في أهميّة غرامشي اليوم: الفِكر-الفِعل والطريق لتجاوز انسداد آفاق الثورة / د. هشام البستاني

شو دخل السياسة بالسياسة؟! | منصة هواء




د. هشام البستاني ( الأردن ) – الجمعة 4/9/2020 م …

في مقدّمته لمقالة “الأمير الحديث” الواردة ضمن أوّل ترجمة موسّعة لمختارات من أعمال أنطونيو غرامشي إلى الإنجليزيّة، يقول المترجم لويس ماركس أن غرامشي استخدم في الدّفاتر التي كتبها طوال فترة سجنه التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، وأدّت إلى قتله البطيء، مُصطلح: “فلسفة التّفعيل Philosophy of Praxis”، ليشير بشكل مُبطّن إلى الماركسيّة، فلا يفهمها الرّقباء والسجّانون، وآثر المترجم، بالتّالي، أن يعيد المصطلح إلى أصله داخل النصّ الأنجليزيّ(1). لم يتّفق كوينتِن هور وجيفري نويل سمِث مع هذا الرأي في تقديمهم لترجمةٍ لاحقةٍ لمختارات أوسع من أعمال غرامشي، فهما يقولان: “[مصطلح] ’فلسفة التّفعيل‘ يمثّل شيئين معًا: توريةً عن الماركسيّة؛ ومفهومًا مستقلًّا استخدمه غرامشي ليعرّف ما رآه الخاصيّة المركزيّة في فلسفة الماركسية: الرّابط الذي تؤسسه بشكل لا يمكن فصله بين النظريّة والممارسة، بين الفِكر والفِعل.”(2)

هذا الفهم الثاني هو حتمًا الأقرب إلى ما يمثّله غرامشي كمُفكّر مُمارس ثوريّ، عبّر عمليًّا، وطوال مسيرة حياته القصيرة (توفي وهو في السادسة والأربعين من العمر(3))، عن إخلاصه لمفهوم الفِعْل كعنصر أساسيّ في ثنائيّة لا تنفصم عراها: نظريّة-مُمارسة، معتبرًا إيّاهما شيئًا واحدًا، دون أن يَغفل عن انتقاد مَن ينتقص مِن أهميّة الإطار النظريّ في سياق المُمارسة، ودون أن يتجاهل دور المُمارسة باعتبارها الإطار التجريبيّ الاختباريّ للأفكار من جهة، والمختبر الذي تتولّد فيه الأفكار وتتطوّر وتأخذ أهميّة تاريخيّة من جهة أخرى، فالمُمارسة تُغيّر العالم، وتُغيّر المُمارسين أنفسهم، وبالتالي فإن المعرفة هي عمليّة تحوّل مُستمرّ مرتبطة بالتاريخ، عمليّة تاريخيّة لا مكان فيها للتوقّف والانسحاب إلى الخلف للتأمّل والدّراسة، فالموضوع المدروس يتحرّك في اللّحظة التّالية ويصبح –بمعنىً ما- شيئًا مختلفًا.

يكتب غرامشي: “يمكن للمرء أن يتنبّأ بالصرّاع فقط، لا بفصوله الفعليّة، فهذه الأخيرة ستكون مُحصّلةً لقوىً متعارضة في حركةٍ دائمة، يستحيل اختزالها إلى كميّات محدّدة، ففي الحركة يتحوّل الكمّ دائمًا إلى نوع.”(4) هذا كان نقده لعلم الاجتماع الذي تستند تنبؤاته فقط على المعلومات والقياسات التي تمثّل لحظةً في التّاريخ، وليس التّاريخ نفسه في تحوّلاته التي لا تتوقّف، هذه التحوّلات التي لا تُدرَك حقًّا إلا بالممارسة، بالفِعْل؛ يستطرد غرامشي: “يمكن للمرء التنبُّؤ، بمقدار ما يفعل، وبمقدار ما يقوم به من جهد طوعيّ يساهم من خلاله بالتالي، بشكلٍ جذريّ، بخلق النتيجة المُتنبَّئ بها. يكشف التنبّؤ عن نفسه إذًا لا كممارسة علميّة في إطار المعرفة، بل من خلال التّعبير المجرّد للجهد الذي يقدّمه المرء؛ من خلال الطريقة العمليّة لخلق إرادة جماعيّة”(5) تقوم بدورها، وفي الواقع، بتغيير النتيجة المُتنبئ بها؛ أي: تغيير التاريخ.

