فلسطين المزعجة / ماهر رجا

ماهر رجا * ( فلسطين ) – الثلاثاء 26 / أيار ( مايو ) / 2020 م …




  • شاعر وكاتب وإعلامي فلسطيني

كل عام وفلسطين بخير، فلسطين الحياة لا الذكرى..إن أشياء الذكرى ميتة مهما حاولنا ان نسورها بالعواطف، الذكريات المرقومة بالأيام تظل كالورد المقطوف من الحديقة، ننسق وقفته في المزهرية بأناقة ونحن نعلم أنه سيعيش لوقت ما نضراً ثم يذبل، أو قد يعيش طويلاً لو أردنا له ذلك لكنه سيقف في ركن ما من البيت، عند النافذة او بين صفحات كتاب، جافاً وقد فقد لونه وصورته البهية الأولى، فتصبح الورود مجرد إشارة عاجزة الى شكل الوردة، كما حين نرسم على عجالة وجها بشريا على الورق .. شيء يوحي بأنه فكرة وجه وليس الوجه بقسماته الحقيقية.

بالنسبة لأبناء جيلي والأجيال الأخرى للنكبة، فلسطين حياة وليست فكرة عن الحياة.. ليست تراباً وحسب ولا مكاناً وحسب ولا جواز سفر، لا جنسية ولا انتماء ..

حين كنا صغاراً في المخيمات، لم يكن سهلاً علينا أن نفهم ما هو ذلك الشيء الرائع الذي فقدناه والذي يُبكي أمهاتنا وآباءنا بمجرد ذكر اسمه، ذلك المكان المقدس الذي يستنبت أرواح الأدعية في همسات الصلاة، ويستعيد المواويل الكسيرة في الأمسيات، السر المنطوي على جمال يلامس حد الرهبة، الأرض المسورة بدخان الاساطير والتي لم تكن تصوراتنا عن مفردات الدنيا وعجائبها تستطيع ان تضاهيها.

كان شرح فلسطين صعباً.. كان أكبر من لهفة الوصف السائدة تلك التي تقول إن فلسطين هي بلاد الأشجار والبرتقال والزيتون والبحر والجبال والتلال والسهوب الشاسعة المختالة بكل ألوان الزهور البرية، أرض التمائم التي يغزلها الأولون في مقابرهم الكنعانية ويتسللون من الحجارة القديمة ليلاً ليعلقوها على أشجار الصنوبر أو ليرموها في أحراش الميريمية وقبائل الشومر الفوضوية على ضفاف الاودية والانهار، بلاد ينابيع الهواء وحكايات الحبيبات والفرسان الخاسرين، أرض الأيائل وعواء الذئب على القمر… ولأن ذلك لم يكن كافياً أحياناً، أو ربما لأنه كان خليطاً من الصور المربكة، كان أهالينا يلجؤون إلى صورة أبسط كي نفهم، بمقارنة صغيرة بين بيوت المخيم وخيامه البائسة وبين الجنة.. فلسطين هي الجنة، الفردوس المفقود.. وبهذا أراحوا أنفسهم من عناء شرح المستحيل لنا.

في فترة ما بين طفولتي واشتداد العود، كنت احب أحياناً أن اكون وحيداً حين افكر بفلسطين، كما لو أنني أتقصد ان أؤثث لها عزلة صغيرة كي تأتي وتخبرني عن سرها .. طقس يبدو غريباً ، وقد تأملته مسترجعاً بعد عشرات السنين، والآن لا يزعجني أن يقول أحد ما إننا كنا جيلاً مريضاً، لا هو قادر أن يعيش حياة طفولة طبيعية ليست لديه مقوماتها اصلاً، ولا هو بقادر ان يتسلق سلم الاساطير الى الأرض الحلم، كي يكمل الاضلاع الناقصة عن ذلك الوطن في المخيلة.. وفي النهاية نتقبل الامر، يفهم ذلك الفتى أنه سيبقى طوال عمره عليل الروح، مصاباً بالتهمة الرائعة.. بفلسطين.

