إفريقيا في ظل الهيمنة العسكرية والإقتصادية … هل هي نهاية الفرنك “سي إف أيه” في إفريقيا الغربية؟ / الطاهر المعز

الطاهر المعز ( تونس ) – الأحد 5/1/2020 م …

الهيمنة العسكرية، والتنافس الفرنسي الأمريكي:




ركّز الجيش الأمريكي، حوالي ثمانمائة قاعدة عسكرية حول العالم، ومن بينها قواعد ضخمة، تضم عتادًا وأسلحة متطورة وفتّاكَة وخطيرة، كالأسلحة النووية، بالإضافة إلى أعداد ضخمة من الضبّاط والجُنود، حيث يوجد أكثر من 63 ألف جندي في القواعد العسكرية الأمريكية، على أراضي اليابان، ونحو 47 ألف جندي في ألمانيا وقرابة ثلاثين ألف جندي في كوريا الجنوبية، وحوالي 225 ألف جندي، في أوروبا وآسيا، وتمارس أمريكا ضغوطات على الدّول الأوروبية والآسيوية، لتحميلها تكاليف الإنفاق على القواعد المتواجدة على أراضيها، والتي تُسبب إزعاجا كبيرًا للسكان، بسبب ارتفاع عدد حالات القتل والعُنف والإغتصاب والحوادث الأخرى التي ارتكبها الجنود الأمريكيون، المتمتّعون بالحصانة الكاملة…

أصبحت الولايات المتحدة تنافس فرنسا، في غربي إفريقيا، حيث المستعمرات الفرنسية السابقة، التي لم تفك الإرتباط معها، سواء على المستوى العسكري أو الإقتصادي، وتظهر هذه المنافَسَة في مخطط “أفريكوم” (القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا)، الذي بدأ بتنفيذه الجيش الأمريكي، منذ سنة 2007، وبدأت العمليات، رسميًّا، في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2008، بعدد قليل من الجنود، وبكثير من قواعد الطائرات المسيّرة والقوات الخاصة، في النيجر وبُرْكِينا فاسو وفي موريتانيا، وشمال مالي، غيرها، بذريعة “مكافحة الإرهاب”، وقُدِّرَ عدد الجنود الأمريكيين بنحو سبعة آلاف جندي في بلدان غربي قارة إفريقيا، وعدد مماثل في شرق إفريقيا، بالإضافة إلى قوات أخرى، غير مُعْلَنَة (المُخابرات العسكرية وبعض فرق “القُوات الخاصّة”)، فيما قُدِّرَ عدد الجنود الفرنسيين، في مالي والنيجر وبُرْكِينا فاسو بنحو خمسة آلاف جندي…

تزايد عدد العمليات العسكرية الأمريكية ضمن برنامج “أفريكوم” من 172 عملية، سنة 2008، إلى 3500 عملية، سنة 2018، وتتمثل معظم العمليات في القصف بواسطة الطائرات الآلية، وأصدر “مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية” التابع لوزارة الحرب الأميركية تقريرًا (تموز/يوليو 2019) يُقِرُّ “بتراجع المؤشرات الرئيسة للأمن والاستقرار في أفريقيا”، منذ إنشاء القواعد العسكرية الأمريكية، حيث تَضاعَفَ نشاط المجموعات الإرهابية منذ سنة 2012، وأصبحت 13 دولة إفرِيقية تُواجه العمليات الإرهابية، بزيادة 160%، عن سنة 2010، ويستَنْتِج “مركز السياسة الدولية”، إن وجود البرنامج العسكري الأمريكي، أدّى إلى الزيادة الحادة في العمليات الإرهابية، حيث تتذرّع الولايات المتحدة بالعمليات الإرهابية لزيادة عدد القواعد والجنود، ويتذرع الإرهابيون بوجود القوات الأمريكية، لزيادة العمليات الإرهابية التي يذهب ضحيتها السّكان المحلّيّون، وكانت الولايات المتحدة سببًا مُباشرًا في تأسيس مجموعة “طالبان” (بدعم من مخابرات باكستان) وتنظيم “القاعدة”، في أفغانستان، والمجموعات الإرهابية الأخرى، سواء مباشرة أو عبر حلفائها، كتركيا والكيان الصهيوني…