في هذه الملاحظة، يبدو غرامشي، حاله حال مجموعة من المُفكّرين المُمارسين الثوريّين، مثل روزا لوكسمبورج وفرانز فانون، راهنًا، وتبدو ملاحظاته التي سنتناول بعضها أدناه بالإشارة والتّعليق والنقد، مفيدةً جدًّا في سياق التحوّلات التي تمرّ بها منطقتنا العربيّة، بشعوبها المسحوقة، وانتفاضاتها المُتتالية، التي تتجسّد فيها “أزمة النّفوذ” (crisis of authority) التي سنأتي عليها لاحقًا، وشخّصها غرامشي بدقّة: “القديم يحتضر، والجديد لا يمكن له أن يولد؛ في فترة الخلوّ هذه، تظهر أشكال هائلة من الأعراض المرضيّة الفظيعة.”(6)

هيمنة السّلطة من خلال مُجتمعين: المجتمع السياسيّ والمجتمع المدنيّ

الدّولة عند غرامشي هي إطار هيمنة، تفرض السّلطة فيه سيادتها من خلال “مُجتمعين”: المجتمع السياسيّ، وتتمثّل فيه القوّة الإكراهيّة العُنفيّة المباشرة مثل الجيش، والشرطة، والقانون، والقضاء، والنظام التعليميّ الرّسمي؛ والمجتمع المدنيّ (وهو غير المصطلح المعروف اليوم الذي يشير حصرًا إلى عالم “المنظّمات غير الحكوميّة”) ويشمل الأحزاب، والنّقابات، والصّحافة، والجمعيّات، والكنيسة، ومجمل الأنشطة “الخاصّة” (private) الناشئة عن المبادرات الذاتيّة أو شبه الذاتيّة، والمستقلّة نسبيًّا عن السّلطة، ويتمثّل فيها شكلٌ أعمق تأثيرًا وأكثر ديمومةً حين يتعلّق الأمر بإخضاع المجتمعات وإبقائها في حالة من “الاستقرار”، إذ تأخذ حالة الاقتناع بالسلطة وبفائدتها، وتعمل على نسج روابط ضمنيّة وعميقة، تتحوّل من خلالها السّلطة إلى مصلحةٍ وضرورةٍ لبقاء المجتمع الذي تتسلّط عليه.

فلنأخذ مثالًا تطبيقيًّا: يُجبر قانون ترخيص الأحزاب (وهو أداة إكراهيّة تنبثق عن المجتمع السياسيّ) أيّ مجموعة اجتماعيّة تريد أن تُساهم في العمل السياسيّ أو أن تشارك في الحُكم، على الطّلب من الدّولة السماح لها بممارسة أنشطتها، ووضع نفسها تحت إشرافها ورقابتها، والتقيّد بتعليماتها، واشتقاق شرعيّة وجودها منها؛ ومن خلال مِنّح تمويل الدولة للأحزاب المشروعة، ومشاركتها في الانتخابات البرلمانيّة (لأنها مشروعة، إذ يحظر القانون مشاركة الأحزاب غير المرخّصة/غير المشروعة)، ونجاحها في الحصول على مقاعد، تتحوّل الأحزاب إلى عناصر في الدولة، ويصير بقاؤها ونفوذها وإمكانيّات توسّعها معتمدًا على الدولة، فيصير الحزب مُدافعًا عن بقاء الدولة/السّلطة بعد أن وقع فعليًّا، وبآليّات ضمنيّة، تحت هيمنتها، وكذلك الأمر في كلّ قطاعات المجتمع المدنيّ، فتتحوّل هذه الأخيرة إلى أدواتٍ لتعميق هيمنة السّلطة، وإلى تحصينات قويّة لها، ويمكننا هكذا أن نفهم ملاحظة غرامشي التّالية: “بعض الأحزاب السياسيّة تؤدّي وظيفة شُرَطيَّة”(7)؛ وأن نفهم ملاحظاته حول النّسق الذي تعمل بواسطته النقابات العمّاليّة داخل إطار الرأسماليّة، إذ “تُنظّم العمّال لا باعتبارهم مُنتجين، بل باعتبارهم مأجورين، أي بكونهم نتاج التنظيم الرأسماليّ للملكيّة الخاصة، وباعةً لعملهم الخاصّ”(8)، واضعة إيّاهم داخل إطار الهيمنة الرأسماليّة، لا خارجه، مثلما تضع الأحزاب نفسها داخل إطار هيمنة الدّولة-السُّلطة، لا خارجه.

