المجتمعات التقليدية بين مطرقة الحداثة وسندان التخلف / د. عدنان عويّد

نتيجة بحث الصور عن عدنان عويد

د. عدنان عويّد* ( سورية ) – الجمعة 18/10/2019 م …




*أكاديمي وكاتب وباحث

     المجتمعات التقليدية, هي المجتمعات التي لم تزل فيها قوى الانتاج وعلاقات الانتاج في حالة من الهجانة والتداخل بين الرعي والزراعة والحرفة والتجارة, والتي غالباً ما يغلب على اقتصادها سمات اقتصاد السوق الصغيرة والاقتصاد الريعي, بغض النظر عن حالة الهجانة ودرجة التداخل بين أنماطها الانتاجية السائدة, إلا أن ما يمنحها صفة التشابه هو طبيعة العلاقات الاجتماعية والفكرية السائدة أو المهيمنة, هذه العلاقات التي يغلب عليها في السياق العام المرجعيات التقليدية ممثلة بالعشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب التي اخترقت حتى بنى أحزابها العلمانية, إضافة إلى ضحالة وهشاشة واضحة في البنية الفكرية, حيث يسود فيها وينتشر العقل الامتثالي القائم على النقل والرضوخ والرضى والاستسلام و والتخيل والحدس الفردي..الخ, إضافة إلى النفاق المضخم للتراث وما يحمله هذا التراث عند أبناء هذا المجتمعات التقليدية من قيم غالباً ما أعطيت صفة المثالية والقداسة, على اعتبارها الفردوس المفقود, وهي بعيدة عن ذلك تماماً.

     لا شك أن هذه المجتمعات التقليدية بكل بناها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية أخذت تتعرض اليوم لهزات عنيفة, بدأت تكشف ضعف هذه البنى والحوامل الاجتماعية المعبرة عنها, وبخاصة الجهل في رؤية هذه الحوامل تجاه ما يحيط بها على المستوى المحلي والاقليمي والدولي من أحداث راحت تبين كيف أن سوسة الحداثة بدأت تنخر في أساس بناها القائمة.

     إن رغبة ورهان بعض القوى الساسية في عالمنا العربي في هذه المجتمعات التقليدية, على استمرارية وجود هذه البنى والاشتغال عليها سياسياً واجتماعيا وثقافياً, هو رهان على الحصان الخاسر أمام زحف الحداثة وتأثيرها الفاعل في خلخلة بنى هذه المجتمعات وتهديمها من الداخل, وبالتالي فإن أي محاولة من القوى السياسية الحاكمة إعادة صياغة أو ترميم هذه العلاقات المفوّته حضارياً, بغية الحفاظ على الدولة القائمة, هي محاولة فاشلة لن تحقق النتائج المرجوة منها, ولن تكون هذه المحاولات أكثر من حالات إعلامية هزيلة, وكرنفاليه مرتبكة في الشكل والمضمون, تهدف إلى إشعار الخارج الاقليمي والدولي بأن وضع هذه المجتمعات ودولها بخير, علماً أن أهلها أنفسهم أدرى بشعاب ضعفها وبدء سقوط ليس أوراقها فحسب, بل أغصانها وتلف جذورها أيضاً. خاصة وأن أكثر زعماء هذه العشائر والقبائل قد هاجروا من ديارهم ولم يستطيعوا حماية أنفسهم من أبناء عشائرهم وقبائلهم الذين انضووا تحت راية داعش والنصرة وغيرهما, في الوقت الذي وجدنا فيه بعض رؤساء هذه العشائر والمشايخ قد ارتموا بأحضان الخارج وسلموا أمرهم لسيولة البترودولار.

     لذلك نتساءل هنا ومن حقنا هذا التساؤل : أي عشيرة أو قبيلة أو طائفة او مذهب في عالمنا العربي اليوم, بقيت متماسكة وتلعب دوراً في تثبيت وجودها ووجود من يعوّل عليها من القوى السياسية الحاكمة أو الطامحة إلى السلطة؟, بل أي حزب من الأحزاب العربية الحاكمة المنخورة تنظيمياً بهذه المرجعيات التقليدية, استطاع ليس الدفاع عن نظامه الحاكم فحسب, بل مقراته أيضاً التي تركها وهرب أمام قوى الارهاب والمعارضة معاً.؟.  فما سمي بثورات الربيع العربي على سبيل المثال, قد اثبتت انهيار البنية التقليدية لهذه العشيرة أو القبيلة والأحزاب الحاكمة ومن يمثلها من مشايخ ورجال سياسة. وهذا يدفعنا للتساؤل, ماذا عملت اجتماعات عشائر العراق لنظام البعث وصدام حسين الذي عوّل عليها الكثير للوقوف معه ضد من عمل على إسقاط حكمه وحكم البعث في العراق من الداخل والخارج مثلاً. وكذا الحال بالنسبة للقذافي وزين الدين العابدين, ومبارك والبشير.. وكل الأنظمة العربية التي انهارت بعد تعويلها أو اتكائها على العشيرة والقبيلة والطائفة والحزب الحاكم المستهلك فكراً وتنظيماً ؟.