ارتفع عدد القواعد العسكرية للجيوش الأجنبية في المنطقة المُحيطة بالصحراء الكُبرى (أو منطقة الساحل)، خصوصًا على الحدود بين مالي والنيجر وبركينا فاسو، على مقربة من الجزائر وليبيا، التي تتذرع بها الولايات المتحدة لنشر قواعدها، إلى جانب كندا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، ومجمل أعضاء حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى القوات المُنْتَشِرَة في هذه المنطقة تحت رايَة الأمم المتحدة (وهي قوات احتلال أيضًا، ولو التحَفَتْ براية الأمم المتحدة)، ومن بينها 11 ألف جُندي في مالي، وعشرة آلاف جندي في جمهورية إفريقيا الوُسطى وعشرين ألف جندي في الكونغو، و12500 جندي في جنوب السودان، ويوجد أكثر من عشرة آلاف جندي فرنسي في بوركينا فاسو، وساحل العاج، وجيبوتي، والغابون، والنيجر، ومالي، وموريتانيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وتشاد، والسنغال…

أما الولايات المتحدة فتعول على التكنولوجيا (الطائرات الآلية) وتعمل على تقديم بعض الرّشاوى للحكومات المحلية التي تُرسل جنودها للدفاع عن المصالح الأمريكية، وبذلك تُخَفِّضُ أمريكا من عدد القوات البشرية، وتنشر أقل عدد ممكن من جنودها، في بُركينا فاسو، وجيبوتي، ومصر، والغابون، وكينيا، والنيجر، وأوغندا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، والسنغال، والصومال وجنوب السودان وتشاد، وتوجد أهم القواعد الأمريكية الأفريقية في جيبوتي (أربعة آلاف جندي) والنيجر (800 جندي)، والكامرون (300 جندي، وقاعدة للطائرات الآلية)، ومالي، وغيرها…

يُنفّذ الجيش الأمريكي مناورات وتدريبات دَورية، في العديد من بلدان العالم، كما في البلدان الإفريقية، ومن بينها موريتانيا، حيث كثفت الولايات المتحدة من حضورها العسكري، ونَفَّذَ الجيش الأمريكي مناورات عسكرية، شمال موريتانيا، دامت عشرة أيام، بداية من يوم 18 شباط/فبراير 2019، بعنوان “فلينتلوك 2019 ” واستضاف الجيش الأمريكي – على أرض موريتانيا- ألفي عسكري من 33 دولة، وهي مناورات دورية تُنظّمها وزارة الحرب الأمريكية، في خمسة مواقع في إفريقيا، مع جيوش الحلف الأطلسي ( من بينها إسبانيا وإيطاليا، وغيرها)، وبمشاركة رمزية لبعض الجيوش الإفريقية (موريتانيا وتشاد وبركينا فاسو…)

جَنّد الإستعمار الفرنسي أكثر من مليون شاب إفريقي، خلال الحرب العالمية الثانية، وبعد دحر الإحتلال النازي الألماني، ارتكب الجيش الفرنسي ضدهم مجازر عديدة، ولم يحصل الآلاف من النّاجِين على المعاشات، وحق العلاج، خلافًا لوعود الجيش والسلطات الفرنسية، وبعد الإستقلال الشّكْلِي، فرضت فرنسا على مستعمراتها السابقة اتفاقيات عسكرية، وأنشأت نظامًا للمنح الدراسية وفرضت “اتفاقيات الدفاع المثشتَرك” الملحقة لاتفاقية الاستعمار، وفرضت على جيوش الدّول الإفريقية إرسال كبار ضباط الجيش للتدريب في فرنسا أو التدريب على المعدات الفرنسية، وتتضمّن اتفاقيات الدفاع المُشتَرك إنشاء قواعد عسكرية، ونَشْرِ القوات الفرنسية بشكل دائم، والتدخل العسكري في هذه الدّول، للحفاظ على مصالحها، وتلتزم الدول الإفريقية بالتحالف مع فرنسا في حالة نشوب حرب أو كارثة عالمية…

