دراسة نقديّة لرواية (الجزار). للكاتب “حسن الجندي” / د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد ( سورية ) – الخميس 28/11/2924 م …




من هو الروائي “حسن الجندي):

     حسن الجندي, كاتب وروائي مصري, اقترن اسمه بعالم الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين وعالم الرعب, لغاية ما لقبه الكثير من القراء بأبي الرعب.

     كثير من القراء أُعجبوا بأسلوبه في الكتابة التي تتميز بسهولة التعبير, إضافة لاهتمامه بعامل التشويق فى رواياته واختراقه أماكن كثيرة محرمة. في أحد لقاءاته الصحفيّة قال بأنه تلقى الكثير من الاتصالات والرسائل تطلب منه أرقام هواتف شخصيات معينة فى رواياته, فكان رده بأنها شخصيات غير حقيقية, وبعض المتصلين يصر على أنه لا يقول الحقيقة لدواعي أمنية.(1). الويكيبيديا.

     تقع الرواية في باب الأدب السياسي, ويقوم النسق المضمر لمضمونها على مسألتين أساسيتين هما: الإرهاب أولاً وقوى الأمن ثانيا. وكلاهما في دولنا العربيّة المتخلفة يمارسان الظلم بهذا الشكل أو ذاك على المواطنين الأبرياء دون مبرر, فالإرهاب يمارسه حملته على الأبرياء نكاية بالدولة, فعديد من أعمال التفجير التي قام بها الإرهابيون باسم الدين, قتلت من الابرياء الكثير, أطفالاً ونساءً ورجالاً. وأجهزة الأمن بدورها غالباً ما تصلها تقارير كاذبة بحق ناس أبرياء, فيقوم رجال الأمن بتعذيبهم دون وجه حق للوصول إلى ما ورد من تقارير بحقهم كذباً.

     من هذا المنطلق جاءت رواية (الجزار), للروائي المصري “حسن الجندي”  محاولةً لتسليط الضوء على هذه الاشكاليّة وما تولده من قهر وظلم يصل إلى درجة الاجرام بحق الإنسانيّة, إما تحت ذريعة الأيديولوجيا الدينيّة والدفاع عن العقيدة كما يفهمها هؤلاء الإرهابيون, أو تحت ذريعة الدفاع عن الوطن وحماية الشعب كما يدعي بعض رجال الأمن.

     لا شك أن الرواية تحمل في مضمونها الكثير من التضخيم في مسألة التعذيب, وخاصة (اغتصاب زوجة) المتهم أمامه, دون أن يتم التأكد من خلال التحقيق تورط الزوج بقضية إرهابية,  ولكن هذا لا ينفي ما تمارسه أجهزة الأمن من تعذيب يندى له الجبين في دول تتدعي المدنيّة, ودساتيرها مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة واحترام الرأي والرأي الآخر.. ففي هذه الدول في وطننا العربي وفي مثل هذه القضايا المتعلقة بالسياسة التي يتدخل بها الأمن, لا دور للقضاء فيها, وإن وجد له دور فهو يأتي متأخراً بعد أن ينهك السجين وربما يموت تحت التعذيب أو يفقد صحته ومعنى الحياة.

     يبدأ الروائي “حسن الجندي روايته ” (الجزار) بعبارة مدهشة حقاً في مضمونها ودلالاتها المشبعة بالساديّة ونكران لكل القيم والمبادئ الأخلاقيّة الوضعيّة منها والدينيّة عند المحقق الرائد  “حسن” في مباحث آمن الدولة وهو يخاطب “آدم”, الذي لا يعرف لماذا هو هنا في مقر الأمن قائلاً:

(يمكنني في خلال ساعة واحدة أن أجبرك أن تكفر بوجود الله ببساطة, أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها.).  (ص10).

