البوعزيزي وزريق وضحايا القهر والظلم العربي / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد ( الخميس ) 14/2/2019 م …

إضرام النار في النفس احتجاجا على خطوة اتخذتها السلطة ضد ذات الشخص، هي احتجاج ضد البلد على الألم والظلم الذي يكابده المواطنون، الذين ينتمون إليه، وهو احتجاج مؤلم ضد القهر الذي تتعامل به الدولة مع مواطنيها من الفقراء.
لم يملك المواطن التونسي البوعزيزي غير العربة التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه لكسب رزقه . صادرتها السلطات البلدية في مدينة سيدي بوزيد ولم توفر له بديلا. قدّم احتجاجا، ورفضت سلطات المحافظة قبول شكواه في حق شرطية صفعته أمام الملأ وقالت له «ارحل»، فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للإطاحة بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة فيما بعد.
بعدها أضرم كثير من المواطنين العرب في بلدان مختلفة النار في أنفسهم لأسباب اجتماعية متشابهة، تقليدا لاحتجاج البوعزيزي الذي أقيم تمثال تذكاري تخليداً له في العاصمة الفرنسية باريس. قبل أسبوع، أضرم مواطن لبناني النار في نفسه في باحة مدرسة بكفتين بالكورة، احتجاجا على عدم إعطائه إفادة مدرسية لابنته. كان جورج زريق ينوي نقلها من مدرسة «سيدة بكفتين» في الكورة إلى مؤسسة تعليمية أخرى، لعدم قدرته على تسديد المستحقات، وتردي وضعه المادي، لكن المدرسة رفضت إعطاءه الإفادة الدراسية اللازمة، فتوفي حرقا. إحراق النفس احتجاجا على ظلم حاق بالإنسان هو صرخة يطلقها المظلوم، لعلّ الضمائر تستفيق فماذا نريد أكثر لننتفض رفضاً لمأساة الحال والفقر والكآبة التي يفرضها الغلاء واستحالة العيش في العديد من بلداننا العربية؟
نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وما بين تونس ولبنان خطّ بحري طويل مملوء، بالفقر والحرمان والاحتياجات الأساسية للمواطنين، في الوقت الذي تتناحر فيه الأحزاب السياسية وزعماء الطوائف والمذاهب على المناصب والحقائب الوزارية في هذا البلد العربي أو ذاك، وتدّعي كلّها عن بكرة أبيها الحرص على هذا المواطن ومصالحه وتحسين مستوى معيشته، لكن المعادلة القائمة رغم كلّ الادّعاءات النظرية أن الأغنياء يزدادون غنىً والفقراء يزدادون فقرا. الخط البحري الطويل الذي هاجرت عبره أليسار من مدينة صور لتؤسس مدينة قرطاجة وتصبح ملكتها، تحوّل بعد آلاف السنين إلى الخط الذي يسلكه مواطنون عرب كثيرون مع عائلاتهم، مضحين بأنفسهم، خاضعين لابتزاز المهربين، متحملين عذابات البحر، في الطريق إلى الهجرة نحو أوروبا، هربا من ظروف الحياة في بلدانهم، ومن ضمنها العربية، كيف لا يهاجرون والتدخل العربي في اليمن، الذي كان بلقب بالسعيد، أنتجَ مليون طفل جائع، مات منهم 85 ألفاً، 280 ألف يعانون من الأمراض، بما فيها السل والكوليرا، 2 مليون طفل يمني بحاجة إلى المساعدة. بالتأكيد، أن الملكة بلقيس التي أنشأت مملكة قوية في سبأ في اليمن السعيد، تتألم في قبرها على الأحوال الرديئة التي وصل إليها بلدها، الذي أصبح اسمه «اليمن التعيس».
وفقا لتقارير البنك الدولي، والتقارير الاقتصادية الدولية، ما زال الوطن العربي من أكثر دول العالم احتواءً على نسب عالية من الفقراء، وما زالت معدلات الأمية مرتفعة، كذلك نسب البطالة، خاصة بين الخريجين في ظل افتقاد خطط التنمية. المواطن العربي في العديد من الدول، ما زال يفتقد إلى التأمين في الطبابة، والتعليم والسكن والشيخوخة، وغيرها من حقوق المواطنة. المواطن العربي يخشى التعبير عن رأيه لأنه مقموع وممنوع عليه الإجهار برأيه، يعيش هاجس الاعتقال. المواطن العربي ممنوع من الحقوق الديمقراطية، رؤساؤه مفروضون عليه، وسنة بعد سنة يتحولون إلى رؤساء دائمين مدى الحياة، لا ترتاح الشعوب من حكامها، إلا إذا أخذهم الموت إلى عالمه. أي مظاهرات سلمية عربية تطالب بالحقوق، تفسّر من قبل الأنظمة على أنها موجهة ضدّها، وتحركها قوى خارجية مشبوهة هدفها أمن واستقرار البلد العربي، ومحاولة إسقاط النظام االديمقراطي الحاكم هذا، على الرغم من أن بعض أنظمتنا تستدعي بعض معارضيها الناعمين إلى سفاراتها في الخارج وتقوم بقتلهم بأبشع الطرق. عاش جيلنا في شبابه عندما كانت بعض الأنظمة العربية تذيب معارضيها المعتقلين بالأسيد. وبعدها يستغربون أن البوعزيزي وزريق قاما بإشعال النار في نفسيهما.