بهذا الأمر تحديدًا: اتّساع الهيمنة التي تتمّ من خلال المجتمع المدنيّ، يُفسّر غرامشي فشل الثّورات في أوروبّا الغربيّة بداية القرن العشرين، رغم أنّها مهد الصناعة والرأسماليّة والطبقة العاملة الصناعيّة، ونجاحها في روسيا (المتأخّرة عن ركب التحوّلات الرأسماليّة)، “ففي روسيا، كانت الدولة [المجتمع السياسيّ] هي كلّ شيء، وكان المجتمع المدنيّ بدائيًّا وهلاميًّا. في الغرب، كانت هناك علاقات تامّة بين الدولة والمجتمع المدنيّ، وعندما اهتزّت الدولة، فإن أساسًا متينًا من المجتمع المدنيّ ظهر في الحال. كانت الدّولة مجرّد خندق أماميّ، يتموضع خلفه نظام قويّ من الحصون والمتاريس.”(9)

واضحٌ من تعليق غرامشي أن الهيمنة الناتجة عن نشاط المجتمع المدني، وارتباطه الضمنيّ والعميق بالسلطة، أهمّ بكثير من القوّة الإكراهيّة التي لا يمكن لها أن تحمي الجبهة الدّاخليّة، بل العكس: تخلق التوتّرات والاستقطابات، في حين تعمل الهيمنة الناتجة عن نشاط المجتمع المدنيّ على خلق استتباب ذاتيّ للأمر، وتمسّك بالدولة، ينبع ظاهريًّا وبديهيًّا من داخل المجتمع، لصالح السُّلطة.

ملاحظات غرامشي مُطبّقةً على أحوال المنطقة العربيّة في القرن الحادي والعشرين

على صعيدنا العربيّ المعاصر، تقودنا هذه القراءات الغرامشيّة إلى عدّة ملاحظات:

الأولى: أن السّلطة في الكيانات الوظيفيّة التي نشأت في المنطقة العربيّة بعد فترة الاستعمار، وبتدميرها المُمَنهج لنشوء و/أو تطوّر أي قوى مجتمعيّة مُسيّسة (كالأحزاب، والنقابات، وأطر العمل الأهليّة والشعبيّة)، وتحجيمها وإلحاقها لما هو قائم منها (الصحافة، الجوامع، وكلّ العناصر الأخرى للوجود “الخاصّ” – private)، لم تترك لنفسها إلا خيار القوّة الإكراهيّة في التّعامل مع الناس، وجرّدت نفسها من إمكانيّات الهيمنة (الأعمق) بالمعنى الغرامشيّ، وبالتالي فهي في حالة مستمرّة من “الاهتزاز” الذي يضعها دومًا على الحافّة، تحفر قبرها بيدها، دون وجود قوى داخليّة فعليّة تدفع بها إلى حتفها، فتظلّ –والحال هذا- تمارس القمع داخليًّا، مُضيفة المزيد إلى اهتزازها، بينما تعزّز وضعيّتها –وبالتّزامن- في موقع التبعيّة (إقليميًّا ودوليًّا)، إذ أن اليد الخارجيّة أقوى وأقدر على السير بوضعيّة الحافّة إلى نهاياتها، وبهذا يمكن القول أن السّلطة (بتدميرها وإلحاقها لعناصر المجتمع المُسيّس، والمساهمة بتعزيز تبعيّتها)، تحفر قبرها بيدها، لكنّها –ومن جهة أخرى- تُضعف وتُعطّل وتفكّك القوى الداخليّة التي يمكن أن تدفنها في هذا القبر(10).

