العميد ناجي الزعبي يتذكر أولى عمليات ” حزب الله “… تفجير مقر المارينز

الخميس 25/10/2018 م …




الأردن العربي – كتب العميد ناجي الزعبي –   

كان ذلك في احد الأمسيات في مطلع عام ٨٣ وأثناء مشاركتي بدورة عسكرية طويلة في قاعدة المدفعية ( فورت سل ) بمدينة لوتون ولاية أوكلاهوما وبعد نهاية فصل دراسي واستعدادي لعطلة طويلة نسبياً منيت نفسي بان أقضيها على شاطئ البحيرة القريبة من القاعدة بصحبة عائلتي وعائلات زملائي في الدورة من الضباط من مختلف دول العالم .

كنت قد وصلت للتوّ لمنزلي وكنت استعد لخلع زيي العسكري والاسترخاء بعد يوم الدراسة الشاق ، قرع جرس الهاتف في منزلي على غير المعتاد في مثل هذا الوقت ، أجابت زوجتي على الهاتف واستدعتني قائلة ان هناك من يتكلم العربية على الطرف الاخر ويريد الحديث معك .

قلت : هل يريدني انا

أجابت : نعم لقد قال لي انه يريد ان يكلم الرائد الاردني ناجي الزعبي ، ثم ناولتني سماعة الهاتف .

أجبت : نعم انا ناجي .

سمعت احدهم على الطرف الاخر يقول لزميل له بلهجة مصرية لا تخفى عليّ : انا عم بكلم الواد ناجي بتاع الاردن.

امتعضت من هذا الوصف الذي يحمل شيئاً من الاستخفاف وقلة التهذيب ، فنحن في السلك العسكري نتبادل أقصى درجات الاحترام .

تنبّه المتحدث الذي تبيّن لي انه الرائد المصري رؤوف ، تنبّه لوجودي على الطرف الاخر وقال بلهجته المصرية : مساء الخير ازيّك يا ناجي .

أجبت والدهشة تغالبني فقد غادرت القاعة ، حيث كنّا معا للتو: شكرا انا بخير.

اجاب : كلمني الرائد ستيف .

قلت مستغربا : ستيف .. من ؟

قال : مدرس التآكتيك اياه بتاعنا.

قلت مستغرباً : طيب !!

قال سألني ان كان بالدورة ضابط فلسطيني فقلت له نعم الرائد ناجي.

قلت : اكمل.

قال : لقد كلفته قيادة الجيش الاميركي بالذهاب الى لبنان.

قلت : طيب وما شأني بذلك

قال : ازاي انت مش فلسطيني ؟

قلت : معقول … رؤوف انت تعلم تماما” انني اردني ,  لقد أمضينا بضعة شهور معاً وما زلت تجهل انني لست فلسطينياً !!

قال : امّال أيه ؟؟!!

قلت : انا اردني وانت تعلم ذلك.

قال : صحيح نعم نعم ، لكن مفيش فرق.

قلت : طيب ؟

قال طيب أيه ، ستيف عايز معلومات عن الجيش اللبناني والفدائيين ، واحنا قلنا له ناجي حيدّيك المعلومات الي انت عايزها .

قلت : انتوا !! …   انتوا مين ؟

قال : احنا كلنا ، الضباط المصريين

قلت : وماذا سيفعل في لبنان ؟

اجاب : ما انت عارف ان المارينز هناك واجهوا مشاكل تعبوية كثيرة اوي وهو رايح يدرس الوضع ويوصف لهم العلاج !!

قلت : وانا اكاد انفجر من الغيظ : انتم قررتم اني فلسطيني وانتم تعلمون انني اردني وان الضباط الفلسطينيين لا يبتعثون لاميركا ، كما قررتم انني سأدلي بمعلومات عن الجيش اللبناني وعن الفدائيين !!؟

اجاب : ايوه كده

قلت : تريدونني ان أكون جاسوسا اذاً !!

اجاب بلهجة مستخفة : ما بلاش الكلام الكبير ده .

قلت : اذا لم يكن هذا كلام كبير فما هو الكبير اذا!!

اجاب : مليش دعوة هو حايكلمك وبعدين اديله الي هو عاوزه ( حاياخد باله منك ) .

أجبت لأتخلص منه ومن المكالمة المقززة : طيب سأفعل المناسب لا عليك .