الوطن العربي يزداد تفرقا في وقت تأتلف فيه الدول في تجمعات جيوسياسية إقليمية قاريّة، ويزداد تأثيرها السياسي الدولي

في الوطن العربي، حجم الانفاق العسكري يقدّر بـ15% من الإنفاق العالمي البالغ 57 .1 تریلیون دولار لعام 2017 حسب بیان أصدرته شركة الخدمات المالیة «إتش آي إس ماركت». أيضا، فإن واقع البحث العلمي مؤسف ومحزن وفقیر في البلاد العربیة، وهو لا یتعدى 2.0% من الناتج المحلي الإجمالي. في المقابل فإن السوید تسیطر على المركز الأول عالمیا من حیث الإنفاق على البحث العلمي بنسبة 8.3 %، تلیھا الولایات المتحدة بنسبة 7.3 %، ثم سویسرا والیابان بنسبة 7.2%، ، ثم اسرائیل بواقع 6.2%، ثم فرنسا والدنمارك بنسبة 5% .
ھجرة الكفاءات العربیة تتسبب في خسائر تتجاوز 200 ملیار دولار سنويا، حیث تھرب ھذه الكفاءات وتلك العقول من واقع یتعایش مع الجھل ویتنكر للمعرفة. تمتلك عدة دول عربية نحو 4 تريليونات دولار في البنوك الأمريكية والبريطانية فالأموال المكتسبة من بيع النفط والغاز تحول مباشرة إلى البنوك الأمريكية، وتشير التقارير إلى أن الهدف المقبل لإدارة ترامب، التي هاجمت عدة دول حول العالم اقتصاديا، بفرض تعريفات جمركية إضافية، هو مصادرة دولارات دول الخليج المودعة في البنوك الأمريكية. لأن واشنطن لم تسمح للدول العربية بسحب تريليون دولار إبان هجمات 11 سبتمبر/أيلول وأثناء الأزمة الاقتصادية عام 2008. وبحسب مؤسسة «راند» فإن ترامب، الذي فرض تعريفات جمركية إضافية على عدة دول بحجة حماية «الأمن القومي» يخطط للاستيلاء على جزء من الثروات العربية في الولايات المتحدة. للعلم، تستحوذ الدول العربية على أكثر من 55% من احتياطي النفط العالمي، ومن بين الدول الـ10 صاحبة أكبر احتياطي، هناك خمس دول عربية تمتلك ما مجموعه 713 مليار برميل نفط. هذه الدول هي المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات وليبيا. يضمن النفط للدول العربية عائدات مالية مهمة، وقد بلغت عائدات دول الشرق الأوسط سنة 2017 ما مجموعه 325 مليار دولار، أي 41.3% من عائدات النفط في العالم. كان نصيب السعودية، (ثاني أكبر منتج للنفط في العالم) منها 133 مليار دولار. هذا عدا عن الثروة من الغاز الطبيعي وغيره، كالحديد والصلب والمعادن والثروة الحيوانية والأخرى السمكية والزراعة.
الوطن العربي يزداد تفرقا وانقساما في الوقت الذي تأتلف فيه الدول في تجمعات جيوسياسية إقليمية قاريّة، بحيث يزداد تأثيرها السياسي الدولي، وتحسّن من أوضاعها الاقتصادية، كما في كل المجالات الأخرى، من خلال السياسات التكاملية على الأصعدة المختلفة. الدولة العربية القطرية يتهددها الانقسام المذهبي، الطائفي الإثني، دولنا تتقن معادلة، مفادها: الالتحاق بالسياسات الأمريكية، والأخيرة تعمل بموجب قاعدة، أن الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيب، ولذلك نرى هذه الاندفاعة الرسمية العربية للتطبيع، وصولا إلى التنسيق مع دولة الكيان الصهيوني، ومن أجل إيضاح الجانب الاقتصادي لـ»صفقة القرن» و»مزاياه»، سيقوم المبعوثان الأمريكيان جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات بجولة عربية تمتد أسبوعا، لإقناع الدول التي ييزورانها بتمويل مخططات الجانب الاقتصادي للصفقة، بهدف تمرير جانبها السياسي، الهادف إلى تصفية القضية الفلسطينية تصفية تامة وأخيرة.
وفي السياق نفسه يأتي حضور بعض الدول العربية لمؤتمر وارسو، الذي سيحضره نتنياهو باعتباره رئيس دولة مقررة في المنطقة، وتساهم في رسم جدول أعمالها بفعالية، لإزاحة الوجه الحقيقي للصراع في الشرق الأوسط والمتمثل في الصراع الشعبي العربي مع الدولة المحتلة لفلسطين، وجزء من الأراضي العربية، الدولة الكولونيالية، الاقتلاعية، الإحلالية، ذلك لصالح اختراع صراعات جديدة فيها.
حقيقة الأمر، أنه كلما ازداد العالم نهضة، ونجاحا في تحقيق خطوات ملموسة في مجال التقدم التكنولوجي، وإنجازا لقفزات جديدة على صعيد الثورة العلمية، ينعكس ذلك في المزيد من تحقيق الرخاء لمواطني هذه الدول، وتحسين مستوى المعيشة لهم، حيث أن الثروات فيها هي نعمة للإنسان، بينما في دولنا العربية للأسف تحولت ثروات الوطن العربي إلى نقمة على المواطن العربي، بحيث يزداد معاناةً وفقراً وانخفاضاً في مستوى معيشته، نخشى أن يتحول مبدأ إضرام النار في النفس ظاهرةً عربية بامتياز.

قد يعجبك ايضا