ما بعد الواقعية فلسطينياً وعربيّاً … حقوقنا والمطلوب / د. فايز رشيد

د.  فايز رشيد ( فلسطين ) – الخميس 4/6/2020 م …

كانت الواقعية والبراغماتية والابتعاد عن المثالية، الأسباب الرئيسية وراء توقيع اتفاقيات «السلام» العربية مع دولة الكيان الصهيوني، وقبولها عربيا كدولة في المنطقة، والتطبيع العلني والسرّي معها، وفتح مكاتب تمثيل لها في بعض العواصم العربية، رغم اغتصابها لكل فلسطين وبعض الأرض العربية .
بحجة أن إسرائيل دولة قوية، تستحيل هزيمتها بالحرب، خاصة أن حلفاءها أمريكا والدول الاستعمارية الأخرى، وأن الحرب معها ستكون خاسرة، أما استعادة الأراضي العربية المحتلة، فلن تكون إلا من خلال المفاوضات السياسية، بهذا الفهم، الذي أقل ما يقال عنه، أن منفذيه لم يقرأوا عدوهم جيدا، ولم يدركوا حقيقته ولا عدوانيته المتناهية، ولا طمعه باحتلال المزيد من الأرض العربية.
بعد وفاة عبدالناصر عام 1970 تم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وأوسلو ووادي عربة، على الرغم من القانون المعروف، الذي ردده عبد الناصر «ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ بغير القوة»، وقرارات قمة اللاءات الثلاثة في الخرطوم أ(غسطس/آب عام 1967: لا صلح، لا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني).
الواقعية هي مدرسة نظرية في العلاقات الدولية، كما وصفها جوناثان هاسلام، «هي مجموعة من الأفكار التي تدور حول المقترحات المركزية الأربعة»  السياسة الجماعية، الأنانية، الفوضى والقوة السياسية»، نظريات الواقعية السياسية، وضعها توماس هوبز ونيكولو ميكافيلي كنهج للعلاقات الدولية، وكان التأصيل الحقيقي للنظرية من قبل هانز مورجانثو في كتابه «السياسة بين الأمم» حيث أرسى فيه أهم مفاهيم الواقعية .وهي التي تعنى بتحليل السياسات الدولية، أو السياسات الخارجية للدول، وتعد بمثابة رد فعل على تيار المثالية، الذي برز بشكل ملحوظ كأحد الاتجاهات الفكرية لتحليل السياسات، عقب الحرب العالمية الأولى (الفترة التي شهدت قيام عصبة الأمم) في بلورة المفاهيم الجديدة، التي روج لها المثاليون، كمعايير لمدى توافق السياسات الخارجية للدول مع الأخلاق والسلوك المثالي المفترض أن ينتهجوه، بما يتضمنه من أدوات لحل المنازعات، والحد من الصراعات مثل، الوساطة والمفاوضات والتحكيم والقضاء الدولي. يرى مراقبون كثيرون أن الواقعية ذات نشأة حديثة نسبياً، حيث ترجع للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ففي هذه المرحلة تحول الاهتمام في دراسة العلاقات الدولية، من إطارها القانوني إلى إطارها الواقعي، بما تحمله من أبعاد متشابكة، وما تعكسه من مصالح متناقضة وما تراعيه من موازين قوى.
كانت الواقعية تحويرا لتعبيرات تبريرية ظهرت قبلها كـ»المذهب العملي» أو «فلسفة الذرائع» أو «البراغماتية»، وهذه تعبيرات فلسفية ظهرت في أمريكا عام 1870، وتُنسب أصولها إلى الفلاسفة تشارلز ساندرز بيرس ووليام جيمس وجون ديوي. وقد وصفها بيرس في وقت لاحق في مقولته البراغماتية، التي فسّرها بأنها «فكر في التأثيرات العملية للأدوات من خلال التصورالفردي»، ثم إن تصورالذات له تأثيرات في الأدوات الموصلة إلى الهدف». لذلك فهي تجمع كلمات، الفكر، أدوات للتنبؤ، حل المشكلات والعمل، وترفض فكرة أن وظيفة الفكر هي وصف الواقع أو تمثيله أو عكسه. يؤكد البراغماتيون أن معظم الموضوعات الفلسفية – مثل طبيعة المعرفة، اللغة، المفاهيم، المعنى، المعتقد والعلوم- يُنظر إليها على أفضل وجه من حيث استخداماتها العملية ونجاحاتها. لكن من الأهمية بمكان تأكيد الفيلسوف الأمريكى وليامز جيمس وتنبيهه الشديد إلى أنّ مقدار صحّة أي عقيدة مرتبط إلى حد كبير بمقدار النجاحات التي تتحقق بسبب ممارستها في الواقع. إن هذه النظرة تقع في صلب الفلسفة البراغماتية التي ارتبطت بأسماء عدة فلاسفة أمريكيين وبالممارسة السياسية الأمريكية. ومن هذه الفلسفة خرجت كلمة البراغماتية السياسية، التي تتعامل مع العالم الواقعي كما، هو وليس كما ينبغي أن يكون. لذلك مثلا: اعتبر غورباتشوف «أن السياسة هي فن الممكن». نستنتج أن كافة التعابير السابقة، اعتمدت على مفاهيم خاصة لفهم تعقيدات السياسة الدولية، وتفسير السلوك الخارجي للدول حتى بعدوانيته على الدول الأخرى، وكل الآخرين باعتمادها المبدأ التبريري للخطوات المأخوذة التي يجري تنفيذها، والتي تتحكم فيها: مصالح الدولة القوية، حتى بعيداً عن العقلانية، التي تؤدي إلى الفوضى الدولية، والتقليل من دور المنظمات الدولية، بالاعتماد على الذات القوية، تحت هاجس الأمن الذاتي والبقاء، حيث باتت تلك المفاهيم بمثابة مفاتيح للتعدي والعدوانية اعتمدتها كل المقاربات الواقعية في العصر الحديث.