الثانية: أن الجزء الأكثر “استقلاليّة” عن السّلطة في قطاعات المجتمع المدنيّ (بالمعنى الغرامشيّ) في المنطقة العربيّة اليوم، هو قطاع المنظّمات “غير الحكوميّة” التي تتلقّى تمويلها، ودعم وجودها، من مؤسسّات دوليّة مانحة، تتبع مباشرة، أو تتلقى تمويلها من، حكومات دول قويّة ومؤثّرة إقليميًّا أو دوليًّا (يبدو وصف “غير الحكوميّة” هنا مُثيرًا للسّخرية). ترتبط استراتيجيّات عمل هذه المنظّمات “غير الحكوميّة”، وبرامجها، وأنشطتها، بمصالح هذه الدوّل المُتمرّسة في الهيمنة الداخليّة والخارجيّة؛ دولٌ تمتلك خطابًا عميقًا وأدوات أكثر منهجيّة ومرونة و”مصداقيّة” وإقناعًا وتأثيرًا وفاعليّة. يؤدّي هذا الارتباط (المباشر أو الضمنيّ) إلى تحوّل “المجتمع المدنيّ” (بالمعنى المتداول اليوم) إلى امتداد لهيمنة دول المصدر، ليشكّل إضافة نوعيّة للوضع المهتزّ للسُّلطة من جهة، ومنافذ لإمكانيّات ولوج النّفوذ والتدخّل الخارجيّين عند الحاجة، من جهةٍ أخرى. هذا مثال على أن الهيمنة (بالمعنى الغرامشيّ)، في سياق الرأسماليّة المُعولَمة، وفي سياق الكيانات الوظيفيّة وتبعيّتها، صارت –إلى حدّ كبير- خارج نطاق تأثير المجتمع السياسيّ المحليّ الذي تُرك له جزءٌ من وظيفة الإكراه، وانتقلت لكونها جزءًا من عناصر المراكز الرأسماليّة نفسها، ويمكن الاستدلال على هذه الهيمنة العالميّة بوضوح من خلال أنماط الاستهلاك العالميّة شبه الموحّدة، والأشكال والتنظيمات المدينيّة المُستنسخة عن النموذج الرأسمالي الأميركيّ المركزيّ في كل أنحاء العالم، ونفوذ مؤسّسات النّظام الرأسماليّ (صندوق النّقد والبنك الدّوليّين) عالميًّا.

الثالثة: مع أن مفهوم “الدّولة” عند غرامشي غير جليّ بشكل كامل، إلا أن الواضح أنّه يعتبرها هيكلًا خارجيًّا لفواعل داخليّة يمثّلها (بشكل عامّ) المجتمعين السياسيّ والمدنيّ، وأن المشروع الثوريّ لغرامشي يقضي باستبدال منظومة الإكراه/الهيمنة للمجتمع القديم (الرأسماليّ) بمنظومة هيمنةٍ أخرى (أكثر رفعة، أو “تمدّنًا” بتعبير غرامشي) هي سلطة اتّحاد العمّال (شمال إيطاليا) والفلّاحين (جنوبه) مع الحفاظ النسبيّ على هذا الهيكل العامّ باعتباره رافعة اجتماعيّة وسياسيّة ضروريّة. فلنتذكّر أن “دولة” غرامشي كانت فيها صناعات ناشئة تحميها الدّولة (على رأسها مصانع “فيات” في تورين حيث تشكّل الوعي السياسيّ لغرامشي، وفيها تأسّست -بمشاركته وقيادته- مجالس العمّال، وصحيفة النّظام الجديد، والحزب الشيوعيّ الإيطاليّ)، وطبقة عاملة خاضت نضالات وإضرابات جذريّة، ووحدة فتيّة نسبيًّا لمجالٍ سياسيّ كان قبلها مُدنًا مُتفكّكة، أي: عناصر دولة سوق موطنيّة واعدة يمكنها أن تسير على طريق التطوّر الرأسماليّ نحو الشيوعيّة(11). في المنطقة العربيّة اليوم، ليس ثمّة دول من هذا النّوع، ولا إمكانيّة لنشوء مثلها في ظلّ تمدّد المراكز الرأسماليّة ليشمل نفوذها (وإعاقتها لتطوّر غيرها من البلدان عن السّير على ذات الطريق) كامل مساحة العالم. ليس لدينا “دول” في المنطقة العربيّة، بل كيانات وظيفيّة، تعمل مجموعاتها الحاكمة على تدمير إمكانيّات تنميتها، وتعزيز تبعيّتها (فهذه وظيفتها الأساسيّة تجاه المجال الخارجيّ الذي يرعى استمراريّتها). لذا، أرى أن “الدولة” في المنطقة العربيّة، إذ تتّخذ صيغة الكيان الوظيفيّ، ليست سوى أداةٍ لتعزيز وظيفيّة المجموعة الحاكمة، وفرض سطوتها، وتعزيز تسلّطها وإعادة إنتاجه، وهي (بحكم وظيفيّتها المرتبطة بالتقسيمات الاستعماريّة التي أنتجتها) جزءٌ أساسيٌّ من منظومة السّيطرة (الداخليّة) والهيمنة (الخارجيّة)، أداة مهمّة لترسيخهما، لا مجرّد مساحة جغرافيّة-سياسيّة محايدة لهما(12).

