هل الرأسمالية هي الحل الوحيد الممكن؟ … في نقد استخدام مُصطلح “التنمية المستدامة” من قِبَل الأمم المتحدة / الطاهر المعزّ

الرأسمالية والاشتراكية: ما هي قصة الخلاف؟!

الطاهر المعز ( تونس ) – السبت 4/7/2020 م …

يختلف مفهوم النمو، وهو مفهوم كَمِّي، قياس زيادة حجم الإقتصاد أو الناتج المحلي الإجمالي، أما التنمية فهي مسألة نوعية، وتشمل مكونات المُجتمع والمُحيط، ونوعية حياة البشر، ويُسْتَخْدَمُ مُصْطَلح “التنمية المُستدامة” كنظرة مُسْتقبَلِية، تشمل حُسْن استغلال الموارد الطبيعية والبَشَرية، وتُخَطِّطُ لمُستقبل الأجيال القادمة، ويُشكّل استخدام هذا المُفهُوم تَطَوُّرًا في تاريخ الإقتصاد السياسي، ولكن الشركات العابرة للقارات تلقّفَتْهُ وأصبحت تستخدمه “كقيمة زائدة”، بغاية زيادة الأرباح، ما جعل من هذها التطور، تطورًا “نَظَريًّا” أو افتراضيًّا، “على الوَرَق”، أي تطورًا في استخدام اللغة، دون أن يوازيها تطور في الواقع، أو في الممارسة…




تنشر منظمات الأمم المتحدة العديد من التقارير الجيدة، لأنها تحتوي الكثير من البيانات والأرقام، وأحيانًا مع تحليلات جيدة، لكن  غالبًا ما تكون الاستنتاجات والتوصيات أقل جودة، أو غير متناسبة مع الواقع.

اعترف إعلان الأمم المتحدة بشأن الحق في التنمية، سنة 1986، لأول مرة ، بالحقوق الجماعية للشعوب، أو التنمية بمفهومها الواسع، لتشمَلَ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية، وكذلك حق العيش في بيئة سليمة، وأصبحت منظمات الأمم المتحدة (منها، “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” ) والمنظمات “غير الحكومية” وبعض الأحزاب السياسية، تستخدم، بل تتبنى مفهوم “التنمية المستدامة” الذي يدمج قضايا البيئة وحقوق الإنسان، الفردية والجماعية، لكن ذلك بقي في مُستوى النّوايا الحَسَنَة، لأن الشركات متعددة الجنسيات نجحت في الإلتفاف على هذا المفهوم وأفرغته من كل مُحتوى إيجابي.

تدعو الأمم المتحدة، – ضمن تأويلاتها لمفهوم التنمية المُستدامة” – إلى “المساعدة الإنمائية”، أي مُساعدة الدّول الغنية، أو ما تُسمّى اصطلاحًا “دول الشمال”، للدول الفقيرة ( أو “دول الجنوب” ) لكي تُمكّنها بفضل رؤوس الأموال والتكنولوجيا والخبرات، لكي تتمكن البلدان الفقيرة من “اللحاق بركب النّمو”، وهو ما ينْسِف مفهوم “التنمية المُستدامة”، فالغني لا يُساعد الفَقِيرَ لكي يُنافسه في الثراء، وهذا ما تدعو إليه الأمم المتحدة.

إن “التعاون الدولي” ليس سوى وهم ، خاصة وأن مستشاري المصارف والشركات الكبرى، تكفلوا بكتابة جزءٍ كبيرٍ من تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لأن هذه المصارف والشركات متعددة الجنسيات تتقبل هذه الفكرة (فكرة النمو المُستدام)، على أن تتصرف في محتواها، فهي (الشركات) تعتبر “الطبيعة” موردًا أو مُكونًا أو عُنْصُرًا من مكونات الإنتاج، يندمج في حساب “سعر تكلفة الإنتاج”، لذا فإن احترام البيئة يزيد من سعر المنتجات، من جهة أخرى، بَرعت الرأسمالية وشركاتها في دراسة الأسْواق، وابتكار منتوجات جديدة غير ضرورية بالمرة، وخلق احتياجات جديدة، وغزو أسواق جديدة، وتستخدم ( من أجل تحقيق هذه الأهداف ) مُصطلحات ومفاهيم جديدة، وهذا يفسر الاستخدام المتكرر لمفاهيم “حقوق الإنسان” و “احترام الطبيعة والبيئة”، خاصة وأن “المستهلك” يدفع ثمن “احترام حقوق الإنسان”، ويُسدّد المُستهلك ثمن “احترام البشر ومحيطه” (وهو احترام افتراضي وليس في الواقع)، بينما تُحقق هذه الشركات أرباحًا حقيقية، ويتضخم رصيدُها المصرفي، ونفوذها الإقتصادي والسّياسي…