ارتكب الإستعمار الفرنسي والبلجيكي والبريطاني العديد من المجازر ضد المَدَنِيِّين، سواء أثناء فترة الإستعمار المُباشر، أو بعد توقيع اتفاقيات الإستقلال، واغتالت القوى الإستعمارية الزُّعماء الذين حاولوا فكّ الإرتباط مع الإستعمار ( مثل باتريس لومومبا، في الكونغو وزعماء حزب اتحاد الشعب الكامروني…)، ونظّمت انقلابات دَمَوِيّة ضد آخرين، لمجرد محاولتهم السيطرة على ثروات بلادهم، أو لمجرّد الإختلاف في الوسائل أو الأهداف، كما حصل مع  رئيس ساحل العاج السابق “لوران غباغبو”، الذي لم يكن تقدّميًّا ولا مُعادِيًا للإستعمار، وقتل الجيش الفرنسي نحو 65 مدنيا، أثناء ترحيل رجال الأعمال الفرنسيين، سنة 2006، وجَرح ما لا يقل عن 1200 آخرين، وطالبت الحكومة الفرنسية بمبالغ مُرتفعة (لم تُعلن بشكل رسمي) للتعويض عن الخسارة المُفْتَرَضَة التي تكبّدَها رجال الأعمال الفرنسيين، خلال رحيلهم الإضطراري، وسدّدت الدولة بقيادة الحسن وتارا تلك التعويضات…

أطلق الجيش الفرنسي حملة عسكرية تحت عنوان “سيرفال” سنة 2013، في مالي وجوارها، بذريعة محاربة الإرهاب، بعد سيطرة مجموعات مسلحة على شمال مالي في آذار/مارس 2012، وتوسّعت رُقْعَةُ العمليات الإرهابية، بعد التدخّل العسكري الفرنسي، وامتدت هجمات الإرهابيين إلى وسط وجنوب مالي، وإلى بُركينا فاسو والنيجر وتشاد والكامرون، ثم أنشأ الجيش الفرنسي تحالُفًا جديدًا، بقيادته، منذ شهر أيار/مايو 2018، بدعوى مكافحة المسلحين، بمشاركة نحو خمسة آلاف جندي، من خمس دول مُحيطَة بالصّحراء الكُبْرى (مالي والنيجر وبُركينا فاسو وتشاد وموريتانيا)، وتُموّل السعودية والإمارات هذه القوة وتُسدد ثمن أسلحتها وتكاليف تدريباتها، دون أي تفويض من الأمم المتحدة، وبلغت الوقاحة بقائد أركان الجيوش الفرنسية، الجنرال “فرانسوا لوكوانتر” أن صَرّح، في تموز/يوليو 2019 (قناة سي نيوز) : “لولا التدخل العسكري الفرنسي والأوروبي، لانهارت تلك البلدان (المُحيطة بالصحراء) بشكل تلقائي، بسبب الإرهاب المُتنامي، والذي قد يظهر في فرنسا وأوروبا، بالإضافة إلى هجرة الملايين”، وتجدر الإشارة أن العدوان الأمريكي والأوروبي على ليبيا أدى، سنة 2011، إلى تشريد ثلاثة ملايين عامل إفريقي كانوا يعملون في ليبيا، وأشارت إلى ذلك بعض وسائل الإعلام  في موريتانيا و مالي وبركينا فاسو…

يُثِير الدّور الذي تلعبه “موريتانيا” في هذه الأحْلاف الأجنبية العدوانية العديد من التّساؤلات والشّكوك، وأعلنت السفارة الأمريكية في العاصمة الموريتانية “نواق الشط”، يوم السبت 28/12/2019، أن موريتانيا “ستحتضن التمرين السنوي الأكبر للقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا في شباط/فبراير 2020″، في إطار “الشراكة والتعاون الإستراتيجي بين موريتانيا والولايات المتحدة الأمريكية، لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة”، وتجسّد هذا “التعاون الإستراتيجي” في ارتفاع عدد المناورات العسكرية التي تقودها القوات الأمريكية…  

الهيمنة الإقتصادية:

تمتلك قارة إفريقيا كميات هائلة من الموارد الطبيعية والمعادن، ومن بينها حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، أو حوالي 12% من إجمالي احتياطي النفط العالمي، وحوالي مائة مليار برميل، في المياه الإقليمية البحرية، وحوالي خمسمائة تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي، تمثل 10% من إجمالي احتياطي الغاز العالمي، وتمتلك القارّة حوالي ثُلُثَ الإحتياطي العالمي من اليورانيوم، وتُساهم بأكثر من 18% من الإنتاج العالمي (في النيجر وناميبيا وجنوب إفريقيا…)، وهو معدن ضروري لكافة الصناعات النّوَوِيّة، كما تمتلك قارة إفريقيا نحو 50% من إجمالي الإحتياطي العالمي من الذّهب، وتنتج نحو خمسمائة طن سنويا، أو ما يُعادل 25% من الإنتاج العالمي (تنزانيا وجنوب إفريقيا وغينيا وغانا ومالي )، وتُنتج جنوب إفريقيا وناميبيا وبستوانا وأنغولا والكونغو الديمقراطية نحو 40% من إجمالي إنتاج الألماس في العالم، ويُقدّر احتياطي القارة من الحديد والمنْغَنِيز والفوسفات واليورانيوم بما بين 15% و 30% من الإحتياطي العالمي، و90% من احتياطي الكوبلت، و90% من احتياطي البلاتين و95% من احتياطي معدن الكروم و 64% من معدن المنغنيز، كما تُنتج إفريقيا نحو 80% من معدن البلاتين ونحو 27% من الكوبلت، ونحو 10% من الحديد…

تحاول الشركات متعددة الجنسية والدّول الإمبريالية السيطرة على هذه الثّروات، ما تَسبّب في عدد من الحروب، التي سُمِّيت “حروب أهلية”، كما في الكونغو، حيث يدوم الصراع المُسلّح في مناطق إنتاج المعادن منذ 1960…

في مجال الفلاحة، تتميز قارة إفريقيا، بتنوع الإنتاج الزراعي، بفضل تنوع المناخ، وتعدّد الأنهار ومصادر المياه العذبة، ما ساعد في انتشار النشاط الفلاحي، الذي يُشَغِّلُ أكثر من 65% من سكان القارة، ويُساهم قطاع الزراعة بِنِسَبٍ تتراوح بين 20% و 60% من إجمالي الناتج القومي للدّول الإفريقية، كما تُنتج غابات إفريقيا كميات هامة من الأخشاب عالية الجودة (في الكونغو والكاميرون وأفريقيا الوسطى والغابون وغينيا الاستوائية)، وتساهم صناعة الأخشاب بحوالي 6% من إجمالي الناتج القومي للقارة بأكملها، وهي أعلى نسبة في جميع القارات.

تُطل قارة إفريقيا على البحر الأبيض المتوسط، وعلى البحر الأحمر، وعلى المُحيطَيْنِ الهندي والأطلسي، ويعمل نحو عشرة ملايين إفريقي في قطاع الصيد البحري وفي البحيرات الكبرى والأنهار، حيث تحتوي مصادر المياه العذبة على أكثر من ثلاثة آلاف نوع من الأسماك، لكن قيمة الصادرات الإجمالية لأسماك إفريقيا لا تتجاوز ثلاثة مليارات دولار، بسبب النّهب الذي تُمارسه السفن الكبرى، وبسبب الإتفاقيات غير العادلة، ومن بينها الإتفاق بين دول إفريقيا الغربية والإتحاد الأوروبي، وتُعتَبَرُ منطقة غرب أفريقيا إحدى أهم مناطق صيد الأسماك في العالم، وتُنتج حوالي خمسة ملايين طن سنويًّا…

تنهب القوى الإستعمارية هذه الثروات، منذ مرحلة الإستعمار المُباشر، وتواصل النّهب بعد الإستقلال الشّكلي، بالإضافة إلى دخول قوى جديدة مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، والكيان الصهيوني، وسوف نكتفي في هذه الورقة بتحليل النموذج الفرنسي للهيمنة على مستعمراتها السابقة في غرب إفريقيا، وفي منطقة ما يُسمّى المجموعة المالية الإفريقية، التي تستخدم عُملة مُوحّدة تُسمّى “الفرنك الإفريقي” أو “سي إف آي” ( Franc CFA )، وهي أداة هيمنة اقتصادية ومالية، إلى جانب القُوّة العسكرية، والهيمنة الإقتصادية على المواد الخام، كالألماس والمحروقات، وتستخدم فرنسا اليورانيوم المنهوب من النيجر والغابون وإفريقيا الوسطى، لإنتاج الطاقة النووية التي تُوفر نحو 80% من الكهرباء التي تحتاجها البلاد، وتستغل الصناعات العسكرية الفرنسية المغنيسيوم والكروم الإفريقي لصناعة الأسلحة، وبعض المعدات الأخرى، وتستغل فرنسا مجموعة الدّول الناطقة بالفرنسية (الفرنكفونية)، لنشر لغتها وممارسة الهيمنة الثقافية، فيما تستغل الشركات الفرنسية مجموعة “الفرنك الإفريقي” لتنمية التجارة والأنشطة الإقتصادية الفرنسية…