حالة احتلال الأرض واغتصابها وطرد أهلها هي حالة مختلفة لا تقارب الخلاف بين دولتين على مساحة حدودية بينهما

إن حالة احتلال الأرض واغتصابها وطرد أهلها هي حالة مختلفة لا تقارب الخلاف بين دولتين على مساحة حدودية بينهما. فإسرائيل دولة أنشأها التحالف الصهيوني الكولونيالي الرأسمالي، على حساب الأرض والشعب الفلسطينيين، لتكون رأس جسر للاستعمار في المنطقة العربية، لامتصاص ثرواتها، وتسيير سياساتها، ومنع تقدمها التكنولوجي، وامتلاكها لأسلحة قوية قادرة على تهديد وجودها، لذلك فأي واقعية يجوز تطبيقها معها، تحت شعار البراغماتية يجري التطبيع مع إسرائيل، وها هي الأنباء تتحدث مؤخرا عن مباحثات سعودية إسرائيلية، بشأن مسألة مساهمة الأولى في الإشراف على الأقصى، ونتنياهو يتحدث عن علاقات سرية لإسرائيل مع العديد من الدول العربية.
اتضح تماما أن إسرائيل استغلت هذه الاتفاقيات: أوسلو لزيادة الاستيطان الإسرائيلي، ومزيد من التضييق والقتل والتنكيل بالفلسطينيين، واعتقالهم وهدم بيوتهم وخلع أشجارهم، وتهويد القدس وضمها، كما الحرم الإبراهيمي، ونتنياهو سيضم غور الأردن وشمال البحر الميت في بداية تموز/يوليو المقبل. وللعلم هناك صور موثقة لجنود وضبط إسرائيليين يضعون أقدامهم على رقاب شباب وأطفال فلسطينيين، في محاولة خنقهم وقتلهم، تشابها مع طريقة قتل الرجل الأسود جورج فلويد، وقد وضع ضابط أمريكي ركبته على رقبته وهو يصرخ ـ أريد أن أتنفس- حتى فقد أنفاسه، وقامت بالفعل انتفاضة في أمريكا. ونذكر أيضا صور تكسير عظام الفلسطينيين بالحجارة، الطريقة التي ابتدعها رابين، وهو الذي فسّر توقيعه على اتفاقيات أوسلو عند مناقشتها في الكنيست، عندما لامه اليمينيون المتطرفون على إدخال «مخربين» إلى حضن إسرائيل، قال يومها «سمحت بإدخالهم لكي أحسن مراقبتهم وأعرف ما يفعلون، ولأحكم قبضتي عليهم». بالنسبة للجولان قامت إسرائيل بضمها نهائيا. أما سيناء فقد كبّلت إسرائيل حركة الجيش المصري فيها، وممنوع دخول قطعات منه إليها إلا بموافقة إسرائيلية، ومسموح فقط لأفراد الشرطة بعدد محدود فقط بدخولها. وبعد عقد السادات لكامب ديفيد هتف الإخوة المصريون»رجّع سينا وضيّع مصر»، مع العلم أن عودة سيناء كانت مقرونة باشتراطات إسرائيلية.