كل ما كان يتعلق بفلسطين كنا نراه أسطورياً..كأن نتخيل مثلاً أن الفدائيين يتحولون ليلاً الى عمالقة ويتوجهون غربا الى الأرض الأسطورة. وأذكر أنني وأخي بسام تسلقنا جدار مدرسة الصفصاف في مخيم درعا عند منتصف الليل كي نرى الفدائيين وهم يتحولون الى عمالقة!..من أين أتتنا تلك الفكرة؟!..كان ذلك في خريف العام 1971. في تلك الايام وصلت الى مخيمنا أعداد كبيرة من الفدائيين الفلسطيننين قادمة من الاردن. حلوا ببنادقهم وعتادهم في مدرستنا التي لم تكن تبعد أكثر من خمسين خطوة عن بيتنا. كان الخبر بالنسبة لي ولأخي اشبه بخروج شخصيات الحكايات النبيلة من وراء غمام المستحيل وقدومها الى بيتنا لتنام بيننا او تأكل معنا أو تروي لنا تجربتها بنفسها.. لا اتذكر تلك الليلة كيف وصلت بنا اقدامنا الى جدار المدرسة أو كيف تسلقنا الجدارومنحنا قلوبنا كل تلك الرهبة ونحن نتوقع أننا سنحتاج الى اكثر من الأعين كي نرى المشهد، لكأننا سنطل على بهو الكون من حافة المدارات..

كان بسام الذي يصغرني بعامين الى جانبي متشبثاً بالجدار مثلي دون أن نجد ما نسند إليه أرجلنا المطوحة في الهواء. ومع أننا في ظلمة الليل لم نكن نرى شيئاً، إلا أننا في تلك اللحظات تحايلنا على الصورة واستبدلناها بصورة المخيلة..

همس بسام: هل تراهم؟ ما أجملهم!.. هم اقوياء كثيرا أليس كذلك؟

قلت دون أن التفت: طبعاً أقوياء.. وليسوا اقوياء فقط..

وأردت ان أقول شيئاً عظيماً آخر، وصفاً آخر، اذ شعرت ان ذلك الوصف ليس كافيا للاسطورة!

هناك من يعتقدون أن الذاكرة الجماعية لأبناء النكبة داخل فلسطين وخارجها، بالغت في تمجيد الجرح ومرافقتة الدائمة الى بيت الاسطورة.. ربما كان هذا صحيحاً لأن الفقدان يعتاد مع الوقت التجول في رواق الخيال.. إلا أن في القصة ما هو أبعد من ذلك بالنسبة لمن لم يعجبهم الأمر، ومنهم فلسطينيون يرون انهم تعافوا من لعنة النكبة وباتوا يفكرون منذ عقود بشكل واقعي بعيداً عن رومانسية الحلم وقد تلونت مداركهم بأفكار وتصورات أوسع.. أولئك تلمس وأنت تسمعهم أنهم يشعرون بالسعادة والتفوق وبُعد الرؤيا حين يقارنون انفسهم بالحالمين والرومانسيين “الذين لا يرون الحقائق على الارض” ومنها حقائق قوة الغزاة التي باتت بالنسبة لهم امرأ واقعاً.

وأذكر أن أحد هؤلاء قال لي ذات يوم باستياء لم أفهم سببه حينها : أنا أعيش في فلسطين، ولا أراها كما تراها.. انها أرض وحجارة واشجار وماء بالنسبة لي .. أرض ككل أراضي الكون وربما أقل، وهي ليست اسطورة فلماذا تقدسون التراب في الكتابة وغيرها الى هذه الدرجة؟!

قلت له إنها كذلك حقاً، حجارة وتلال وأشجار وما إلى ذلك، ويستطيع أن يراها كما يراها وبالقدر الذي تحتمله طبائع روحه، تماماً كما يمكنه أن يرى الإنسان – أي إنسان – كأعضاء بشرية، أو أن يرى قلباً انتزع من صدر صاحبه كمجرد مضخة، أو ان يعتبر المرأة كأداة للجنس أو نسائم الهواء بوصفها مركباً كيماوياً!… الأمر يتعلق بالمعنى لا بالاشياء ذاتها. وإن كانت غرائب الصورة قد أشادت لفلسطين سحراً فالمصدر هو الفكرة، الترجيديا الغريبة، والأمر ليس أُبهة متعالية ولا تاجاً ذهبياً، بل ربما تاج من الشوك كالذي كلل الناصري في الجلجلة.. ثم انها ليست مجرد مكان بالنسبة لكثير من الفلسطينين، ويخيل إلي أن هدف العودة لا يعني في النهاية عودة الارض وحسب .. ربما الأبلغ هو عودتنا الى أنفسنا سالمين بسطاء بلا اساطير.