البنيّة السرديّة في الروايّة:

     تعثر مباحث آمن الدولة في مصر على عبوات ناسفة في أحد الفنادق في القاهرة .. ويتم القبض عن المكلف في التفجير ويعترف بكل شيء عن العمليّة, وعن طريقه تم الوصول إلى  المهندس الذي ركب عبوة المتفجرات في الفندق والقبض عليه, وعن طريقه أيضاً وصلت مباحث آمن الدولة إلى نتائج هامة تتعلق بالخليّة الإرهابيّة وارتباطاتها الخارجيّة, حيث قام المهندس بإرشاد مباحث أمن الدولة على شقة الخليّة الإرهابيّة الكائنة في مدينة “نصر”.. عند دخولها من قبل رجال الأمن  حصلوا على وثائق كثيرة وأرقام هواتف, ومعرفة كيف دخلت مواد التفجير إلى مصر من ثلاثة دول. والأهم من كل ذلك وصولهم إلى اسم الرأس المدبر لهذه العمليّة وهو (آدم محمد عبد الرحمن), الذي لم يتم القبض عليه. وبعد التحري عن الاسم  في قيود النفوس المعتمدة, تبين أن هناك عدّة شخصيات تحمل هذا الاسم. منهم طفلان, ورجل في السبعين من عمره ضرير, وشخص ميت منذ ست سنوات, وشخص في العقد الرابع من عمره سافر إلى الإمارات,  ولم يبق سوى “آدم” (رئيس قسم الحسابات في شركة الحاسوب. ( (n. m group. في القاهرة.

     جاءت الأوامر العليا بإحضار المشتبه به “آدم” بأسرع وقت ممكن, فكان يوم جلبه لمقر مباحث آمن الدولة, الثلاثاء 14/ 12/ 2007/ الساعة 11,50. ليلاً.

     دورية من مباحث آمن الدولة تقتحم باب شقة “آدم”.. وبعد كسر الباب ودخول الشقة بطريقة (غير قانونيّة), يُقتاد “آدم” شبه عارٍ, مع زوجته في قميص نومها إلى مقر مباحث آمن الدولة, وتترك الطفلة وحيدة .. في المنزل… تجري عمليّة التحقيق اللاعقلانيّة مع “آدم وزوجته”, حيث مورس عليهما كل انواع التعذيب .. رجال ساديون يجدون متعة في تعذيب المتهمين قبل الحصول على أي دليل يدين المتهم. يعذب “آدم” ويكوى جسده بالنار, ويذبح جلده بالسكين ويصب عليه الكولونيا.. ويمارس الجنس على زوجته أمامه من قبل الضباط الرائد “حسن” .

      بعد فشلهم في الحصول على أي اعتراف من “آدم” يقرر الضباط المسؤولون عن التحقيق إغلاق الملف, وجلب أحد المجرمين المدانين بسوابق ليوقعوه على اعتراف بأنه هو من كان وراء تدبير العمليّة.

    تتوفي زوجة “آدم” “بتول” المريضة أصلاً بمرض القلب, مما لاقته من تعذيب وانتهاك لعرضها .. يغمى على “آدم” من هول ما لاقى من تعذيب ومن قهرٍ لما حدث لزوجته أمامه.. تُؤخذ الزوجة وتلقى في أحدى حاويات القمامة في المدينة, بينما تأخذ الدورية “آدم” وتلقيه في فسحة أمام مبنى العمارة التي تتواجد فيها شقته عاريّاً تماماً لاعتقادهم أنه مات أيضاً. يعرفه أحد الساكنين في المنطقة فيقدم له اللباس… ليصعد إلى الشقة بعد أن عاد له شيء من وعيه.. يجد ابنته قد توفيت من الجوع… يحملها ويذهب إلى أهله .. يُعثر على زوجته ويتم التعرف على هويتها وتدفن من قبل ذويها, ليختفي بعد ذلك “آدم” طوال أحداث القصة التي بدأ فيها يمارس القصاص بطريقة (الجزر) على فريق التحقيق بمباحث آمن الدولة, وعلى هذا الأساس سميت الرواية بـ (الجزار).

     تبدأ عمليات الانتقام من كل فريق التحقيق في مباحث أمن الدولة الذين مارسوا التعذيب عليه وعلى زوجته “بتول” واحداً بعد الآخر, حيث جرت عمليات الانتقام   لكل واحد  أسبوعيّاً وفي اليوم والوقت المشابه لليوم الذي أخذ فيه وزوجته للتحقيق, وهو يوم الثلاثاء الساعة 11,50/ ليلاً, وكانت عمليات الانتقام  تجري بطريقة وحشية تخللها تقطيع لأعضائهم, وأكل للحوم أجسادهم , والتمثيل بها.

