم من إتهام السلطات العثمانية لهم أنهم كانوا يعملون لصالح الإنجليز لزعزعة الإستقرا في سوريا ، إلا أن تدخل مونتفيوري ووساطة سفير بريطانيا في الأستانة ” برانت”، قادا لإنهاء تلك الأزمة.  

بعد حياة حافلة بالعطاء، توفي عن عمر يناهو 101 عاما، في سنة 1885، ودفن في بلدة “رامسغيت” في بريطانيا، وواصل ابن اخته يوسف سيباخ مونتفيوري (1822- 1913) ما بدأه خاله، وتولى منصب نائب رئيس حركة “أحباء صهيون” ، تم نقل جثمان موسى حاييم مونتفيوري ليُدفن في فلسطين عام 1973 ، وتحول إلى إيقونة تُطبع صورته على اوراق العملة الصهيونية.  

في عالم – اختبرناه طويلا-  والذي لا يقيم وزنا في علاقاته الدولية للحقوق والأعراف أمام القوة ، تحتاج الحركة الوطنية الفلسطينية، وحاضنتها الشعبية لمزيد من الإهتمام وتعزيز مقومات صمودها في وجه التحديات المتزايدة، ويحتاج فقراء الشعب لمزيد من العطاء المدروس للرفع من مستواهم المعيشي وتحقيق الحد الأدنى من العيش الكريم. لا يُمكن إستيعاب أن هذا الشعب العظيم بإنتمائه وعطائه وتضحياته ، يحاصر ولا يتلقى في الوقت الحاضر سوى طعنات الخناجر في الظهر.  

بإمكان رأس المال الفلسطيني عبر مشاريع مدروسة بعناية، تحويل كثير من فئات الشعب الفلسطيني إلى طاقات منتجة في كثير من المجالات، والتي ستدر أيضا على أصحابها أرباحا إقتصادية مشروعة ، وبعض المقترحات الممكنة والتي يمكن دراستها:  

الإستثمار في مجال تأهيل شباب المخيمات الفلسطينية من الجنسين مهنيا وأكاديميا ، والتخفيف من الأعباء المالية عن أسرهم، مقابل إتفاقيات خاصة للعمل لمدة محددة، بناء المعامل والورشات والمصانع الصغيرة والمتوسطة، وتشغيل عدد منهم، التركيز على قطاعات التكنولوجيا والصناعات الدقيقة والتجارة وإدارة الأعمال، إضافة لدعم الإعلام والثقافة والسياحة والقطاع الصحي والتعليمي، أو عبر توفير قروض ميسرة لإقامة المشاريع  الصغيرة  للباحثين عن عمل.  

من حق الجميع بالطبع، طرح التساؤلات عن أموال ومشاريع الصندوق القومي الفلسطيني، وصندوق الإستثمار والمساعدات  التي تصل من هنا وهناك، وأين وكيف صرفت…الخ، ولكن من حق الشعب الفلسطيني، الوطني والأخلاقي، أن يطالب الأثرياء بعدم إيجاد المببرات للتفاعس عن دعم شعبهم المحاصر خصوصا في قطاع غزة ، وعن إيجاد البدائل الموازية وغير المرتبطة بأطر رسميه أو حزبية ، ليكونوا شركاء في التكافل و بناء المستقبل الفلسطيني.  

تشير معظم الدراسات المتخصصة ، إلى أن  الإحتلال الإسرائيلي ، يركز  وبشكل مدروس عبر سياساته  المتواصلة على  إستمرار تبعية الإقصاد الفلسطيني ، ويعتبر أن  تحسين الظروف المعيشية مرتبط ارتباطا وثيقا بالتنازلات والتسوية السياسية وفي مقدمتها نزع سلاح المقاومة، وكل دعم منتج مدروس يساهم بالتأكيد في دعم التمسك بالحقوق الوطنية المشروعة وأدوات الشعب الكفاحية، لقد عمل الإحتلال وعلى مدار سنوات طويلة على إنهاك شعبنا على جميع المستويات.  

كما نشير دراسات أخرى حول التنمية إلى أن حوالي خُمس الشعب الفلسطيني يعيش تحت خط الفقر في الضفة ( إن لم يكن أكثر) بينما تزداد هذه النسبة بشكل كبير جدا في قطاع غزة، خصوصا العائلات التي يزداد فيها عدد العاطلين عن العمل، أو التي  لا يوجد لديها أكثر من معيل واح مع إرتفاع عدد أفراد الأسرة الواحدة، ناهيك عن عمالة الأطفال وحرمانهم من طفولتهم الطبيعية ، أما في مخيمات الأردن مثلا ، كمخيم البقعة والحسين وشنلر، فحدث ولا حرج ومنذ النكبة عام 1948.  

من يدقق في أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أو تقارير المجلس الإقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار، سيكتشف حجم ونسبة إنتشار الفقر، خصوصا في أوساط اللاجئين في الوطن، ونفس الشيء في الشتات، كيف  ننتظر إلتفافا جماهيريا وشعبيا مقاوما، في ظل تفشي الفقر والحرمان، والبحث اليومي عن لقمة العيش، خصوصا مع تنامي الإحباط السياسي وتراجع الثقة في أجهزة السلطة، أو التنظيمات والفصائل التقليدية، إضافة إلى الآثار الإجتماعية والنفسية الأخرى التي تثقل كاهل الفلسطيني.  

على رأس المال الفلسطيني، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية واوروبا الغربية وبعض دول الخليج العربي، أو رأس المال المحلي ، أن يركز على مكافحة البطالة بالتحديد،  وتوفير فرص عمل جديدة كريمة، وهذا الأمر من شأنه دعم المشروع الوطني الفلسطيني بشكل مباشر.  

* السفارديم: هم  اليهود الذين تعود أصولهم إلى إسبانيا والبرتغال، والذين طردوا منها في القرن الخامس الميلادي، وتفرقوا في شمال افريقيا وآسيا الصغرى والشام، وكثيرا منهم كانوا من  رعايا الدولة العثمانية، في المناطق التي خضعت لها (الموسوعة الحرة).

من صور الفقر في غزة

قد يعجبك ايضا