الغريب (أو ربما ليس غريباً) أن الاسرائيليين فهموا أهمية المعنى وجدوى بسالة الفكرة في الصراع قبل سواهم ومبكراً. لقد أدركوا أن الانتصار في الصراع على الارض لا يكون الا في تحقيق الغلبة في الصراع على الرواية، الصراع على التاريخ، على التفاصيل الصغيرة من علاقة الذاكرة الفلسطينية والروح الفلسطينية بالارض بما هي معنى وجود وحياة وحلم وفكرة، هذه الاشياء التي تجعل للضحية اسطورتها الباهظة وتلهمها بسالة المقاومة رغم ان حقائق الواقع تنشر من حولها أشرعة الهزيمة.. الاسرائيليون على اختلافهم لم يعيروا منذ البداية شأنا كبيراً لأي مكسب سياسي في التفاوض لا يؤدي إلى شطب ذاكرة النكبة والعودة.. إليك مثلاً كيف أن مسألة اللجوء الفلسطيني ظلت هاجس إسرائيل الأول في كل مفاوضاتها وتعبيرها السياسي عن فهمها للحل النهائي، التفاوض لإنجاز ما أسموه “المصالحة التاريخية” وليس مجرد التفاوض على الأرض. فالصراع في مفهومهم، تطوى صفحته الاخيرة حين ينتهي مفهوم النكبة وفكرة العودة في العقل الفلسطيني .. ذلك كان شاغلاً لكل النشاط السياسي والثقافي في الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، وانتج نقاشاً طويل الامد بين نخبه وقياداته عن الاستراتيجية الافضل للخلاص من “إلهام النكبة” للفلسطينيين.

بعد عام 1948 مثلاً، اكتفى الصهاينة بالحديث عن “حرب تحرير” توجت بقيام ” الدولة” دون اي اشارة لوجود شعب فلسطين إلا في ما ندر. لكن اتجاه الدفة تغير قليلاً ولو بشكل غير رسمي بعد أواسط السبعينات حيث برزت فجأة الظاهرة التي عرفت باسم “المؤرخين الجدد” في اسرائيل، والتي اعترفت بالنكبة بأصوات مثل آفي شلايم، وبيني موريس..ما الذي كان يحدث؟ الشكوك الكثيرة الظلال هي ان هؤلاء المؤرخين لم يكونوا يعملون لحسابهم كمجرد باحثين يتعاملون مع حقائق التاريخ وحسب، فاستنتاجات بيني موريس كمثال – وهو أيضاً ضابط سابق في الجيش- هي أن على اسرائيل أن تعترف بالنكبة ولكن على الفلسطينيين أن يتلقفوا ذلك ويتخلصوا إلى الابد من رواية النكبة، ثم دعاهم بعد زمن إلى الهجرة إلى النرويج!! .. شيء مشابه قاله شلومو ساند اذ اعتبر أن على الفلسطينين التخلي عن حلم العودة لأنه “لا يجوز محو مأساة بأخرى”.

الهاجس ذاته، هاجس فلسطين ذات الذاكرة المزعجة كان ومازال مقلقاً لكثير من العرب ايضاً، في ظل وجود انظمة استراتيجيتها السياسية الأهم والوحيدة هي الحفاظ على كرسي الحاكم والقتال من أجله.. لكن التسويات السياسية والتطبيع المرئي واللامرئي لم يكن كافياً على امتداد العقود الثلاثة الماضية لوضع حجر الشاهدة على قبر فلسطين المزعجة، فمقتل فلسطين لا يكون إلا بسقوطها من الفكرة نهائياً لا من حسابات السياسة وحدها..