يتضمّن تقرير “الحق في التنمية”، ضمن مفهوم الأمم المتحدة ل”التنمية المُستدامة”، دعوة “للمساهمة المالية من الشمال لتنمية الجنوب”، وهذا يتطلب نقدًا لمفهوم العلاقات الدولية وتناسي الأمم المتحدة (ولا يُشكل ذلك مفاجأة)  مسألة الإستعمار الجديد، وتغيير أساليب الهيمنة، فقد حلّت (ضمن هذا التّغْيِير في أساليب الهيمنة) “الاستثمارات الأجنبية المباشرة” محل الجيوش في عملية الهيمنة على دول “الجنوب”، فيما تتخذ الثروة، والمهارات والخبرات البشرية، والأرباح المسار المعاكس، أي من الجنوب إلى الشمال، يُفَسِّرُ اتساع الفجوة الآخذة بين هذين القطبين، بشكل مستمر ومُتسارع، ليَحُلَّ النّهْب المُستدام، محل النُّمُو المُسْتدام، ومنذ إعلان الأمم المتحدة “الحق في التنمية”، اتّسعت الهُوّة وزادت وتيرة التبادل غير المُتكافئ، وزادت تبعية بلدان الجنوب، للرأسمالية الإحتكارية والمُعَولَمة، وأدّت التأثيرات السّلْبِية لهذا “التقاسم العالمي للعمل”، إلى احتجاج الشعوب التي نُهِبَتْ ثرواتها، وانخفض مستوى عيشها (السّيّء أصْلاً)، من قِبَل شركات متعددة الجنسيات، يحرُسُ مصالحها حُكّام محلّيون، يتمثل دورهم في السّهر على مصالح الشركات العابرة للقارات، بغطاء من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وبتأييد من الأمم المتحدة أو ما يسمى “المجتمع الدولي” …، ولكن هذه الإحتجاجات لم تُؤَدِّ (لحد الآن) إلى تغيير موازين القوى التي تحكم العلاقات الداخلية (بين الطبقات) أو بين الدّول، فتغيرت أحيانًا بعض الرموز، أو بعض التحالفات والإئتلافات، لكن لم تتغير مهمة أنظمة دول “الجنوب” (بشكل عام)، وبقيت متمثلة في السّهر على مصالح دول “الشمال” والشركات المتعددة الجنسيات التي تنهب الثروة وتستغل العمال وتضطهد الناس.

لا يعترض إعلان الأمم المتحدة بشأن “الحق في التنمية” على هذه الآلية الاستعمارية الجديدة، بل يؤيدها، مع بعض الإصلاحات، مثل زيادة الإستثمارات (التي يُسميها إعلان الأمم المتحدة “مُساعدات التنمية”)، وتُبَيِّنُ الوقائع أن “المساعدة الإنمائية” مُجرّد خُرافة أو وَهم، بل هي مُغالَطَة مقصودة، فحكومات دول “الشمال” والشركات العابرة للقارات هي التي تحدد احتياجات شعوب الجنوب، من خلال ما يسمى “المساعدة الإنمائية”، وصمّمت الشركات معايير هذه الإحتياجات، لتُساوي بين الجميع (شُكْرًا على “المُساواة” !!! )، عبر ترويج وبيع نفس المنتجات في كافة البلدان، دون مراعاة الأولويات والحاجات الحقيقية للناس، وهي سياسات وقع إقرارها خلال اللقاء المُسمّى “وفاق واشنطن” (منتصف حزيران/يونيو 1989)، ليفرض صندوق النقد الدولي والبنك العالمي نفس المنطق، ونفس الشروط على جميع البلدان التي تلجأ إلى الإستدانة (الخصخصة وإلغاء دعم السلع الأساسية وخفض إنفاق الدّولة…)، وعدم مُراعاة خصوصيات كل دولة وكل شعب، وتندرج هذه الخطط ضمن ما يسمى بـ “العولمة” الرأسمالية: مفهوم واحد للتنمية مفروض على جميع سُكان العالم، خدمةً لمصالح الشركات متعددة الجنسيات، ومصالح أقلية من الأثرياء، ضد غالبية الإنسانية، دون الاهتمام بمستقبل الأجيال القادمة…