أقفلت سماعة الهاتف وانا اكاد انفجر غيظا، فالقصة لم تكن مجرد سؤال عابر هي اكثر خطورة وبشاعة فهل يعقل ان ضباطاً مصريين يضعون أنفسهم في خدمة ضابط اميركي سيذهب للبنان لمعالجة المعضلات التي تعرضت لها قوات المارينز الغازية ثم زكّوا ضابطاً اردنياً ليقوم بمهمة عميل اميركي وجاسوس على الجيش اللبناني والفدائيين ؟!

كان هذا هو الواقع وهذا هو نمط ضباط حقبة السادات فلم يكونوا مهنيّين بالقدر الكافي بل كانوا يبحثون عن بزنس ومصادر للدخل والمتاجرة بالاموال وتبديل العملات وتجارة الاثاث والسيارات، برغم ذكائهم ومهنيتهم اللافتة .

لم تمضي فترة طويلة قبل ان يقرع جرس الهاتف مرة اخرى ، رفعت السماعة وانتظرت ، كان الرائد ستيف على الجهة الاخرى .

قال لي : انا الرائد ستيف، انت ناجي ؟

قلت : نعم

قال لي : لقد اخبرني زملائك المصريين انك فلسطيني وبأمكانك مساعدتي في مهمتي ، فهل يمكن ان نلتقي ؟

قلت : يمكن، وأفضل الان ، وكنت أودّ ان انتهي من هذا الامر الكريه للتفرغ لإجازتي دون منغصات .

قال : أعطني عنوان منزلك سأكون لديك قريباً .

لم يكن منزلي بعيداً فمدينة لوتون مدينة صغيرة تقع على كتف قاعدة المدفعية – فورت سل – .

لم تمضي فترة طويلة حين قرع جرس منزلي وكان ستيف

قلت : تفضل

جلسنا معاً وانتظرت ان يبادر في طرح الموضوع .

لم ينتظر طويلاً حين بادرني بالحديث قائلاً :

تعلم ان قوات المارينز واجهت العديد من المعضلات والأخطاء في مهمتها وقد كلّفت ان اذهب إلى هناك لمعالجة هذه الأخطاء

قلت : وما دوري انا ؟

اجاب : لقد أخبرني زملاؤك المصريين انك فلسطيني وبأنك ستقدم لي معلومات وافرة عن الجيش اللبناني والفدائيين ” واستعمل كلمة – فدائيين – .

كانت قسماته تنم عن القلق والترقب والثقة بأنني سأكون في خدمته فهو مدرّسي في الكلّيّة ونتيجتي في الدورة مهمة بالنسبة لي وبالنسبة لوطني وللقوّات المسلحة التي أنتمي إليها ، وتساهم الى حد بعيد في تقرير مصيري العسكري وهو يعلم ذلك .

قلت : انت مدرس مادة التاكيتك وهي احدى اهم دعائم العلوم العسكرية اليس كذلك ؟

اجاب : بدون شك .

قلت : اليست قيم الشرف العسكري احد اهم مقومات البناء النفسي التعبوي للجندي ؟

اجاب مندهشاً : بدون شك

قلت : أولاً انا لست ضابطاً بالجيش الفلسطيني بل بالجيش الاردني ، وكنت أتوقع انك تعلم ان الجيش الفلسطيني لا يرسل مرتباته للتدرب باميركا ، كما كنت أتوقع انك قد ألقيت نظرة عن سيرتي الذاتية ومعلوماتي الشخصية ، ثم انني بغاية الدهشة ،كيف تطلب مني ان أكون جاسوساً على الجيش اللبناني الشقيق وعلى الفدائيين الذين يخوضون معركة تحرير وطنهم الذي اغتصبه الصهاينة منذ ما يفوق ال ٣٥ سنة ( حتى ذلك الوقت ) ، وحتى لو لم أكن ارتبط بصلات مع اي جهة من هذه الجهات فهل من الشرف العسكري ان اعطيك معلومات لو كنت املكها !!؟

اسقط في يد الرجل وهو ينظر لي ببلاهة ولم يكن يجد اجابة ، وبعد برهة أجابني قائلاً :

لقد اخبرني زملائك المصريين بانك سترحب بذلك .