اعتمدنا على الواقعية السياسية في تحصيل حقوقنا الوطنية، الواقع أننا أصبحنا في مرحلة «ما بعد الواقعية» والتعبير محدود بظرفه السياسي (مع الاعتذار لرواد مذاهب النقد الأدبي)، ولو تساءلنا كفلسطينيين وعربا.. أين أوصلتنا الواقعية؟ مع العلم أنه وعندما انطلقت ثورتنا الفلسطينية المعاصرة، انتهجت استراتيجية تحرير الأرض المحتلة عام 1948. ولما زار الرئيس بورقيبة المنطقة، وطرح مشروعه لتقسيم فلسطين جوبه بمظاهرات عارمة في كل الوطن العربي. كان تحرير فلسطين هدفا وراء كل الانقلابات العسكرية العربية. الآن زاد الاستيطان والضم، والتعنت الصهيوني ضد كافة الحقوق الفلسطينية. السلطة وفق ما يقول الرئيس عباس ستلغي كافة الاتفاقيات الموقعة في حالة الضم. عمليا حتى اتفاقيات أوسلو، على الرغم من تقزيمها لحقوقنا، ألغتها إسرائيل عندما أعاد اجتاح شارون الضفة الغربية عام 2002. في مستوطنات الضفة 650 ألف مستوطن. القوات الصهيونية تستبيح كافة مدن ومناطق الضفة الغربية، تعتقل من تشاء وتقتل من تشاء، وعلى ذلك قس. في سجون العدو الصهيوني 6000 معتقل، لذلك فإن المراهنة على مفاوضات جديدة مع إسرائيل وأمريكا هي عملية عقيمة، فإسرائيل سبق أن رفضت حل الدولتين، والدولة ثنائية القومية والدولة الواحدة، ورفضت «مبادرة السلام العربية»، التي طرحتها قمة بيروت عام 2002، ووصفها شارون بأنها لا تستأهل الحبر التي كتبت به ومصيرها إلى سلة المهملات.
لقد بدأ تطبيق «صفقة القرن»، وحقنا من وجهة النظر الإسرائيلية يكمن في الحكم الذاتي فقط. حقوقنا التاريخية نحملها في قلوبنا، واستشهد الآلاف من شعبنا في سبيلها على مدى قرن زمني، ولن نفرّط في ذرة تراب واحدة من أرضنا، ويصر لاجئونا على العودة المصانة بقرارات الشرعية الدولية، ولن تسقط بالتقادم. يتوجب أولا تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإزالة الانقسام، واللقاء الجمعي الفلسطيني لرسم خطوط استراتيجية المواجهة للمستجدات والأخطار المستحدثة، ولتأخذ المؤسسات المركزية الفلسطينية (المجلسان المركزي والوطني) دورهما وليجر تطبيق قرارتهما، بوقف التنسيق الأمني نهائيا مع الكيان الصهيوني، وسحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، وليتم تفعيل م. ت.ف ومؤسساتها، ولتلغ اتفاقيات أوسلو، وما نتج عنها من تداعيات، بما فيها اتفاق باريس الاقتصادي ونتمنى على الرئيس أبو مازن أن يقوم بتطبيق كل قراراته التي وعد، في حالة الضم، فهو حاصل. والجو مهيأ لقيام انتفاضة شعبية عارمة. ووفقا للإسرائيليين ستتزايد أعمل «العنف» ـ المقاومة. أما المطبّعون العرب المنّصبون في مراكزهم بحماية أمريكية ويدفعون الجزية بالمليارات لبقائهم، فهم لا يدركون أطماع إسرائيل، وليستعدوا لدفع جزية أموال أثمان أملاك اليهود في خيبر وغيرها. ولتذهب الواقعية والبراغماتية إلى الجحيم.

قد يعجبك ايضا