طفلٌ غزيٌّ يحلم بالعيد / أ.د وفاء عوني الخضراء

أ.د وفاء عوني الخضراء ( الأردن ) – الخميس 5/6/2025 م …



في بيوت بلا سقوف تأويها، بين الجدران المتشققة أو ما تبقى منها، وعلى الأرضيات المتعبة، وسط أصوات الخوف وصراخات الهلع، وحتى حين يأتيه النوم ملفوفًا بأزيز الطائرات المُسيّرة، يظل يحلم وعينيه مفتوحتين على اتساعهما، لا لشيء سوى لأن الأحلام في غزة ليست ترفًا، بل شريان حياة، وضرورة للبقاء في مواجهة الفناء. أحلام تستمر بلا منام، تنهض في ليلة عيد الأضحى بكبرياءٍ مثل سرٍّ يتفتح تحت الركام.

ترى بماذا يحلم الطفل الغزي في هذا العيد، في هذا العام كما في كل عام! يحلم أن يستفيق على صوت أبيه، على وجه أمه دون أن تذرف الدموع على ضفائر ابنتها الصغيرة، على ملابس جديدة، أن يبتسم لقاء عيدية تستقر في جيبه، أن يطير رفقة أصدقائه في فضاءات اللعب والمرح، وأن لا يشير أحدهم إلى صورة معلقة على الحائط ويهمس: “كان سيرتدي ملابس العيد هذا اليوم”.

يحلم كما يجب أن يحلم أي طفلٍ؛ بأن تسمع الطرقات صوت البهجة العامرة وتهتف الشوارع إزاء وقع الأقدام السعيدة والثابتة.

العيد في غزة لا يُؤجَّل، ولا يُهزم؛ بل يُزرَع في الأغاني، تشتم عطره في قلوبهم، تستشعره في دفء الأيادي المتشابكة فوق صواني كعك العيد، ويزهر ورداً وفرحاُ ، بطريقة ما يعرفها الغزيون جيداً، حتى في أكثر الأتربة قسوة.

في غزة، هناك حيث كل شيء الآن نقيض للحياة، لا يزال الطفل يحلم بالعيد لا كعطلة، بل كإجازة مؤقتة من الإبادة وكبرهان على أن الروح ما زالت حرّة قادرة على الاحتفاظ ببهجة الحياة، وأن الفرح مثل الغزيين، يحترف الصمود.

العيد في غزة لا يأتي بالألعاب النارية ولا بـ” الأبهة”، بل يتسلل بلطف إلى القلوب عبر رائحة الهيل والكعك المتصاعد من الأزقة، عبر الهمسات المتبادلة بين الجيران، والتحيات التي يتبادلونها بأصوات متعبة، يصل مع حفيف العباءات، مع طرق الصواني المتوازنة بين الأيادي، مع خطى الأطفال المتعربشة على النوافذ.

عيدٌ بنكهة مختلفة تخص غزة وأطفالها، حيث الهواء يزداد كثافةً بشيء مقدّس، شيء حقيقي للغاية.

أما في الليلة التي تسبق العيد، فغزة لا تنام. الشوارع تبقى مترقبة، تتنصت على كل لحظة فرح تجرؤ على المأساة لتسمح لها بالعبور، وعلى الضحكات وهي تتدحرج عبر الأزقة، وتُسمع وهي تقفز من سطح إلى آخر، منسوجةً بين حكايات تُروى على كاسة شاي.

الآباء يصلحون الياقات المهترئة على ضوء الشموع، وأصواتهم تمتلئ بالحنان: “سترتديها كالأمير”. والأمهات يهمهمْن فوق العجينة، يُصاغ التمر بين أيديهن المتعبة تبراً وذهباً ، ويطوين الأمل داخل كل قطعة حلوى دافئة. أصواتهنّ تصعد وتهبط مع إيقاع العجن، أغنيات وأهازيج توارثتها الغزيّات وخيطتها في ذاكرة أطفالهن.