قلت : اولا انا لا املك اية معلومات، ثم ولاكون صادقاً معك لو كنت املك اية معلومات لن اعطيك اياها ، وما كان يجدر بك ان تضع نفسك بهذا الموقف ولم يكن زملائي المصريين موفقين في إرشادك عني .

واخيراً أحب ان أؤكد لك انك لن تذهب بنزهة الى لبنان بل ستواجه الجحيم هناك .. توقفت قليلا وكررت ستواجه الجحيم ، وصمتت .

قال باقتضاب : شكراً لك اعتذر عن الإزعاج ارجو ان تسمح لي بالمغادرة لدي الكثير لأقوم به .

ثم غادر منزلي.

مضت بضعة أشهر اختفى خلالها ستيف اذ انه اوفد فعلاً للبنان لتنفيذ مهمته ، وشعرنا بالدورة بغيابه فقد كان مدرساً فذاً لمادة بالغة الاهمية هي التاكتيك ” التعبئة ” كما نسميها .

وفجأة ظهر ستيف .

كنّا قد سمعنا عن انفجار المبني الذي يقيم به المارينز في بيروت.

يوم سقط في بيروت أكبر عدد من “المارينز” دفعة واحدة بواسطة شاحنة فجّرها “إستشهادي” وقتل لأميركا 241 جندياً بدقائق

لو كان كتاب “غينيس” للأرقام القياسية عن الولايات المتحدة وحدها، لضموا إليه “الاستشهادي” كقاتل أكبر عدد من مواطنيها دفعة واحدة خارج حرب معلنة منذ تأسست الولايات المتحدة حتى هجمات 11 سبتمبر 2001 بواشنطن ونيويورك، فليس في التاريخ زاهق لأرواح الأميركيين بالجملة مثله. مع ذلك، فلا أحد يعرف عنه شيئا ،

نفذ الاستشهادي عمليته في بيروت ، كان التفجير فيها قويا إلى درجة أن “أف.بي.آي” وصفها بعبارةThe largest non-nuclear bomb in history

لأن دويّه أيقظ العاصمة اللبنانية باكرا من نومها، مذعورة،

بدأ كل شيء في السادسة و22 دقيقة من صباح الأحد 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983 وانتهى للأميركيين بكارثة: القتلى كانوا 220 من المارينز و18 من البحارة و3 جنود، وجميعهم قضوا بدقائق، ومعهم قضى بعدها في المستشفيات 13 مدنيا أميركيا، ممن كانت حالتهم حرجة ضمن 128 أصابتهم جراح متنوعة وخرجوا سالمين .

تفجير “شاحنة الموت” كان بقوة 6 أطنان.

قاد الاستشهادي شاحنة إلى مقر “المارينز” المجاور لمطار بيروت، وكانت ثكنة عسكرية من 4 طوابق يقيم فيها 300 من مشاة البحرية البالغ عددهم في العاصمة اللبنانية ذلك الوقت 1600 عنصرا، ممن شكلوا مع نظرائهم من بريطانيا وفرنسا “قوات حفظ السلام الدولية” التي تمركزت في بيروت منذ انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي في 1982 للبنان.

وعندما اقتربت “شاحنة الموت” من مدخل الثكنة اتجه سائقها نحو موقف السيارات، فظنوها صهريجا كانوا ينتظرونه لتزويد المبنى باحتياجاته من الماء. إلا أن الاستشهادي كان يقود شيئا مختلفا بالمرة عن أي صهريج ماء، لأن شاحنته الصفراء كانت محملة بما قوته التفجيرية أكثر من 6 أطنان “تي.أن.تي” أحدثت عندما صعقها دويّ كان أقوى ما سمعه لبنان في حربه الأهلية التي بدأت في 1975 وانتهت بعد 15 سنة.

وبالتزامن مع تلك العملية، دمر استشهادي آخر بشاحنة متفجرات أيضا مبنى مجاور، كان مقرا لقيادة كتيبة المظليين الفرنسية العاملة هي و”المارينز” الأميركيين في إطار قوات متعددة الجنسية تم تكليفها بتهدئة الأوضاع في لبنان، فسقط في التفجير 58 جندياً فرنسياً و6 مدنيين.

لقد كانت العملية إيذاناً لولادة تنظيم اسمه حزب الله .