      أخذت عمليات الانتقام تجد صداها داخل البلد بشيء من القبول والتشفي, حيث تناولها الإعلام, وجعل من منفذها أسطورة يتحدث عنها الجميع… تقلق الدولة مما يجري لعناصر أمن الدولة, ويكلف ضابط من جهة أمنيّة أخرى هو العميد “سامح” من الأمن العسكري, لمتابعة البحث عن القاتل بعد أن عرقل فريق تحقيق مباحث أمن الدولة أنفسهم الوصول إلى (الجزار). ومن خلال خبرته وعلاقاته الخاصة مع أصدقاء له من دكاترة علم النفس, وبعد جهد كبير يصل من خلال ملامح الخوف التي كانت ترسم على وجوه ضباط وعناصر آمن الدولة الذين كان يقع عليهم الجزر.. يصل “سامح” أخيراً إلى الدوافع والأسباب الحقيقة لهذه المجازر ومن يقوم بها, وهنا يبدأ بالتعاطف مع القاتل (الجزار) نفسه, وكان يتمنى أن يعثر عليه حتى يوقف مجازره ويقدم هو ومن بقي من معذبيه إلى المحكة, وبالتالي يأخذ القضاء والعدل مجراه. ولكن لا فائدة يقتل الجزار آخر عناصر التحقيق وهو الضابط الرائد “حسن” الذي اغتصب زوجة “آدم” أمام عين “آدم”, إذ يقتل بطريقة وحشية فيها الكثير من الفانتازيا(العجائبية), بحيث يعترف هو ذاته بأنه هو (الجزار), وهو من قتل زملاءه بهذه الطريقة الوحشيّة, ولكن يتبين للضابط “سامح” أن الرائد “حسن” قد حقن بمادة كيميائية تدفع للهلوسة والتخيل وفقد للوعي, وهي مادة (إميتال الصوديوم) أو (بتنثال الصوديوم) وهي مواد استخدمها الألمان النازيين في معتقلاتهم, بحيث أن من يحقن بها تؤثر مباشرة على القشرة المخية عنده, وتقوم بفصل جزء من وعي الشخص المحقن بها, ويصبح قابلاً لأخذ أي أوامر تأتيه من الخارج وتنفيذها قولاً أو فعلاً, لأن وعيه يكون في حالة غياب موقت.

     بعد إغلاق الملف يتابع العميد ” سامح ” ملاحقته للقاتل الحقيقي (آدم), بعد أن تأكد من شخصيته عبر جهد كبير من المتابعة, إلى أن شاهده أخيراً في مقبرة العائلة, إلا أن آدام يبتعد عنه بطرية عجائبيّة أيضا, ولكن “سامح” يسمع صوت ” آدم” يقول له : (والآن يا سيد (سامح) سيختفي الجزار, فالنهاية قد كتبت كما قلت لك.. ستُغلق ملفات القضية, ويصبح (حسن), هو الجزار, وينتهي الأمر كما خططت له تماماً.. لا وجود للخير.. ولا وجود للشر.. لم ينتصر أحد .. لم ينهزم أحد.). ص321

     إن أهم ما يلفت النظر في هذه الرواية هو طرق التعذيب أو الأساليب التي يمارسها رجال الأمن في عالما العربي ضد المواطنين المتهمين ولا أقول المدانين, فمع غياب المنطق والوسائل القانونيّة في التحقيق التي تقرها الدساتير, والقائمة على احترام القيم الإنسانيّة لدى الفرد, نجد الأمور تجري بطريقة خارج القانون.. حيث تأخذ عمليات الاستدعاء لأي شخص وتعذيبه وقهره, وربما تؤدي طرق التعذيب إلى مرحلة التصفية الجسديّة بطريقة شريعة الغاب, وهنا نجد الكثير من الناس المتهمين  تحت التعذيب يعترفون باقتراف قضايا لم يقوموا بها, وعل هذا الأساس يأتي الحس الشعبي ليعبر عن حالات ظلم الناس بدون حق كما يقول المثل: (كثير بالسجون مظلمة). نعم كثير من الناس تظلم وتسجن وتشرّد عائلاتهم وينحرف أفرادها بسبب غياب القانون وسيادة شريعة الغاب.

     دعونا نتابع ما جاء في متن الرواية عن مثل حالات الظلم هذه وكما جرى لآدم: 

في غرفة التحقيق يتساءل “آدم”

– ماذا يحدث, وأين أنا ومن أنتم؟.

رد عليه “علي” بنبرات حادة:

– لا تسأل أسئلة أيها (الكلب), أنت هنا لترد على أسئلتنا نحن.