ما تُسمّيه الأمم المتحدة “القانون الدولي”، مجرد وهم. إن الأمم المتحدة (وخاصة مجلس الأمن) ومنظماتها المتعددة هي أداة بيروقراطية، وأحيانًا عسكرية، تعمل ضد مصالح الشّعوب، وقد عانى، ولا يزال الشعب الفلسطيني يُعاني ( وشعوب أخرى أيضًا) من تطبيقات “القانون الدّولي”، لأن الأمم المتحدة مُجرّد أداة في أيدي القوى العظمى.

أما الشركات العابرة للقارات فتنتهك الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحق في بيئة صحية، لكنها تَتَمتّع بالحصانة المُطلَقَة، التي تُمكّنها من الإفلات التام من العقاب، بل إن هذه الشركات قادرة على خلق صعوبات مالية، وعلى إثارة الأزمات التي تُؤدّي على الإطاحة بالحكومات التي تعتبرها “معادية”، وهي كما ذَكَرْنا، تتمتع بغطاء الدّول الغنية، وبتواطؤ حكومات دول “الجنوب” وبغطاء  صندوق النقد الدولي والبنك العالمي اللّذَيْن يُطالبان الدّول (قبل منح القروض) بإقرار قوانين مواتية لمصالح رأس المال والشركات المتعددة الجنسيات ، ضد مصالح مواطنيها

لهذه الأسباب ، فإن استخدام مفهوم “التنمية المستدامة” لا يمكن أن يؤدي إلى التقدم مع احترام السكان وبيئاتهم.

لا يمكن تحقيق “التنمية المستدامة” إلا من خلال تصميم جماعي للإنتاج، وللعمل، واستخدام وتطوير المَعارف والخبرات المتوارَثَة على مر الأجيال، بهدف تلبية الاحتياجات البشرية مع الحفاظ على الموارد للأجيال القادمة.

إن من حق الشعوب، ومنظماتها الشعبية والعمالية أن تتحرر من هيمنة رأس المال، ومن منطق الربح، لِتُصمِّمَ مخططات أخرى، وتتصور أشكالاً أخرى للعلاقات وللإنتاج، وتُنجز وتحقق برامج أخرى، بمفاهيم مُغايرة، من أجل مستقبل الإنسانية، ولن يكون ذلك سوى من خارج المنظومة الرأسمالية، ونقيضًا لمصالح الشركات متعددة الجنسيات…

لا يمكن قُبُول دكتاتورية صندوق النقد الدّولي (ومن ورائه الإمبريالية وشركاتها) لِفَرْض نموذج التنمية، ولفرض شروط تتعارض مع تطلّعات ومصالح أغلبية المواطنين في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، ويمكن الإقتداء ببعض التجارب ( خصوصًا في أمريكا الجنوبية )، إذ حققت الشعوب بعض النتائج الإيجابية (وإن كانت جزئية ) بعد سنوات من الصراع والمواجهة المستمرة، فقد اضطرت الشركات متعددة الجنسيات إلى مراعاة الحد الأدنى من مقاييس احترام البيئة (المياه والغابات والأراضي الزراعية وما إلى ذلك)، ولئن لم يتم حل المشاكل برمتها، فإن انتصارًا صغيرًا، من حين لآخر، يمنح الناس أملاً، وفرصة لمواصلة الصراع، لأن تحقيق أي مُكتَسَب صغير يتطلب نضالًا مفتوحًا وحادّا، وضغطًا قويًا على الحكومات والنواب والأحزاب السياسية، لإجبارهم على مراعاة احتياجات السكان

قد يعجبك ايضا