في اليوم التالي، قام الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا ميتران، بزيارة غير رسمية إلى بيروت، وأمضى في موقع الانفجار الفرنسي بضع ساعات، ثم قال: “إننا سنبقى هنا” ومثله فعل جورج بوش الأب، وكان نائبا للرئيس الأميركي رونالد ريغان آنذاك، بزيارة موقع تفجير قوات “المارينز” بعد 3 أيام من العملية، ليصرح بأن الولايات المتحدة “لن يهددها الإرهابيون” كما قال.

ساعات مرت على تصريحه، وصدر عن “حركة الجهاد الإسلامي” بيان أعلنت فيه مسؤوليتها عن العملية المزدوجة،

ثم اتضح أن تلك المنظمة لم تكن سوى اسم حركي لحزب أسّس حديثا ذلك العام لملء الفراغ الذي تركه خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان بفعل الغزو الإسرائيلي، ولم يكن من أسّسه سوى “حزب الله” الذي نعرفه الآن .

أدت التفجيرات لانسحاب “قوات حفظ السلام الدولية” في بداية 1984 من لبنان، بعد أن بقيت فيه 18 شهرا وصفوا خلالها الأميركيين بأنهم “رسل سلام وخلاص” وقبله شكلت وزارة الدفاع الأميركية لجنة بأواخر 1983 من 5 أعضاء للتحقيق بالحادثة التي أعدوا تقريرا عنها بعد 90 يوما، تضمن تقييما لعمل المتعددة الجنسية وأدى لانسحابها.

ذلك التقرير تضمن معلومات عن العملية التي اعتبروها فيما بعد “أسوأ استهداف لمصالح أميركا قبل هجمات 11 سبتمبر”. وردا عليها شنت فرنسا غارات جوية بوادي البقاع ضد مواقع قالت إنها للحرس الثوري الإيراني، فيما جمع الرئيس ريغان فريقه للأمن القومي وتم التخطيط لاستهداف ما كان اسمه “ثكنة الشيخ عبد الله” قرب مدينة بعلبك “وكانت تضم الحرس الثوري الإيراني الذي يعتقد أنه درب مقاتلي حزب الله” وفق الوارد بأرشيفات ذكرت فيما بعد أن عماد مغنية كان الدماغ المخطط للتفجير.

وحمل “المارينز” معهم من لبنان عند الانسحاب شجرة أرز صغيرة زرعوها في مقبرة “أرلنغتون” الشهيرة بولاية فرجينيا، وتحتها نصبوا لوحة تخليداً لذكرى من قضوا بالتفجير،

بجوار الشجرة دفنوا 21 من القتلى، أما البقية فتوزعت جثامينهم على مقابر 9 ولايات، وفيها يحيون كل عام ذكرى أكبر مقتلة حلت بالمارينز زمن السلم

التقيت الرائد ستيف بعد عودته واتصاله بي وتحديد موعد للقاء ، لم يكن يتحلى بذات العنفوان والاعتداد بالنفس ، كان شخصاً اخر تماماً مكسوراً بشخصية مهزوزة ونظرات زائغة تائهة

.بادرني بالقول : أودّ ان أبوح لك بسر ، حين التقينا بالمرة الاولى ظننت انك مغرور بنفسك يمثل دور النزيه وبأنك تهذي عندما قلت لي انني سأواجه الجحيم ولن تكون رحلتي نزهة بل مخاطرة ،

لكن اتضح لي انها كانت رحلة محفوفةبالمخاطر فعلاً واجهت بها الموت ونفذت بأعجوبة ، كانت تجربة مرّة تعلمت منها الكثير .

اعتذر لك عما حصل .

انتهى اللقاء دون ان انبس ببنت شفة.

ولم التقي بالرائد ستيف مرة اخرى .

مضت السنين ولا زلت اذكر تفاصيل الحكاية ، ومنذ ذلك التاريخ وانا ازداد اعتزازاً وفخراً وثقة بما حصل وبمن وقف خلف العملية ومن نفذها وبنهج المقاومة سبيل وحيد للتحرر الوطني والاجتماعي.

( بالمناسبة انا اعلم ان الجيش العربي المصري جيشا وطنياً عظيما قدم تضحيات جسيمة للحفاظ على مصر وعلى المد الوطني منذ نشأته وانا اعتذر له ولكل منتسبيه ولشعب مصر عن رواية هذه القصة التي حصلت معي حقيقية وكلي ثقة بان هذا الحادث مجرد حادث فردي.

قد يعجبك ايضا