في تقديمهما للطبعة الألمانيّة لعام 1872 من البيان الشيوعيّ/المانيفستو، كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز استنتاجًا وصلا إليه بتأثير من التّجربة الفعليّة لسلطة العمّال، المتمثّلة بكُمْيُونَة باريس: “شيءٌ واحد أثبتته الكُمْيُونَة بشكل خاص، وهو ’أن الطبقة العاملة لا يمكن لها أن تضع يدها –ببساطة- على جهاز الدّولة المصنوع مسبقًا، وتستخدمه لأغراضها‘.”(13) بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى الدولة البرجوازيّة نفسها، والتي هي دولة بحقّ، كإطار للعمل التحرّري إذ تتماسك وتتعاضد أجزاؤها بعلاقات القوّة التي تحكمها، فكيف الأمر ونحن نتحدّث هنا عن كيانات وظيفيّة تتماسك بعلاقات الفساد والتنفيع والإكراه والتبعيّة والزبائنيّة؟

البرلمانات الصوريّة باعتبارها أسواقًا سياسيّةً سوداء

امتدادًا لمفهوميّ الإكراه والهيمنة، وأشكال “المؤسّسات” الجوفاء التي تُميّز الكيانات الوظيفيّة، يعتبر غرامشي وجود برلمان صوريّ مُفرغٍ من مضمونه، ونظامٍ حزبيّ شكليّ، أخطر من البرلمانيّة الواضحة، البيّنة، الصريحة، الفعّالة(14)، فالأول يحمل عيوب الثانية دون إيجابيّاتها، ويلعب دور “الأسواق السوداء، أو أشكال اليانصيب غير القانونيّ عندما يتم إغلاق الأسواق الرسميّة وأشكال اليانصيب الشرعيّ لسبب أو لآخر”(15). هذه المنظومة الديكوريّة(16) تلعب دورًا تعويضيًّا نسبيًّا عن غياب المجتمع المدنيّ ودوره في الهيمنة في المنطقة العربيّة، وتشكل دعامات خلفيّة ضعيفة، ولكنّها مركزيّة، لسلطة الإكراه؛ شيء يشبه دور الجمعيّات الخيريّة في سياق الرأسماليّة: فبينما تُنتج الرأسماليّة أزمات كبرى تتمثّل في الفقر وانعدام المساواة والعدالة والتفاوت الهائل في الدّخل وتدمير البيئة، تعمل الجمعيّات الخيريّة على التّرقيع الموضعيّ لهذه الأزمات، وتنفيس آثارها قبل أن تصل إلى نقطة انفجار الجياع، ويتمّ ذلك بواسطة جيوب الناس الخاصّة، وتطوّعهم أحيانًا كثيرة دون أجر، الأمر الذي يعمل على مساعدة واستدامة النّظام نفسه الذي ينتج هذه الظواهر من جانب، والتّعمية على دوره في إنتاج الظّلم عبر التّركيز على المسؤولية الفرديّة والشخصيّة (سواءً فيما يتعلّق بالفقر، أو بالعَطَاء) من جانب آخر.