     نعم إن الحداثة وما حققته من تطور في التعليم والتكنولوجيا, وحصول مئات الألاف من أبناء هذه المجتمعات التقليدية على الشهادات العليا, وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي, وتعميم أو التبشير بمفاهيم الدولة المدنية ومفرداتها مثل الديمقراطية والعلمانية والمواطنة ودولة المؤسسات والتشاركية وظهور التنظيمات الحزبية الجديدة وغير ذلك, قد ساهم في تحطيم سيادة سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب والحزب الحاكم, وتأثيرها الفاعل على قيادة المجتمع. فالدكتور والمهندس واستاذ المدرسة والجامعة ورئيس الدائرة, أصبح يشعر بدوره ومكانته في المجتمع, وبالتالي استقلالية شخصيته وتفردها بقرارها, وإن وجد هناك أي تنظيم سياسي له تأثيره وحضوره الجماعي الفاعل في مجتمعاتنا ودولنا اليوم, فهو التنظيم القائم على العقيدة الدينية, كون العقلية المفوّتة حضارياً التي قمنا بتوصيفها أعلاه تتناسب في جوهرها مع عقلية الكثير من أفراد هذه القوى التقليدية. وهذا الالتزام بالعقيدة, نجده في أعلى درجات قوته لدى من انتسب إلى التنظيمات الدينية الجهادية, حيث وجدنا غياباً واضحاً لدور ومكانة سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والحزب الحاكم أمام سلطة مسؤولي قادة هذه التنظيمات وتأثيرها اللامحدود على من ينضوي تحت رايتها أو قيادتها.

     لقد رأينا بأم أعيننا الداعشي أو من ينتمي للنصرة وغيرهما من الفصائل الجهادية, كيف يقوم بقتل ابن عشيرته وقبيلته وقريته ووطنه وابن مذهبه إذا اختلف معه في الرؤية الدينية, أو المصلحية, بل إن بعض أبناء هذه التنظيمات قام  بقتل أمه أو أبيه عندما خالفاه في الرأي, أو حالا بينه وبين معتقداته, وهذا ما يدفعنا للتساؤل المشروع أيضاً, أين هو تأثير شيوخ العشائر والقبائل والطوائف والأحزاب الحاكمة على أبناء عشائرهم وقبائلهم وطوائفهم في أزمات ما سمي بثورات الربيع العربي؟.

     نعم لقد أسقطت الحداثة, والعقيدة السياسية الدينية, سلطة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة والأحزاب الحاكمة وفاعليتها وتأثيرها على المكون الاجتماعي التابع لها. لذلك نقول إن كل من يحاول الاشتغال اليوم على ورقة العشيرة والقبيلة وحتى الفكر الديني في صيغته (المدخلية) من أجل الحفاظ على الدولة واستقرار المجتمع هو يراهن على الحصان الخاسر, مع احترامي الشديد وتقديري لكل الأخوة من رموز العشائر والقبائل والطوائف والمذاهب.

     إن الحل الوحيد لعودة استقرار الدولة واللحمة الاجتماعية, هو التوجه نحو الشعب بكل مكوناته, وليس قيم العشيرة والقبيلة والطائفة… التوجه نحو قيم الحاضر والمستقبل, وليس قيم الماضي المفوّت حضاريا. إن الحل يمكن في تعميق دور المواطنة, والتعدديّة السياسية والمشاركة في السلطة وتداولها.. إن الحل في العلمانية والديمقراطية والتأسيس للدولة المدنية, ونشر الفكر العقلاني التنويري والمشاركة الشعبية في قيادة الدولة والمجتمع, وبالتالي, فكل ممارسة خارج هذه القيم الحداثوية, هي ممارسة خارج التاريخ ومآلها الفشل .. هذا هو منطق التاريخ, فلا تعاندوا سيرورة التاريخ وصيرورته. اتركوا الشعوب تقرر مصيرها, ولا تجعلوا من أنفسكم أوصياء على الشعب.. قد تخطئ هذه الشعوب في مسيرتها السياسية بسبب غيابها الطويل عن الفعل السياسي العقلاني التنويري, ولكنها في المحصلة ستتعلم وتعرف طريقها الصحيح حتى ولو دفعت الثمن, ولا شيء عقلاني في السياسة يأتي بدون ثمن.

كاتب وباحث من سورية

[email protected]

 

قد يعجبك ايضا