يمثّل “الفرنك الإفريقي” ، الذي فرضَتْه الإمبريالية الفرنسية، كعملة مُتداولة في عدد من دول إفريقيا، نموذجًا للهيمنة الإقتصادية والمالية، ونموذجًا للإستعمار الجديد، الذي يُعرقل عملية التّنمية ويُديم وَضْعَ التّخلّف والتّبَعِيّة…

المجموعة المالية الإفريقية أو منطقة “الفرنك الإفريقي” (سي إف آي)

نالت معظم الدول الإفريقية استقلالها السياسي (الإستقلال الشّكْلِي، أو تَحَوُّل الإستعمار المُباشر إلى استعمار غير مباشر) ما بين سنتَيْ 1958 و 1962، لكن العديد منها بقيت تُحَوِّلُ احتياطياتها من النقد الأجنبي إلى الخارج، وتودعه في مصارف الدّول الإستعمارية (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا)، بفوائد منخفضة جدًّا، بدل استثمار هذه الأموال في قطاعات مُنْتِجَة، وفي إنتاج سلع تستوردها هذه الدول من الخارج، بالعملات الأجنبية، ما عَمَّقَ التّبَعِيّة الإقتصادية والمالية، وتحولت هذه العملية إلى قَناة تستخدمها الفِئات الحاكمة لنهب ثروات البلاد، ولغسيل الأموال المسْرُوقَة (من صفقات الشركات الأجنبية، على سبيل المثال) في المصارف الأجنبية، وإنفاقها في شراء العقارات، والأسهم في أسواق المال في باريس أو لندن، ويهربون جزءًا آخر إلى الملاذات الضريبية، ومعظمها جُزُر ومُستعمرات أوروبية (بريطانية، بالأخص)…

وقّعَ رُؤساء هذه الدّول الإفريقية اتفاقيات استعمارية مع فرنسا، ولا تزال أربعة عشر دولة إفريقية مُلزَمَة بإيداع 85% من احتياطي النقد الأجنبي في المصرف المركزي الفرنسي، منذ 1961 (بنين، بوركينا فاسو، غينيا  بساو، ساحل العاج، مالي، النيجر، السنغال، توغو، الكاميرون، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جمهورية الكونغو، غينيا الاستوائية، الغابون) ولا تزال 13 دولة أخرى تُسدّدُ، لفرنسا، “دُيُون الإستعمار الفرنسي”، أي ثمن إنجاز البُنْيَة التّحْتِيّة التي أُنْجِزَت، خلال فترة الإستعمار المباشر، لمصلحة الشركات الفرنسية والجيش الفرنسي (طرقات وموانئ جوية وبحرية…)، لتجني فرنسا حوالي 500 مليار دولارا سنويًّا، يستفيد منها الإقتصاد الفرنسي، بدل إنفاقها في داخل المُستعمرات الإفريقية السابقة، ولا تعلم حكومات الدول الإفريقية حجم احتياطيها من النقد الأجنبي في المصرف المركزي الفرنسي، الذي يستخدم هذه الأموال، ويُضارب بها في أسواق المال، ويستخدمها لتلبية حاجة الإقتصاد الفرنسي، ونَظّمت حكومات فرنسا انقلابات ضد كافة الرؤساء الذين حاولوا الإستقلال اقتصاديا عنها (في غينيا وفي مالي وتوغو وإفريقيا الوسطى، وبركينا فاسو وبنين…)، وبشكل عام، أشرفت فرنسا، خلال خمسة عُقُود على خمسين انقلاب، أو تدخّل عسكري، وغيرت 16 رئيس دولة، بالقوة أو بحملات التشويه، وتمكنت فرنسا، بفضل هيمنتها على إفريقيا والمُستعمَرات، من المُحافَظَة على مكانتها في صف الدّول الإمبريالية، وإجبار الدول الإفريقية على دعم السياسة الفرنسية في الأمم المتحدة، وفي مجال العلاقات الدولية، ويعرف رؤساء الدّول الإفريقية أن من لا يحافظ منهم على “المصلحة العُليا لفرنسا”، يتعرض للإغتيال والإنقلاب، ويذكر التاريخ ما حدث في غينيا، عندما رَفَضَ الرئيس الغيني أحمد سيكوتوري التوقيع على اتفاقية التبعية السياسية والاقتصادية لفرنسا، سنة 1958، إذ دمّرت فرنسا اقتصاد غينيا، عبر إغراق البلاد بالعُمْلَة المُزيّفة، ودمّرت البُنية التّحتية والمباني العمومية، قبل الإنسحاب الجماعي لكافة الفرنسيين العاملين في غينيا، بهدف تدمير الإقتصاد…