في حين ابتسم (حسن) لـ (آدم) ورد بطريقة ودودة.

– صديقي العزيز أنت هنا في مبنى مباحث أمن الدولة, وصدقني لو فعلت ما أقول لك بهدوء, فسنكون أصدقاء في المستقبل وسترى كل العطف والحب مني, وإذا اخترت الطريق الصعب, وأردت أن تمارس دور البطل, فدعني أقول  لك شيئاً بسيطاً: إن كل الأفلام التي شاهدتها, وكل الأساطير التي سمعتها عما يحدث هنا لا تظهر سوى1% مما يمكننا فعله يا صديقي, يمكنني في خلال ساعة واحدة على إجبارك أن تكفر بوجود الله ببساطة, أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها. ولكي أكون صريحاً معك أقول لك: إن تقطيع الأطراف وهتك الأعراض هو لعب أطفال لما يمكن أن تراه هنا, فأنا بالذات رجل (فنان أحب الاستمتاع بعملي أثناء تأديته), يمكنك ان تتأكد الان من ذلك.). ص37.

     إن هؤلاء لديهم القدرة أن يبرروا تعذيبهم لمن يقع تحت أيديهم لأي سبب باسم الدفاع عن الوطن .

يقول رجال الأمن لأحد أصدقائه: (أنا وطني .. نعم أنا وطني  وأحب بلدي واعشق ترابها أكثر من أي شخص آخر … كل من يتعاملون معي لا يعلمون حجم المجهود الذي يبذله أمثالنا في حماية آمن الوطن.. أنا مخبر في آمن الدولة الكل يخاف مني بمجرد أن يعرف ذلك, ولكن ما المشكلة؟. .. نعم أنا أفتخر بعملي الذي لا يعرف أسراره أحد من العامة. ص97وص98 … لو أخطأت ما المشكلة؟… من فضلك لا تقل لي أنك لا تخطئ, فأنت ظلمت أحدهم في يوم من الأيام, وربما قمت بضربه. أما نحن فلو ظلمنا أحداً إنما نظلم لغاية أسمى وهي جعل الشعب في أمان دائم.). ص100.

الرواية في الشكل:

العتبات السيميائية في الاسم داخل المتن الرواية:

     إن اسماء الشخصيات, غالباً ما تأتي متناسبة مع سماتها وخصائصها, بحيث تحقق للنص جماليته ومصداقيته. فالاسم يوضّح هويّة الشخصيّة, فهو يمثل للشخصيّة ما يمثله العنوان للرواية أو قصة أيضاً، إنه أحد الخطوط المميزة والهامة وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنويّة لهذه الشخصيّة أو تلك, وهو يمثل بثباته وتفاعله وتواتره عاملاً أساسيّاً من عوامل وضوح النص. فالأسماء والصور والرموز داخل العمل السردي تعتبر شكلاً فنياً مشبعاً بالدلالة، فلا مجال فيه إلى منطق المصادفة, فلكل من اسمه نصيب. فالاسم هو الذي يحدد الشخصيّة ويجعلها معروفة، ويختزل صفاتها، ولهذا لابد للشخصية أن تحمل أسماء تميزها”.

     يأتي اسم الرواية (الجزار) حاملاً دلالات عميقة عن روح الانتقام  وقسوته من قبل “ آدم“, تجاه من مارس عليه وزوجته التعذيب والقهر والظلم. ولذلك تتجلى لنا دلالة العنوان في صورة الغلاف التي تعبر عن رأس إنسان قد أدخلت سكين في عينيه عند نهاية أنفه من الأعلى, ووجه ملطخ بالدماء, وهذا يدل على  شهوة الانتقام التي سيطرت على الفاعل حتى حاز على لقب (الجزار).

     أما بالنسبة لاسم البطل “آدم”, فهو تعبير عن الإنسان الضعيف المغلوب على أمره, الذي يمارس عليه القهر والظلم والاستلاب والتشيء والاغتراب, فليس من حقه أن يسأل حتى عن سبب ظلمه, وهذا ليس جديداً على “آدم” وهو الذي طرد من الجنة وزوجته لأنهما خالفا أوامر رب السماء, وها هو اليوم يمارس عليه الدور نفسه في ضرورة الطاعة والامتثال لرب الأرض. الذي نعته بـ (الكلب) فقد لأنه سأل أين هو ؟.