مارس غرامشي هذه القناعة بشكل حقيقيّ أثناء عضويّته في البرلمان الإيطاليّ، وخلال الأيام الأخيرة التي سبقت إحكام الفاشيّة قبضتها على البلاد، واعتقاله، فـ”انضم غرامشي والنواب الشيوعيّون الآخرون إلى المعارضة البرلمانيّة، لكنّه أصرّ على استحالة العمل بفاعليّة من داخل [إطار ومُحدّدات] الدّستور. اقترح [غرامشي] إعلان إضرابٍ عام ضدّ الفاشيّة، لكن الأحزاب الأخرى رفضت الاقتراح، وظلّت على عماها تعتقد أن القوّة تكمن في البقاء داخل إطار القانون بانتظار تدخّل الملك.”(17)

ما أشبه اليوم بالبارحة، فما زالت كثرة من القوى السياسيّة والمجتمعيّة المختلفة تعتقد –بسذاجة- أن “القانون” و”الدستور” وتفريعاتهما هي أطر كليّة فوقيّة مُحايدة، لا تاريخيّة، تسري على الجميع بحزمٍ متساوٍ، دون أن تدرك أنّها مجرّد تعبيرات سياسيّة عن مصالح السّلطة (الطبقة المُهيمنة في حالة “الدولة”، والمجموعة الحاكمة في حالة “الكيان الوظيفيّ”)، وقواعد للّعبة تضعها للآخرين، وتَنتج أساسًا عن توازنات القوى داخل المجتمعات ذات العلاقة، أو عن التوازنات الإقليميّة والدوليّة (كما في حالة المعاهدات والاتفاقيّات)، أو عن سطوة الرأسماليّة وأدواتها التدخّليّة (كما في خطط إعادة الهيكلة الاقتصاديّة والخصخصة ورفع الحماية عن المُنتجين المحليّين في الأطراف)، وعندما تتغيّر موازين القوى، أو تتغيّر مصالح السّلطة، أو تحوز القوى الاقتصاديّة العالميّة على إمكانيّات تدخّليّة أكبر، يُلقى بما هو غير مناسب من الدّساتير والقوانين في القمامة، مثلما حصل مع غرامشي نفسه (تمّ اعتقاله على الرّغم من حصانته كعضوٍ في البرلمان، ومات في سجنه)، ومثلما يحصل يوميًّا في المنطقة العربيّة من خروقات واضحة للدّساتير والقوانين من قبل السّلطة التي وضعتها، كمثالٍ يوضّح الطبيعة الإكراهيّة-العنفيّة المرنة لأطر تبدو خارجيًّا مُحايدة وكليّة وصلبة؛ أمّا التمنيّات المتعلّقة “بضرورة أن يطبّق القانون على الجميع”، فهذه لن تتجاوز مربّع الطوباويّة التمنيّاتيّة، إن لم تقترن بتغيّرٍ يفرضها في موازين القوى.

التقويض الفعّال: استنتاجات غرامشيّة مُهمّة لثوريّي القرن 21

من الواضح اليوم أن العمل التغييريّ من داخل إطار “الدولة” أو الكيان الوظيفي، في وضع تمتلك فيه السّلطة كامل قدرات السّيطرة والعنف، مضافًا إليها إمكانيّات الإغواء والاحتواء في ظلّ عدم وجود تنظيمات حقيقيّة قادرة على استبدالها، هو شكل من أشكال التفريغ المستمرّ للأزمات والغضب الناتج عنها، وهو أيضًا آليّة تُساعد المجموعات الحاكمة على اشتقاق إمكانيات وظيفيّة أخرى ومستجدّة لنفسها، تطيل بها عمرها، وتؤخّر به دفنها في القبر الذي تحفره لنفسها(18).

يقول غرامشي (وسأقتبسه مطوّلًا للأهميّة): “إن فقدت الطبقة الحاكمة الإجماع، أي أنّها لم تعد ’تقود‘ بل ’تسيطر‘ وحسب، تمارس القوّة الإكراهيّة فقط، فإن هذا يعني أن الجموع قد انفصلت عن أيديولوجيّاتها التقليديّة، ولم تعد تعتقد بما اعتقدت به في السابق [بخصوص السّلطة]”(19)، وتتشكّل بذلك “أزمة النفوذ” التي تخلق “مباشرةً أوضاعًا خطيرة، لأن الشرائح المختلفة من المجتمع لا تملك نفس القدرة على إعادة التموضع أو إعادة تنظيم نفسها بنفس الوتيرة. الطبقة الحاكمة التقليديّة، والتي تملك موظّفين كثيرين مُدرّبين، تُغيّر البرامج والشخصيّات، وتعيد مسك زمام التحكّم الذي كان بدأ بالتملّص منها، بسرعةٍ أكبر من الطبقات الخاضعة؛ كما تقوم [الطبقة الحاكمة في هذه الأوضاع] بتقديم التّضحيات، وتعريض نفسها لمستقبلٍ غير مأمون العواقب، بإطلاق وعودٍ ديماغوجيّة، لكنّها تُحافظ على السّلطة، وتقوّيها للفترة الرّاهنة، وتستخدمها لسحق خصومها وتفريق قياداتهم، وهؤلاء لا يمكن أن يكونوا كثرًا، أو مدرّبين بشكل جيّد.”(20)