على سبيل المُقارنة، فَرضَتْ فرنسا على مُستعمرة “هايتي”، عند استقلالها، سنة 1804، غرامات مُرتفعة القيمة، لتعويض الخسائر التي لحقت بتجّار العبيد الفرنسيين، بعد إلغاء العُبُودية في هايتي التي حَرّرت العبيد، وسدّدت هايتي “المُسْتَقِلّة” ما يُعادل 21 مليار دولارا، بين 1804 و 1947…

تُؤَكّد الإتفاقيات بين فرنسا ومستعمراتها على فَرْض اللغة الفرنسية كلغة رسمية للدولة، وأسَّسَت فرنسا “المنظمة الدّولية للفرنكفونية”، وغايتها نشر اللغة والثقافة الفرنسية، بإشراف وزارة الخارجية الفرنسية، بينما لا تُنْشَرُ باللغة الفرنسية، سوى نسبة نحو 4% من البحوث والدراسات العلمية في العالم، سنويًّا، كما تُؤَكّدُ نفس الإتفاقيات على أولوية فرنسا، لشراء أي مواد جديدة مُكتشفة، وللشركات الفرنسية الأوْلَوِيّة المُطْلَقَة في العقود الحكومية، واستغلال الموارد وتنفيذ الأشغال وتتحكم الشركات الفرنسية في معظم المرافق (الماء والكهرباء والإتصالات والنقل والمرافئ الجوية والمائية والمصارف…) في ساحل العاج والسنغال والغابون وتوغو وغيرها، حيث تعمل نحو 1500 شركة فرنسية ويعمل بهذه الدول حوالي مليون فرنسي في كافة الميادين، برواتب مرتفعة، ويُسيطرون على شبكة التجارة وعلى قطاعات أساسية، في المُستعمرات الفرنسية السابقة، وعمومًا، تمكنت فرنسا، عبر الفرنكفونية والفرنك الإفريقي من المُحافظة على هيمنتها واستنزافها الموارد الطبيعية لإفريقيا، وواحتكار شبكات التجارة والإقتصاد والمال، وغير ذلك، ونظّمت فرنسا انقلابات في عدد من الدول التي حاول قادَتها الخروج من عباءة فرنسا، وعلى سبيل المثال، أعلن مُدبِّرُو الإنقلاب في جمهورية “مالي”، سنة 2012، اعتزامهم التخلي عن استخدام الفرنك الإفريقي (وهو في الواقع فرنسي)، تدخّلت فرنسا عسكريًّا ووجد الإنقلابيون الجيش الفرنسي (وليست قوة محلية مالية) في مواجهتهم، ولا يزال الجيش الفرنسي يحتل البلاد، بعد ثماني سنوات.

تعالت الأصوات، منذ حوالي عقد، في إفريقيا، لإعادة هذه الأموال إلى موطنها في إفريقيا (بالإضافة إلى التُّحف والقطع الأَثَرِية)، لتمويل مشاريع مُنتِجَة، في إطار برامج تنمية إفريقية، تخفض من حدّة البطالة، وتدعم الإنفاق على البُنية التحتية والخدمات والشبكة الكهربائية والتعليم وغير ذلك مما يُفِيد المواطنين، وكانت دول غرب إفريقيا التي تتعامل بالفرنك الإستعماري “سي إف آي” (بنين وتوغو وبوركينا فاسو ومالي وساحل العاج والنيجر وغينيا بيساو، وهي مستعمَرة برتغالية سابقة والسنغال، وغينيا الإستوائية، وهي مُستعمَرة إسبانية سابقة) قد أسَّسَت المصرف المركزي للدول الإفريقية (مقرّه في السنغال)، ولكن ذلك بقي شكليا، ولم يُؤدِّ إلى سحب احتياطي العملات الأجنبية لهذه الدّول من المصارف الفرنسية.