وكذا الحال لدلالات اسم زوجة “آدم” وهو ” بتول” الذي يعني العفة والنقاء.

البنية العامة للشخصيات في الرواية:

     الشخصيّة هي ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. هو “كائن موهوب بصفات بشرية، وملتزم بأحداث بشرية.

     وفي الرواية نجد شخصيات تملأ فضاءات الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي والسياسي. فهناك الشخصيات الفاعلة والنامية في الرواية, ويأتي في مقدمتها “آدم” الشخصيّة الرئيسة, وهي الشخصيّة التي تدور حولها فكرة الرواية الأساس, القائمة على إظهار دور ومكانة الفرد في الدول المستبدة, فهو متهم دائماً, وفاقد لحريته وإرادته ورأيه وكرامته, أو بتعبير آخر: هو من سقط المتاع في وطنه.. هو رقم لا أكثر, تمارس عليه الوصاية والتدجين والنمذجة والتذرير.

     وشخصيّة “آدم” إذا ما حاولنا تفسيرها في أبعادها النفسيّة والتحول في مواقفها داخل المتن الروائي، فهي شخصيّة (نامية) أصابها الكثير من التحولات والتعقيد, لقد تغيرت في أفكارها وقيمها ومسلكها بتقدم أحداث الرواية, ولكنها ظلت واضحة بمجرى الأحداث في وطبيعتها ودوافعها وصراعها، وهذا ما جعل الشارع يتعاطف معها بسبب ما يقوم به من مجازر بحق رجال الأمن الذين لم يستطيعوا مدّ جسور المحبة والألفة عبر تاريخهم مع الشعب الذي يدعون بأنهم وجدوا لحماتيه وتحقيق أمنه, بل كل الذي عملوه هو زرع الخوف عند أفراد الشعب وجعلهم يرتعبون من أي شخصيّة تنتمي لسلك الأمن.

    وهناك في الرواية شخصيات جاءت في المرتبة الثانية, أو ما يسمى بالشخصيات (الثانوية), وهي تفتقر إلى الكثافة السيكولوجيّة والتعقيد الذي ميز شخصيّة “آدم” لأنها شخصيات ذات طابع أحادي ثابت غير متغير”. ولكن الشخصيّة الثانوية تظل في المتن الروائي صديقاً للشخصيّة الرئيسة، فهي تضيء الجوانب الخفية لها, والكشف عن جوهرها وحتى تعديل أو حرف سلوكها, وهذه الشخصيات الثانويّة تمثلت في الرواية برجال الأمن مثل (علي وصابر وحسين وغيرهم). التي ساهمت في تغيير سلوك آدام من رجل يعمل بعقلانيّة وعلميّة لتحقيق حياة سعيدة له ولأسرته, إلى شخصيّة تمارس القتل لتحقيق العدل من باب الانتقام. هذا مع التأكيد على ضرورة الكشف عن أبرز سمات وخصائص هذه الشخصيات الأمنيّة التي أصبحت شبه ثابتة, وهي شعورهم بفوقيتهم واستعلائهم على غيرهم من المواطنين, ووصولهم إلى مرحلة من النرجسية, بحيث ينظرون ويتعاملون مع الآخرين بأنهم (حمير وكلاب), وأنهم وحدهم من يحب الوطن ويدافع عنه .. مفردات حياتهم تقوم على تعذيب المتهم وإهانة كرامته وممارسة كل ما يساهم في إذلاله بشكل أصبح أقرب إلى العادة. يقول أحدهم في الرواية: (ينظر العامة لنا على أننا أدوات تعذيب, ورجال جبارين على الضعفاء .. ولم ينظر أحد لنا بأننا كنا السبب في حماية عائلته من عشرات القنابل التي كان من الممكن أن تنفجر فيه… ومن عشرات الانقلابات التي يمكن أن تنهي حياته ومستقبله.. ومن آلاف المجرمين الذين يحاولون أن يعيشوا في هذا الوطن بأمن وسلام.). ص98.

