الديمقراطية والتكاذب عليها ومحصلة حكم الرأي الواحد / أ.د. محمد الحموري

 

أ.د. محمد الحموري * ( الأردن ) الأربعاء 18/3/2015 م …

*فقيه دستوري ووزير عدل سابق في الأردن

إذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه، فإن الديمقراطية بهذا المعنى لم تتحقق في دول أوروبا، إلا بعد أن توصلت إلى اعتماد أساسين متكاملين يستحيل قيامها بغيرهما:

الأول: أن السلطة ينبغي أن تواجهها سلطة مثلها، من أجل أن توقفها عند حدودها وتمنعها من التمادي والتغوّل على ما عداها، والعبث بالمال العام، ومنع سيادة حكم الأشخاص بدلاً من حكم القانون والمؤسسات. ومن أجل هذا، فقد قامت شعوب دول أوروبا، بثورات دامية، أخرجت من التاريخ (41) أسرة مالكة كانت تتوارث الحكم، بسبب انفرادها بالسلطة، وتسخير من يقوم على القضاء والتشريع ليكون أداة طيّعة بيدها، وبعد ذلك، فرضت تلك الشعوب، وجود سلطات مستقلة ثلاث، يستطيع كل منها، بموجب استقلالها الحقيقي، أن يقف في وجه الأخرى، عند التغول أو الافتئات. لكن أي سلطة من هذه السلطات لا تستطيع أن تحرم السلطة الأخرى من الاجتهاد وهي تمارس عملها، ما دامت لم تخالف دستوراً أو قانون.

الثاني: أن الذي يستطيع كشف سلامة الرأي الذي ينطلق منه الحكم وملاءمة اجتهاده وتوجهاته، هو رأي وتوجه آخر يقابله، ليعارض ما يعتقد بعدم سلامته، استناداً إلى رأي أو توجه يرى أنه أكثر نفعاً لمصلحة الوطن، بحيث يكون الشعب حكماً بين التوجهين. ومن هنا، فإن الدول الغربية لم تدخل إلى الديمقراطية الحقيقية، وضبط سلامة أداء سلطة الحكم وملاءمته، إلا بعد أن وُجد فيها أحزاب تحكم وأخرى تعارض، أي وُجد فيها أحزاب تتناوب على الحكم، يستمد كل منها مشروعية قيامه واستمراره من الدستور، دون قيود أو معوقات تفرضها عليه ممارسات تشكل انتقاصاً من حريته أو حرية من ينتسبون إليه.

ولذلك، فإن دساتير دول الديمقراطيات المعاصرة وأنظمتها القانونية في المجال السياسي، شُرّعت لتضمن وجود الأساسين السابقين في آنٍ معاً، ومتطلبات تفعيلهما، على أعقاب ثوراتها.

وقد راعت تلك الديمقراطيات التي سارت على طريق الإصلاح منذ البداية، أن قرار البناء الإصلاحي للدولة في مجال الاقتصاد والإرادة والتعليم وغير ذلك من المجالات، هو قرار يأخذه في النهاية أصحاب السلطة السياسية. فإذا كان من يحدد مضمون القرار أو من له السلطة الحقيقية في إصداره، غير مؤهل، أو صاحب مصالح خاصة في إبقاء ما كان على ما كان، أو يسيطر على فكره نهج المنطق العرفي، أو ينتمي إلى طبقة الرأي الواحد في الحكم، فإنه لن يستطيع أن يقدم إصلاحاً، إذ صاحب قرار الإصلاح، ينبغي أن يكون مؤهلاً له، قانعاً به، أميناً ونزيهاً في إصداره، وحريصاً على الانتقال من الحال محل الشكوى، إلى الحال التي يتطلع إليها الشعب. ولذلك، فقد أصبح صاحب القرار خاضعاً لرقاباتٍ في عمله وتقييماتٍ لأدائه، على نحوٍ يضمن أكبر سلامة للمطلوب. وبالتأكيد، فقد كان ما وصلت إليه هذه الدول من نهج في الحكم، محصّلة لما أفرزته عقول أمينة وظفتها لديها، لتجنبها وتجنب شعوبها ويلات صراعات دامية في قادم الأيام.