يُشكل الفرنك CFA أحد عوامل إدامة الهيمنة الاقتصادية الفرنسية على مستعمراتها السابقة في المنطقة المسماة “Françafrique“. إنها أداة للسيطرة الاستعمارية الجديدة التي تخدم مصالح فرنسا والشركات متعددة الجنسيات والمصارف، ومن بينها توتال، أورانج، بولوري، أكسا، بي إن بي، وهي شركات متعددة الجنسية، فرنسية المَنْشَأ، تدعمها الحكومات الفرنسية المتعاقبة، لِنَهْبِ الثروة الأفريقية ولتصدير القيم المولدة (أو القيمة الزائدة)، من إفريقيا نحو فرنسا. إن الفرنك CFA هو أيضا أداة لزيادة ديون إفريقيا، فهو لا يمثل الإقتصاد الحقيقي للبلدان الإفريقية ولا يُمَكِّنُ الحكومات من ضبط أو تعديل الخَلل بين العرض والطلب، لأن وزارة المالية الفرنسية تُقرِّرُ قيمته، وتُشرف على هذا الخلل وتُديره، دون استشارة الحكومات الإفريقية… في ظل هذه الظروف ، يصبح الفرنك الأفريقي CFA عاملا مُعَرْقِلاً للتحرر وللسيادة والتنمية في بلدان إفريقيا الغربية…

هل هي نهاية الفرنك الإفريقي؟

وَرَدَ في وثائق المؤتمر الثامن والأربعين للمصرف الإفريقي للتنمية (27 أيار/مايو 2013) إن قارة إفريقيا، خسرت ما بين 1,3 تريليون دولارا و 1,8 تريليون دولارا، من التدفقات الخارجة من القارة، بصفة غير شرعية، خلال ثلاثة عقود، وخاصة من نيجيريا ثم مصر والجزائر والمغرب، وأعلن رئيس اللجنة الاقتصادية في الاتحاد الافريقي، يوم 16 أيار/مايو 2018، أن إفريقيا تخسر 100 مليار دولار سنوياً بسبب عمليات تهريب الاموال بطريقة غير قانونية، وهو رقم دون الواقع بكثير، بحسب تقرير المنظمة الأمريكية “غلوبال فاينانشال إنْتِغْرِتِي”، الذي أورد أن المبالغ الإجمالية للتهريب تَفُوق مجمل الدّيون الإفريقية، وأن كل مواطن إفريقي يخسر حوالي ألف دولارا سنويا، جراء خروج هذه الأموال، عبر التهرب الضريبي، وتزْيِيف فواتير السّلع المُستورَدَة، وغير ذلك من العمليات غير المَشْرُوعَة، بالإضافة إلى ما ذكرناه في فقرات سابقة، بشأن النّهب الإمبريالي عمومًا، والفرنسي خُصُوصًا لموارد وثروات إفريقيا…   

نشرت وكالة الأنباء الفرنسية (أ.ف.ب) يوم 22 كانون الأول/ديسمبر 2019 برقية تعلن انتهاء العمل قريبًا بالفرنك “سي إف إيه” ( Franc CFA ) وهو “فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا”، الذي يستخدمه نحو 155 مليون مواطن في إفريقيا، وكان مرتبطًا بالفرنك الفرنسي، منذ سنة 1945، ثم باليورو، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، واستبداله بعملة أخرى “إيكو”، مرتبطة بالعملة الأوروبية “يورو”، وأعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، القادم من قطاع المصارف (مصرف روتشيلد) ورئيس ساحل العاج، “الحسن وتارا”، القادم من البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، والذي نَصّبَه الجيش الفرنسي، سنة 2011: “قررنا إصلاحا تاريخيا مُهِمًّا للفرنك الإفريقي”، وأعلنا تعويضه ب”الإيكو”، ولكن التفاصيل القليلة التي نُشِرَتْ تُشير إلى تأبيد العلاقات الاستعمارية بين فرنسا وإفريقيا، وسوف تبقى فرنسا “ضامنًا في حالة تخلف إحدى الدّول الأعضاء عن السّداد”، ولن يُؤدّي تغيير الإسم من “فرنك سي إف آي” إلى “إيكو”، إلى زيادة استقلالية الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي المستقبلي، بل سوف يُؤَدِّي إلى بقائها تحت هيمنة المصرف المركزي الفرنسي، وبقائها في حالة تَبَعِيّة مالية، وفي حالة عجْزٍ عن حماية العُملة الجديدة، لافتقاد هذه الدّول للقدرة المالية، أمام الضغوط الإقتصادية والأزمات، وسيظل استقرار العملة الجديدة (إيكو) مضمونًا من الخارج، وليس من الدّاخل، ما يجعل هذه العُمْلَة عاجزة عن خدمة الاقتصادات الأفريقية، أو تحقيق التّكامل الإقتصادي، بين الدول الأعضاء، بسبب هيمنة الشركات الأجنبية على القطاعات الحيوية…