ربّما يجد القارئ في الفقرة أعلاه، ما يحيله مباشرة إلى مصير الانتفاضات المعاصرة في أكثر من بلد عربيّ؛ انتفاضات انطفأت بتحرّكات للسّلطة على نفس المسار الذي أوضحه غرامشي قبل قرن من الزمان. الحلّ؟ يمكن استنتاجه من غرامشي في سياق آخر شبيه: “الدرس من السّنتين الحمراوين [في إيطاليا، 1919 و1920 اللّتان حصلت فيهما التحرّكات الثوريّة للعمّال في تورين، وفشلت] هو أنه كان على القوّة الثوريّة أن تكون موجودة قبل تلك اللحظة.”(21) ينبغي إذًا التّحضير للثورة مُسبقًا قبل انفجارها، والتأسيس لها، لا انتظار الانتفاضات الشعبيّة ليبدأ التّفكير بعدها، وهذا التّحضير، والبناء اللازم له، يجب أن يتمّ خارج أطر سيطرة السّلطة بالكامل، وضمن ثنائية الهدم-إعادة البناء(22) التي يمرّ عليها غرامشي عَرَضًا في كتاباته، وفي إطار ما تسميّه روزا لوكسمبورج “المهمّة التاريخيّة للبروليتاريا”: تصفية الدولة الموطنيّة المعاصرة باعتبارها “الشكل السياسيّ للرأسماليّة”(23)، وامتدادًا لذلك: تصفية الكيانات الوظيفيّة باعتبارها الإطار الفعّال الذي تعمل من خلاله الرأسماليّة في الأطراف. من هذه التّصفية/الهدم-إعادة البناء، سأصوغ ملامح أوليّة لما سأسميّه: التّقويض الفعّال.

يمثل “التّقويض” عند غرامشي (وبالمفهوم “الإيطاليّ”، كما يورد) موقعًا طبقيًّا سلبيًّا، وينتج عن كون النّاس لا يعون بوضوح أن لديهم “أعداء [طبقيّين]”، فيعرّفونهم بشكل عموميّ باعتبارهم “السّادة – signori”(24)، وهو ما نجده بتناسخٍ آخر اليوم، حين يشير الناس إلى “الفاسدين”، باعتبارهم كتلة غير واضحة المعالم، تنهال عليها الشتائم، ولا يمكن الإمساك بها فعليًّا، وغير مُحدّدة طبقيًّا، في حين تندرج المُمارسات التقويضيّة مثل: سرقة الكهرباء والماء من الشبكة العموميّة، وتشغيل السيّارات الخاصّة كسيّارات أجرة للعموم خارج إطار التّرخيص الرسميّ، وبيع المنتجات دون فواتير وإبقائها خارج النّظام الضريبيّ للسُّلطة، وصولًا إلى إلقاء القمامة في الشوارع، وغيرها من أمور، ضمن أشكال الفِعْل الفرديّة والانتقاميّة المضرّة نسبيّة بالسُّلطة، لكنّها لا ولن ترقى إلى التحوّل إلى قوّة منهجيّة وواعية وثوريّة.

مقاربة التقويض الفعّال تتضمّن عنصر البناء المرافق دومًا للهدم، ففي موازاة تعرية عناصر الإكراه والسّيطرة، وتفكيك أشكال البرلمانيّة والحزبيّة الشكليّتان، ودفع السُّلطة بشكل مستمر إلى نقطة “أزمة النفوذ”، يُشيّد بموازاة مساحات السُّلطة، وخارج مناطق نفوذها، مساحاتٌ لـ”الحكم الذاتيّ”، يرد ذكرها في برنامج صحيفة غرامشي، النّظام الجديد، بخصوص العمّال، لكن يمكن تعميمها على قطاعات المُضطهَدين بشكل أوسع: “فلندرس المصنع الرأسماليّ، لا باعتباره منظّمة للإنتاج الماديّ (…) بل كإطارٍ ضروريٍّ للطبقة العاملة؛ باعتباره كائنًا سياسيًّا حيًّا؛ باعتباره ’المساحة الموطنيّة‘ للحكم الذّاتي للعمّال.”(25) تشكّل هذه المساحات مختبرات الممارسة الفعليّة لأشكال المجتمعات المستقبليّة، وتطوير أدواتها، لتكون جاهزة لحظة صعود الأزمة إلى نقطة الانفجار.