وقد حملت السنوات الأخيرة مناخاً مواتياً بعد ان انفتحت كهوف الصورة العربية عن تناقضات أشد تظهيراً للوثة الصراعات القطرية والطائفية والقبائلية .. عودة جماعية إلى الزمن الحجري الذي يحتفي بوضوح هذه المرة بالعشيرة والطائفة والمحلة والأُرطة. لقد سقط الثوب عن جسد عربي ليظهر ان ذلك الجسد هيكل من العظام المنخورة بالأفات بما يفوق تصورنا عنه، وفي هذا المشهد البائس ترددت عبارات “بلادنا أولا” واشتدت الحرب على مكانة فلسطين في الفكرة، وبدا أن السخط عليها أكبر بكثير مما كان حيال الكيان الصهيوني ذات يوم.

كثيرون غاضبون من فلسطين، وليس أهل التسويات فقط،، اليوم مرة اخرى اسم فلسطين يتحول من موقع العبء الى موقع التهمة الصريحة، وأقل ذلك أصوات “لولا فلسطين لكنا بخير” ( على ما يحمله قول كهذا من عسف وهبل في الفهم البسيط للصراع وكأن الصهاينة لو لم يجدوا فلسطين لاعتذروا وغادروا).. فلسطين المقلقة والمزعجة اقلقت الجميع، أعداءها ومن يفترض بأنهم اهلها، وقد جاهر بعضهم على امتداد السنوات الماضية بأن على فلسطين ألا تبقى حتى كصورة في ألبوم العائلة او على لوحة جراحها، ذلك لأن هناك جراحاً اخرى في اوساط العائلات الاصغر.. يجب انزال الاميرة عن عرش الموقف والشعار واختيار اميرة تجلس مكانها، فكرة أو أفكار اخرى تنسجم مع تطورات الحالة العربية. ولم يعد مفاجئاً ان تسمع عبارات ومواقف من قبيل “ليست مشكلتنا مع اسرائيل” أو “فلسطين ليست اولويتنا”.. وقد يأتي هذا مشفوعاً أحياناً بالاستنتاج الخرف والشائه من أن وجود فلسطين في صدارة اشغال السياسة والثقافة والفكر هو المشكلة المزمنة.

لا تسعى فلسطين أن تكون أولوية لأحد ولا تريد أن تسأل أحداً عن ذلك، هذه الجريحة حتى من بعض أبنائها، لا تمتلك أن تفرض على من حولها شيئاً وهي تكتفي بأن تفتح ذراعيها لمن يحبها ويختار الطريق إليها.. وفلسطين من بعد، لا تأكل نصيب سواها على المائدة ، ليست عدوة لحرية أحد ولا لمصائر أحد، ولا تحب ان تأخذ جرح الاخرين وتضعه وساماً، لا تدعي انها القتيلة وحدها ولا الحزينة وحدها، وفي هذا التدافع المجنون على إنزالها من الأولويات، اعتقد أنها تسامحكم بالمسرح والجمهور والمنصة.. لكن ربما يبقى أن يتذكر الجميع أن قضيتها ليست شأنها وحدها لأن عدوها لا يقصدها وحدها وإن كانت الضحية الأولى على قائمته.

أما بعد، ولأن فلسطين مزعجة إلى هذا الحد، مقلقة إلى هذا الحد، فما أجمل المرض بأسطورتها والامتلاء بحضورها فكرةً وحقيقةً في كل شيء وفي كل مكان، بطيفها الذي يأتي في الحب والحرب، في ليالي فقدان الأحبة.. سيكون رائعاً دائماً ان نصادفها في الاماكن العالية كطيور الأبراج العتيقة والمنارات، أن نراها تخفف من آلام روح القتيل وتدل الضائعين على دربهم ، أن احس بوجودها معي في المطارت تقف جانباً وتنظر إلي بحزن وقد منعت من العبور للاشتباه بملامحي، أن تبقى في بقية عمري كل شيء، لأنها كل شيء.. لأنها الحياة.

 

 

قد يعجبك ايضا