خاتمة:

خضعت قارة إفريقيا لاستعمار الإمبريالية الأوروبية (فرنسا وبريطانيا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا…) لفترة طويلة، قاربت القرنَيْن في بعض المناطق، ونَصّبَت القوى الإستعمارية أنظمة تابعة لها، وحُكّام فاسدين ومُرْتَشِين، عند تحول الإستعمار العسْكَرِي المباشر إلى استقلال شَكْلِي، وإلى استعمار اقتصادي، أو “استعمار جديد”، ولم تتردد القوات العسكرية الأجنبية (الفرنسية أو الأمريكية أو غيرها) في اغتيال وقتل وإزاحة، كل من تجَرَّأ على معارضة الهيمنة والإستعمار الجديد والظّلم، أو من أراد تحرير إفريقيا من الإستعمار الجديد، وكل من يعمل على استفادة المواطنين الأفارقة من عوائد خيراتهم، ومواردهم الطبيعية وثرواتهم، ورغم القمع وإغراق إفريقيا بالمنظمات “غير الحكومية”، وبالبعثات التي تنشر الإستعمار “اللَّيِّن”، ارتفعت الأصوات التي تطالب بالتخلي عن الفرنك ( CFA ) لأنه أداة هيمنة، ولأنه عملة تَرْمُزُ إلى  الحقبة الاستعمارية، ومن شأن هذه التّبَعِيّة أن تُعيق الإقتصاد، وأن ترفع سعر السلع الإفريقية، في مناطق إنتاجها، أي في إفريقيا، لأن الدول الإفريقية لا تستطيع تحد سعر الصرف باستقلالية (يتحكم بذلك المصرف المركزي الفرنسي والمصرف المركزي الأوروبي)، ليعجز المواطن الإفريقي عن شراء إنتاج بلاده، لأن العملة المحلية مرتبطة بعملة أجنبية (اليورو)، واليورو عملةٌ لمجموعة دول رأسمالية متطورة، ذات مستوى عيش أعلى بكثير من الدول الإفريقية…

تفتقر دول مجموعة الفرنك الإفريقي أو “إيكو” لمقومات الوحدة الإقتصادية والمالية، ما يجعلها لا تستفيد من العُملة المُوحّدة، بالإضافة إلى كون هذه العملة أجنبية ومُصطَنعة، وتفتقر دول غرب إفريقيا، والدول التي تستخدم الفرنك الإفريقي أو إيكو إلى الأسس الاقتصادية والسياسية الموحدة، وإلى مصرف مركزي موحد، وإلى تنسيق التشريعات المصرفية والجمركية وغير ذلك من العوامل التي تُساعد على التكامل الإقتصادي، ويُعيق ربط عملة إفريقية (إيكو، مثلاً) بعملة أوروبية (يورو) ممارسة السيادة النّقدية التي تسمح للحكومات بضخ السيولة في الاقتصادات الوطنية، عند الضّرورة، وعندما تحتاج عملية التنمية الإقتصادية المحلّية ذلك، وقد يكمن الحل في إنشاء تجمع اقتصادي طوعي لعدد من البلدان التي تستخدم معايير موحّدة، وعملة إقليمية، وإقرار حرية التنقل والمبادلات فيما بينها، وتقويم التجربة بصفة دورية، للوقوف على الأخطاء وتصويبها.

قد يعجبك ايضا