وكان الثمن الذي دفعته أنظمة الحكم التي عاندت شعوبها باهظاً، وتبين أنه كانت البطانات ومصالحها وراء عناد تلك الأنظمة. ففي أعقاب الربيع الأوروبي الذي انطلق بعد الثورة الفرنسية الثالثة عام 1848، وكسر شعوب أوروبا لحاجز الخوف، فقد أثبتت حقائق التاريخ المستخلصة من الأسباب والكيفية التي زالت بها (41) أسرة حاكمة من أصل (51) أسرة كانت تحكم أوروبا خلال نصف القرن اللاحق، أن البطانات التي كانت تنحني أمام رؤسائها، وتشعرهم بولاء يُظهرهم كملكيّين أكثر من ملوكهم (Ultra Royalist)، كانت تقبض الثمن في صورة مصالح وامتيازات، باعتبارها مراكز قوى واقعية، أكثر نفوذاً من أصحاب السلطات الدستورية، ومن ثم فقد تمكّن هؤلاء، من تعطيل استجابة النظم السياسية لمطالب شعوبها، وتغييب الحريات وتجريف كفاءات أوطانهم تحت ذريعة عدم الولاء، والاستحواذ على ما تستطيع من المال العام، ونشر الفساد، وتوسيع جيوب الفقر في المجتمع، مما أدى إلى انفجار تلك الشعوب للوصول إلى حكم ديمقراطي عن طريق الدم، فكانت تلك البطانات هي السوس الذي نخر أعمدة تلك النظم الحاكمة حتى هوت وزالت، ولم يبق هناك سوى عشر أسر، هي التي كانت حريصة على اختيار بطانات مجردة من المصالح الخاصة.

في كتابه “المعارضة السياسية في الديمقراطيات الغربية” (Political Oppositions in Western Democracies) يقدم بروفيسور Dahl، أستاذ العلوم السياسية بجامعة (Yale)، واحدة من أكثر الدراسات المرجعية عمقاً، عن تكوين المعارضة السياسية وطريقة عملها، وما تمارسه من دور في المسار السياسي للدولة، وما تبعثه من اطمئنان عند المواطنين، في عشر دول غربية هي، بريطانيا، أمريكا، النرويج، السويد، بلجيكا، هولندا، ألمانيا، فرنسا، النمسا، وإيطاليا.

ومحصلة ما توصل إليه البروفيسور، أنه ما كان يمكن أن تشهد هذه الدول حكماً ديمقراطياً سليماً، لولا توصل العقلاء فيها في وقت مبكر، إثر زوال أنظمة حكم الرأي الواحد، إلى أنه مهما بلغت كفاءة أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن أياً منهما، بمعزل عن وجود أحزاب فاعلة، لا تستطيع أن تشكل رقيباً يوصل إلى الشعب حقيقة أوجه الخلل في توجهات السلطة الأخرى عند وجوده، كما أن السلطة القضائية، لا تستطيع أن تقوم بدورها الرقابي، إلا من خلال دعاوى بتجاوزات تقدم لها. لكن هذا الدور تستطيع القيام به، معارضة منظمة على نحوٍ مؤسسي، في صورة أحزاب ترصد توجهات سلطة الحكم وتناقشها، وتكشف أي خلل فيها، فتطرح البديل الذي تعتقد بأنه الأفضل للمصلحة العامة، لتكون الكلمة النهائية للشعب في الحكم على هذا التوجه أو ذاك. وقد مكّن هذا الرأي الآخر من الصعود والارتقاء إلى مرحلة المؤسسية الحزبية، حقوق وحريات، غدت جزءاً من طبيعة الإنسان وتكوينه، وتجذرت في أعماق المجتمع من خلال ممارسته لها، حتى أصبح الانتقاص منها متعذراً على أي سلطة في الدولة.

أما أثر ذلك على الشعوب عند بروفيسور (Dahl)، فهو أن استقرار المعطيات السابقة، أوجد في نفس المواطن أمرين جوهريين هما، الثقة بأداء الدولة وأشخاصها من ناحية، والإطمئنان الشخصي على حياته ومستقبله من ناحية أخرى. وترتب على هذين الأمرين، قناعة لدى المواطن، بأن ممارسة دوره في العملية السياسية في دولته، يكفي له أن يذهب ليدلي بصوته في صندوق الانتخاب للحزب المناسب لتوجهاته، وهو على قناعة تامة بأن العمل المؤسسي بين الحكم والمعارضة، سوف يضبط إيقاع حركة الدولة على نحوٍ سليم، دون أن يشغل نفسه بمجرياتها وتفصيلاتها، ومن ثم فإن هذا المواطن يتفرغ لعمله، وهو مطمئن النفس مرتاح البال. وبهذه المحصلة، يتحقق تصويب بنيان الأنظمة السياسية وأدائها، عن طريق الكلمة والرأي والفكر، دون حاجة إلى انفعالات أو ثورات شعبية، وما يترتب عليها من ضحايا ودماء وخراب.

والسؤال هنا: أين نحن في الوطن العربي مما سبق؟

إن دساتير العديد من دول العالم العربي تنص على وجود ثلاث سلطات مستقلة، وعلى حق المواطنين في إنشاء أحزاب سياسية، وعلى حريات تكفلها الدولة، وغير ذلك مما تنص عليه دساتير الديمقراطيات المعاصرة. لكنه من حيث التطبيق، هناك انفصال في الكثير من الدول العربية بين ما تتحدث عنه النصوص الدستورية وبين ما يجري في الواقع المعاش.