ولكن نجد في المقابل رجل آمن آخر له عقليّة وسلوكيّة تشبعت بفهم طبيعة عملها. فرجل الأمن عندها هو حماية الفرد والمجتمع والدولة, دون التعالي على أفراد المجتمع, بل هو وضع في خدمتهم. وهذا النموذج نجده في شخصية العميد “سامح”. وهو الاسم الذي يحمل دلالات المحبة والإنسانيّة, فعند لقائه مع والد “آدم” يقول له: (آدم ظلم في حياته, وأنا أعرف من هم الجناة, وأعرف من فعل هذا به وبزوجته). ثم يتابع: ( قلت إنني توصلت لحل قضيّة “آدم” ومن فعل به, ولكن “آدم” كان يسبقني في قتلهم الواحد تلو الآخر, أما أنا فأريد لهم أن يقدموا للمحاكمة أمام الجميع ويحصلوا على جزاء فعلتهم.). بهذا الموقف يتجلى موقف العميد “سامح” كرجل أمن يعرف ما هو القانون وما هي دولة القانون, وهكذا يجب أن يكون دور الأمن وكل المؤسسات القضائيّة.

     وهناك شخصيّة ثانوية أيضاً هي “سالم” الصحفي الذي مارس دوره الصحفي في قضية “آدم” بشكل عقلاني. فاستطاع أن يبن من خلالها عمله ودور ومكانة الصحافة عندما تعمل لخدمة المواطن والوطن, وكيفيّة امكانيّة التعامل مع الشخصيات النظيفة في مؤسسات الدولة كشخصيّة العميد “سامح” الذي عرفه بدوره كصحفي نشيط, وطلب منه التعاون بكل أدب من موقع المسؤوليّة العامة, للوصول إلى الحقيقة.

      هناك شخصيات هامشية في الرواية لا يتجاوز دورها ملء فضاءات صغيرة في الرواية, أي هي شخصيات لا يتعدا دورها مجرد الربط بين الشخصيات الرئيسية والثانوية, حيث  أدت مهام بسيطة ثم اختفت على إثرها مباشرة. مثلها في رواية (الجزار) والد “آدم”, وضابط الشرطة محمد عبد الرحمن, والممرضة أمل, وعاطف دكتور في علم النفس, وغيرهم.  

     عموماً نجح الروائي في رسم شخصياته بشكل بارع، وحقق النفاذ إلى أعماقها, مبرزاً أحوالها الشخصيّة والفكريّة والاجتماعيّة, وتأثير هذه الأحوال بصفاتها وقيمها المعنويّة. ولم تكون الفصول طويلة. وبالتالي لم يكن هناك سرد مجاني ممل للمتلقي رغم تعدد السارد, لقد ظهر أثر الروائي واضحاً في الكشف عن رؤية كل شخصية سارده وموقفها من أحداث الرواية, وبالتالي الوصول إلى أعماق شخصيات روايته والتحكم بها, ووضعها في إضاءات واقعيّة وديكور واقعي ورسم ملامحها بألوان وخطوط واضحة. لقد ظهرت قدرة الكاتب في استغلال تقنيات روايتة، مثل تعدد السارد, وبناء الشخصيّة الروائيّة, والزمان والمكان, واللغة, والتفاعل مع الحدث. والأهم أن الروائي استطاع أن يصنع برأيي في روايته وفي خياله وبصيرته, فضاءً فلسفيّا واخلاقيّاً وسياسيّاً وفكريّا ونفسيّاً. تتنفس فيه الشخصيات وتبوح بأسرارها عبر علاقات التناسب والتفاعل والتناغم بين حضورها الدرامي والفني والجمالي في كل تلك الفضاءات التي احتوت عليها الرواية. لقد استطاع خلق علاقة متناغمة ومتكاملة بين شخصيات الرواية أشبه ما تكون علاقة متكاملة من الألوان والخطوط ومساحات الضوء في لوحة تشكيليّة لفنان مبدع..

البنية الفنيّة للرواية:

      تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع, وذلك بسبب نأيه عن السرد الانفعالي أو التقريري والانشائي أو التسجيلي, أو الحكي المجاني من خلال انفعالات وفكر كل شخصيّة. لقد كان السرد موزوناً وعقلانيّاً ودقيقاً, صيغ بمفردات تناسب وعي كل شخصيّة وثقافتها واهتماماتها, ومن زوايا تتناسب ومصالحها وهمومها وعواطفها… سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة, وحافل بمفردات من المشاهد والمواقف والحوارات التي توالت في إيقاعات منضبطة ورصينة وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال, وبين الفكر والعاطفة, وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع. والسرد في الرواية لا يسير باتجاه واحد حيث وجدنا بَالبنية السرديّة التي ينقلها الراوي عن طريق شخوص الرواية, أن هناك مجموعة من السرديات الحواريّة التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم، فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد وكانه أمام خشبة مسرح أو مسلسل درامي، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة,  وإنما يدخل معها حكايات متنوعة, وينتقل من حكاية إلى أخرى. ولكن يظل هناك تداخل واستغراق للسرديات ونشاط الشخصيات مع بعضها عبر محطات الرواية.  وكل ذلك جاء وفق دوائر تتسع لهموم من ظلم, ولهموم الوطن, ولهموم الإنسان في فضاء كوني واسع مشبع بالتناقضات والصراعات والمصالح المتناقضة.