الهوامش:

Antonio Gramsci, The Modern Prince and Other Writing, translated by Luis Marks, International Publishers, 2016 (1957), p. 57

Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith, International Publishers, 2018 (1971), p. xiii

Antonio Gramsci, Prison Notebooks Vol. I, edited by Joseph A, Buttigieg, translated by Joseph A. Buttugieg and Antonio Collari, Columbia University Press, 1992, p. 1

The Modern Prince, p. 101

نفس المرجع أعلاه، نفس الصفحة.

Selections, p. 276

The Modern Prince, p. 152

برادراغ غرانيكي، أنطونيو غرامشي ومعنى الإشتراكيّة، في: جاك تكسيه، غرامشي: دراسة ومختارات، ترجمة: ميخائيل إبراهيم مخول، مراجعة: جميل صليبا، دمشق: منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1972، ص 237

Selections, p. 238

للمزيد حول هذا الموضوع، أنظروا: هشام البستاني، النظام العربي مُنتجًا موته: قراءة تطبيقيّة في الحداثة السائلة، حبر، 31 كانون الثاني 2017،   (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020)

أنظروا تعريفاتي حول “الموطنيّ” و”الموطنيّة” مقابل “القوميّ” والقوميّة” و”الوطنيّة” في: هشام البستاني، عندما يُخطئ لينين: حق تقرير المصير في عالم السوق المفتوح والكيانات الوظيفيّة، حبر، 24 تشرين الأول 2017،  (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020)

للمزيد عن تعريفي للكيانات الوظيفية وأفق عملها أنظروا: هشام البستاني، التبادل الوظيفي للدول الوظيفيّة، الإصرار على حل الدولتين في فلسطين، حبر، 22 حزيران 2017،

/ وأيضًا: هشام البستاني، لم يسقط حُكم الصّندوق: كيف تُوظّف السّلطة الحركات الاحتجاجيّة لتمكين اللّبرلة والتسلّط، حبر، 20 آب 2019،  (تم الدخول إلى الرابطين يوم 2 نيسان 2020).

Karl Marx and Friedrich Engels, The Communist Manifesto, Penguin, 2002 (1888), p. 194

في نقد “البرلمانيّة” وآثارها الاحتوائيّة لصالح الرأسماليّة،
أنظروا: Rosa Luxemburg, Social Democracy and Parliamentarism, Rosa Luxemburg Internet Archive (marxists.org), 2000 (1904), (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).

Selections, p. 255

عضو مجلس النواب الأردني المخضرم عبد الكريم الدغمي يقول: “نحن مجرّد ديكور”، في: برنامج صوت المملكة، قناة المملكة، 19 تشرين الثاني 2019،  (تم الدخول إلى الرابط يوم 2 نيسان 2020).

The Modern Prince, p. 17

أنظروا: هشام البستاني، لم يسقط حُكم الصّندوق: كيف تُوظّف السّلطة الحركات الاحتجاجيّة لتمكين اللّبرلة والتسلّط، مذكور سابقًا

Selections, pp. 275 – 276

The Modern Prince, pp. 174 – 175

Chris Bamberg, A Rebel’s Guide to Gramsci, Bookmarks, 2006, p. 55

Selections, p. 168

Rosa Luxemburg, The National Question (1909), in: Horace Davis (ed.), The National Question: Selected Writings By Rosa Luxemburg, Monthly Review Press, 1976، ويمكن الوصول إلى الكتاب من خلال أرشيف الإنترنت الماركسيّ:  (تم الدخول إلى الرابط بتاريخ 2 نيسان 2020)

Selections, p. 272

The New Prince, p. 23

نفس المرجع اعلاه، ص ص. 66 – 67

نفس المرجع، ص 124

نفس المرجع، ص 81

نفس المرجع، ص 73

قد يعجبك ايضا