في الساحات، تنحني الجدّات فوق صواني المعمول، يتابعن عن كثب عمليات النقش والخبز، يهمسن بإرشادات للأنامل الصغيرة: “لا تكن سميكة، يجب أن يظل الرسم ظاهرًا”، قوالب الكعك تضرب الطاولة كطبول ناعمة. الأجداد يُقوّمون ستراتهم ويلمّعون عصيّهم القديمة، وعطرهم ماء ورد ووقت، يتطاير خلفهم. يقول أحدهم وهو يضبط طاقيته: “دعوني أكون أول من يرونه حين يعود النور.”

رائحة الفستق المحمّص تطوي نفسها في الجدران، تتسلل تحت الأبواب وتلتف حول الحبال المعلقة بالغسيل، حتى الطيور تبدو مسحورة بالرائحة، تهبط إلى الأسلاك وكأنها تصغي.

الحي بأكمله يتحول إلى سيمفونية من الترقب: طرطقة الملاعق، خرز المسابح، صوت التغليف المفاجئ للهدايا المحضّرة سرًا، وتلك التفاصيل الصغيرة التي تأبى إلا أن تجعل من عيد غزة رواية صمود وأسطورة.

والطفل، بعينين مفتوحتين، لا يسهر خوفًا، بل شوقًا للفجر، فكرة ارتداء شيء جديد عند شروق الشمس تُبدّد النوم من عينيه مرةً بعد مرة، القميص المطوي إلى جوار الوسادة يبدو سحريًا، حتى إن كان مرقّعًا ويفوح برائحة الصابون والياسمين ، فإنه وعد. أما الصندل الأكبر بمقاس نمرة أو إثنتين، ينتظر عند الباب مثل صديق متلهف وعجول.

في الخارج، كل غزة مستيقظة، مكان يتسع في العيد رغم الضيق لأوسع تأويل، أحجاره تميل لتسمع الضحكات المكتومة، وتتماهى مع خطى الناس، والصيحات تعلو الشرفات: “لا تنسوا السمسم”. مكان يعرف الخطوات عن ظهر قلب، كما يعرف الأسماء، ويحفظ رقصة العيد وطعم التفاح، والاندفاع الهادئ نحو الصلاة، وركض الأبناء بين البيوت والمخابز، وصوت دلاء الماء في حضرة الصباح.

مع الفجر، تصدح المساجد: “الله أكبر، الله أكبر”، الصوت لا يُسمع فقط، بل يُبتلع بالكامل، يرتجّ عبر كل نافذة، كل فؤاد، كل مدينة نائمة، يوقظ غزة لا من نومها، بل من ذاكرتها. الشارع يتحول إلى نهر من الأقدام المنتظمة، أطفال بطفولة واعدة وقصات شعر غير مستقيمة، شبان يعدّلون أكمامهم، فتيات يسدلن الضفائرعلى أكتاف حالمة، ونساء يخبئن الغد تحت شالات مطرزة، ورجال يربتون على جيوبهم المليئة “بالعيديات”.

ليس العيد في غزة مجرد مناسبة، بل مشهدٌ سمعي، هو الشهيق الجماعي لشعبٍ يرفض إلا أن يعيش بكرامة. وحتى إن لم يكن هناك وليمة، ولا أرز ساخن، فإن هناك دائمًا مأدبة من الوجوه: تبتسم، حاضرة معًا. والأطباق هناك من فرط الكرم تنتقل من بيت إلى بيت، تتبادلها العائلات محبةً ومصيراً، ليست ثقيلة بالطعام، بل بالمودة والمحبة. طرقة على الباب تعني: أنت لست وحدك.

يأتي العيد هذا العام، وطفل غزة يحلم، وثم يحلم لا فقط بالمعمول “والعيدية”، بل بصباح لا يفتقد فيه أحد. بصوت لا يغيب عنه الفرح، بضحكة أعلى من صفارات الإنذار، وبسماء تمتلئ بطائرات ورقية ملونة، ومراجيح تطير به إلى طفولة لا تنتهي.

هذا حلم كل طفل في غزة، وهذا هو عيد غزة لمن يريد أن يعلم، لا يُؤجَّل، سيرورة حياة، بل يُتلى في القلب، ويُستحضر بالذاكرة، يُحمل في الرائحة والصوت، يُزرع في الحنين، ويتحدى النار من الأعلى، ويصر أن يشرق ويزهر.

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

15 − أربعة =