أشكال السرد في الرواية:

     لقد سيطر على السرد في الرواية بشكل عام, السرد الحواري, وهو تقنية سرديّة تتصل بالحوار, ويغيب الراوي بضمير الغائب تقريبا، والسرد الحواري بين شخصيات الرواية, يتجلى كالمشاهد, أو مقاطع حواريّة من الخارج تعبر فيها كل شخصيّة عن رؤيتها وبلغتها الخاصة وطريقة تفكيرها وقناعاتها, رغم أن المستوى اللغوي للحوار كان على درجة واحدة تقريباً بسبب طبيعة شخصيات الرواية ودرجة ثقافته وتعليمها القريبة من بعضها هنا. وتسمى الرواية الحواري أيضاً بالمتعددة الأصوات, وهي تتبنى علاقة الكاتب بشخصياته على مبدأ الاستقلاليّة حيث تتمتع الشخصيّة بحضور مستقل عن شخصيّة الكاتب, لأنه يتركها تعبر بحريّة عن أفكارها وقناعاتها. لذلك حفلت الرواية بتعدد الأفكار والمواقف السلوكية وصراعاتها. إن الكاتب في الرواية الحواريّة لا يعرف عن الشخصيّة أكثر من خارجها, فهو يقوم بوصفها  لا أكثر أو وصف ما يسمعه أو يراه, وما يجري من حركات وأصوات وألوان, أي هو لا يعرف ماذا يدور في ذهن الشخصيّة وبما تفكر فيه أو تحسه من مشاعر. إن هذه الرواية تدخل في نمط الرواية الجديدة أو الرواية (الشيئية) التي تقوم على الحس. وهي برأيي أقرب إلى الدخول في المنهج البنيوي الذي يلغي دور المؤلف ويترك تفسير الرواية ومعرفة دلالاتها من خلال المتلقي. وهذا ما جعل الروي يركز على شكل الرواية دون التطرق لمحطيها والظروف الخارجية التي أنتجت أحداثها.

البنية الزمكانيّة في رواية الجزار:

المكان :

     إن للمكان في حياة الإنسان قيمته الكبرى ومزيته التي تشدّه إلى الأرض، ولا غرو فالمكان يلعب دوراً رئيساً في حياة أي إنسان. والمؤلف المبدع  يحرص على براعة تصويره للمكان و مدى تطابق المكان المروي بالمكان الواقعي, فالأمكنة بالإضافة إلى اختلافها من حيث طابعها وتشكيلاتها (مغلقة – مفتوحة – ضيقة – متسعة),فهي تختلف أيضاً من حيث نوعية الأحداث التي تجري فيها. لقد اشتغل الروائي في هذه الرواية على الأمكنة المغلة وقليلاً ما نجد أمكنة مفتوحة فيها. وهذا ما يجعل المتلقي أو القارئ لرواية “الجزار” يجد أبطال الرواية يتحركون وكأنهم على واجهة تشبه واجهة الخشبة في المسرح.