فالسلطات الثلاث في هذه الدول، تكاد تكون شكلاً ديكورياً ليس إلا، إذ هي تتحرك وفق إرادة عرّاب ليس له من دستور دولته سلطة، لكنه يسيطر على جميع مفاصل الحياة السياسية ويوجه حركتها، وغدا رأيه هو الأسمى والأعلى، وعلى الجميع أن يصدع لما يأمر به وما يقول.

أما الأحزاب التي استهدفت الدساتير من إيجادها تكوين الرأي الآخر، فهذه أجهز العراب على دورها وجدواها. فإيحاءات العراب وضعت قيوداً على تشكيل الأحزاب ونشاطها، بموجب قوانين أحزاب يغلب عليها الطابع العقابي. وحتى من استطاع اجتياز القيود والعقبات في نشوئه من تلك الأحزاب، تمكن العراب من اختراقه بعناصره على نحو يتكفل بتفتيته أو جعله يراوح مكانه وعاجز عن النموّ. وفوق ذلك، فقد أصبحت للعراب أحزابه التي تظهر في المناسبات للتصفيق والتعظيم، والوقوف في وجه أي توجهات إصلاحية يمكن أن تسعى بعض الأحزاب للمطالبة بها. وبهذا جعل العراب أحزاب وطننا العربي عقيمة لا تنجب نواباً يشكلون الرأي الآخر، وسلط عليها أقلام الردح وتلميع صاحب السلطة، لجعلها مادةً للسخرية والتندر بحجة تقصيرها وعدم فاعليتها!!

وفي هذا المجال، فقد طغى إعلام العراب على ما عداه داخل الدول العربية، وأصبح الإعلام الخاص أسيراً عنده، فيصدع لما يُؤمر به لتجنب العقاب، وبفضل هذا الإعلام الذي يُوحى إليه من أجل أن يكذب، تم تصوير الدولة وكأنها دولة عمر بن الخطاب الراشدة في التزامها بمبدأ الشورى، وفي عدلها ونزاهتها وحرصها على المواطن والوطن وأمواله!!

وغاب عن العراب، أن الدولة التي تخنق الرأي الآخر، هي كالأم التي تخنق وليدها لإسكات صوته المعبّر عن جوعه.

إن من حق المواطن العربي أن يتساءل، أين هي الديمقراطية التي تسوّق على الناس صباح مساء، في ظل حكم الرأي الواحد، فإلى متى سيستمر هذا التكاذب على الديمقراطية.

لقد صبرت العديد من الشعوب العربية دهوراً على هذا التكاذب، وعندما طال الصبر أكثر مما ينبغي، كسرت حاجز الخوف خلال ربيعها العربي، وثارت على واقعها المعاش، كما فعلت شعوب أوروبا في ربيعها قبل (170) سنة، إذ أسباب الربيعين واحدة، ونهج انطلاقتهما الشعبية واحدة، وانتكاساتهما خلال السنوات الأولى بسبب تحالف أنظمة الرأي الواحد ضدهما واحدة، وتفريخ كل منهما لحركات التطرف واحدة. وفي الوقت الذي أخذت فيه قيادات حركات التطرف إثر الربيع الأوروبي بمنهج عقلاني أدى إلى حصول الشعوب على ديمقراطية حقيقية لتحل مكان حكم الرأي الواحد، فقد استثمرت حركات التطرف الديني حالة الغليان الشعبي والمجتمعي إثر الربيع العربي، لتنطلق بمنهج تكفيري، جعل أتباعه يتسابقون على الموت وبيد كل منهم مفاتيح جنة الفردوس، ووجهوا سهامهم إلى من لا يؤمن بنهجهم من الشعب وسلاطين حكم الرأي الواحد في آنٍ معاً.

والآن، فليس هناك من سبيل أمام حكم الرأي الواحد لإنهاء حالة الضيق والقهر الشعبي والمجتمعي، سوى إصلاح سياسي حقيقي يقود إلى ديمقراطية سليمة وليس ديكورية، بسلطات دستورية ثلاث فاعلة، وأحزاب تتناوب على الحكم، تنطلق من حريات دستورية حقيقية دون وصاية عليها من أحد. فهذا السبيل وحده، هو الذي يستجيب لمطالب الشعوب، ويجنب أنظمة الحكم مصير غيرها، وفي ذات الوقت يتكفل بسد الأبواب أمام استقطاب الحركات التكفيرية للباحثين عن ملاذ من الجوع أو الظلم أو التهميش والتجاهل.

 

قد يعجبك ايضا