     لقد أدت الأمكنة المغلقة في الرواية دورا محوريّاً داخل الرواية، لأنها ذات علاقة وثيقة بتشكيل الشخصيّة الروائيّة واحداثها ومهامها، فهذه الأمكنة المغلقة, مثل  البيت.. الغرفة القطار .. السجن, غرف التحقيق, المشافي .. الخ . هي أمكنة مليئة بالأفكار والذكريات والآمال والترقب والخوف والتوجس. فهي التي تولد المشاعر المتناقضة في النفس، وتخلق لدى الإنسان صراعاً داخلياً بين الرغبات وبين المواقع, ففي الوقت الذي توحي بالراحة والأمان, هي توحي في الوقت نفسه بالضيق والخوف”. أي إن هذا النوع من الأمكنة يتسم بالألفة والأمان, مثلما يتسم أيضاً بالكراهية والحقد وممارسة الظلم. لقد مثلت الأمكنة المغلة في رواية الجزار عالماً من الخوف والرعب, إن كان على مستوى غرف التحقيق في أجهزة الأمن أو المشافي أو شقق السكن التي مورس فيها فعل القتل والجزر والتعذيب. يقول أحد شخصيات الرواية واصفاً حالة الشقق المغلقة وما يجري داخلها وما تركته من خوف لدى المواطنين خارجها: (المهم أنه منذ عام ظهرت أصوات من داخل الشقة, وأضواء, وبعدها كل من سكن داخل العمارة كان يشتكي من الأصوات المرعبة التي كانت تأتي كأصوات صراخ وهمهمات وبكاء ودقات, وكل ترك شقته ولا زال الوضع كما هو حتى الآن.). ص265و 266.

الزمن في الرواية:

     إن الزمن الأدبي أو القصصي هو زمن التجارب والأحداث التي تلازم الكاتب وشخصياته، وبالرغم من أنه ليس زمناً واقعيّاً بقدر ما هو زمن افتراضي أو نسبي شاهد على الشخصيات والوقائع.

     إن الزمن يشكل الروح المحركة لوجود حياتنا اليوميّة, أو في كتاباتنا القصصيّة والروائيّة، فالزمان يؤثر بصورة مباشرة على سرد الأحداث كما المكان, بل هناك علاقة عضويّة بين الزمان والمكان والحدث, فبدونهم تتوقف الحياة. فزمن السرد جاء في رواية “الجزار” خاضعا لمبدأ السببية, حيث جاءت الوقائع متتالية وفق تسلسل زمني منطقي, أي إن الزمن جاء هنا ًليمضي متواصلًا دون إمكان إفلاته من سلطان التوقّف رغم مشهديته الحواريّة … فهو زمن طولي يتواصل بشكل مستمر، وحركته ذات بداية ونهاية توافق فيها زمن السرد مع زمن الرواية, وهذا من ميزات المنهج الواقع في السرد.

اللغة في المعمار الروائي:

     جاءت اللغةً بسيطةً شفافةً واقعيّةً, متماسكة, خالية من الصناعات البلاغيّة والتكلف والغموض المصطنع, وهذا ما يجعلها أقرب إلى المتلقي العادي والمثقف معاً.

أهداف وطموح الرواية:

     أراد الروائي أن يقدم رؤيته الخاصة للحياة ذات الطابع العميق, عبر وسيط فني وجمالي يألفه ويناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة, وجد فيه ملامح من تراثه وبيئته وحياته السياسيّة المعاصرة. ولكي يحقق هدفه تأمل إبداعات الذات العربيّة التي تجسد فيها الخوف والرعب والموت والمجهول والغربة والأسطورة والخرافة والاستلاب واللامعقول, مقابل أحلامها بالمنطق العقلاني وبالعدل والبطولة والحريّة والمساواة واحترام الرأي المختلف, والخلاص من الاستبداد والوصاية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة, والتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر.

     أما الأهم في طموحها داخل نسقها المضمر, فهو سيادة دولة القانون, وعدم هدر كرامات الناس وفقاً لمواقف سلطويّة مستبده, تجد نفسها هي وحدها من يمتلك الحقيقة والوطن, وتسيير شؤون الدولة والمجتمع وفقاً لمصالحها أو وجهة نظرها. فالحقيقة تظل نسبية والمواطن يحميه القانون, والسلطة ليست سلاحاً للقهر بقدر ما هي وسيلة لتحقيق العدل والأمن والاستقرار, وأن كل سلطة في الدولة لها دورها ومكانتها الوظيفيّة, ولم يكن تداخل السلطات وفوضى ممارستها المشينة, وجعل بعضها فوق القانون والمحاسبة, إلا امتهاناً بحق الوطن والمواطن, وغياباً لدور الدولة ومؤسساتها.

الرواية بعنوان (الجزار) للروائي المصري ” حسن الجندي” دار اكتب للنشر والتوزيع – ط2-2011. تقع الرواية في 322صفحة…

الرواية جديرة بالقراءة.

كاتب وباحث من سوريّة.

[email protected]

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

سبعة عشر − 11 =