دراسة موجزة وحقائق أساسية تتعلّق بوعد بلفور وخلفياته / عادل بشارة

 

عادل بشارة – الأحد 3/11/2024 م …

عن جريدة الأخبار اللبنانية …

 

وعد بلفور هو بمنزلة بيان عام أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى حيث أعلنت فيه دعمها لإنشاء «وطن قومي للشعب اليهودي» في فلسطين، التي كانت آنذاك منطقة عثمانية تضم أقلية يهودية صغيرة. وَرَد الإعلان في رسالة مؤرخة في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 من وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد – الذي يُعتبر أحد زعماء الجالية اليهودية البريطانية – لإرسالها إلى «الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى وإيرلندا». ثم نُشر نص الإعلان في الصحف في 9 نوفمبر 1917.
مباشرةً بعد إعلان بريطانيا الحرب على الإمبراطورية العثمانية في نوفمبر 1914، بدأت بريطانيا النظرَ في مستقبل فلسطين. وفي غضون شهرين تم تعميم مذكرة على مجلس الوزراء الحربي من قبل عضو صهيوني هو هربرت صموئيل حيث اقترح فيها دعم الطموحات الصهيونية لطلب دعم اليهود في الحرب القائمة. ثم أنشأ رئيس الوزراء البريطاني هربرت هنري أسكويث لجنة في نيسان 1915 لتحديد سياستهم تجاه الإمبراطورية العثمانية بما في ذلك فلسطين. وقد استقال أسكويث، الذي كان يفضِّل إصلاح الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، في كانون الأول 1916، بينما فضّل بديله ديفيد لويد جورج تقسيم الإمبراطورية. وجرت المفاوضات الأولى بين البريطانيين والصهاينة في مؤتمر عُقد في 7 شباط 1917 ضم مارك سايكس والقيادة الصهيونية. أدت المناقشات اللاحقة إلى طلب بلفور، في 19 حزيران، أن يقدِّم روتشيلد وحاييم وايزمان مسودة إعلان عام. وناقش مجلس الوزراء البريطاني المزيد من المسودات خلال شهري أيلول وتشرين الأول، مع معطيات من اليهود الصهاينة والمناهضين للصهيونية ولكن من دون أي تمثيل من السكان المحليين في فلسطين.
بحلول أواخر عام 1917، في المدة التي سبقت وعد بلفور، كانت الحرب قد وصلت إلى طريق مسدود، إذ لم يكن اثنان من حلفاء بريطانيا قد انخرطا انخراطاً كاملاً: فالولايات المتحدة لم تكن قد تكبدت خسائر بشرية بعد، وكان الروس في خضم ثورة مع استيلاء البلاشفة على الحكومة. وقد كُسِر الجمود في جنوب فلسطين بمعركة بئر سبع في 31 أكتوبر 1917 وتلاها التصريح بإصدار البيان الختامي في اليوم نفسه.

(1) عملية الصياغة
لم تتم صياغة الإعلان والبت فيه بين عشية وضحاها، بل صيغ عدة مرات قبل إرساله. كان نتاجُ الوعد عملية طويلة عُدِّلت صياغته خلالها في ست مناسبات على الأقل.
يكتب وايزمان أنه بعد إقناع الفرنسيين بقبول تطور الاستعمار اليهودي في فلسطين «وجعل فلسطين تنتقل إلى دائرة السيطرة البريطانية، فقد حان الوقت… لاتخاذ الإجراءات اللازمة والضغط من أجل إعلان سياسة في ما يتعلق بفلسطين من جانب الحكومة البريطانية؛ وفي نهاية كانون الثاني1917، قدّمتُ إلى السير مارك سايكس المذكرة التي أعدتها لجنتنا، وعقدتُ معه عدة اجتماعات تمهيدية». سمّيت الوثيقة: «الخطوط العريضة لبرنامج إعادة التوطين اليهودي في فلسطين وفقاً لتطلعات الحركة الصهيونية». وكانت نقطتها الأولى تتعلق بالاعتراف القومي:
«يجب أن تعترف الحكومة السيادية رسميّاً بالسكان اليهود في فلسطين (وهو ما يعني في البرنامج الصهيوني السكان اليهود الحاليين والمستقبليين)، كأمة يهودية، يتمتعون في ذلك البلد بحقوقهم المدنية والقومية والسياسية الكاملة. وتعترف الحكومة السيادية برغبة وضرورة إعادة توطين اليهود في فلسطين».
في السياق نفسه، يصف ليونارد ستاين بدء المشاورات بين الحكومة البريطانية والمنظمة الصهيونية على النحو التالي:
في 2 شباط 1917، حضر السير مارك سايكس اجتماعاً لممثلي الصهاينة في لندن… ظاهريّاً بصفته الشخصية، لكنه كان يحتل منصباً مؤثِّراً في وزارة الخارجية، وكان يؤدي دوراً مهمّاً في تشكيل السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. وكان مؤتمر الثاني من فبراير في الواقع نقطة البداية لتبادل مطوَّل لوجهات النظر بين المنظمة الصهيونية والحكومة البريطانية. وفي تموز 1917، قدَّم ممثلو الصهاينة إلى الحكومة صيغة للإعلان المقترح. اعترفت هذه الصيغة بفلسطين باعتبارها «الوطن القومي للشعب اليهودي» ونصت على إنشاء «مؤسسة الاستعمار القومي اليهودي لإعادة التوطين والتنمية الاقتصادية للبلاد». وردّت الحكومة بمسوّدة بديلة تشكِّل أساس… وعد بلفور.
في الواقع، تم تبادل ومناقشة ست مسودات بين الحكومة البريطانية والحركة الصهيونية، وتم الحصول على موافقة الولايات المتحدة أيضاً قبل أن يُصدر وزير الخارجية البريطاني النص النهائي للإعلان في تشرين الثاني1917. وحظيت النسخة النهائية للإعلان بأقصى درجات الفحص الدقيق. ونُقل عن رئيس الوزراء، ديفيد لويد جورج، قوله إن الإعلان «أُعد بعد الكثير من الدراسة، ليس في سياسته فحسب ولكن في صياغته الفعلية». يقول جوزف جيفريز:
«أول ما يقال عن وعد بلفور هو أنه تصريح دُقِّق فيه إلى آخر لحظة قبل صدوره. كان يحتوي سبعاً وستين كلمة فقط، وقد دُرسِت كل واحدة منها بإسهاب قبل إدخالها في النص».
إنّ عملية الصياغة الدقيقة هذه تكتسب أهمية على وجه التحديد لأن نتيجة هذه الصياغة المطوَّلة والدقيقة كانت عبارة عن بيان رائع لما يحمله من غموض. وعلى حد تعبير ستاين: «ما الوعودُ التي قُدّمت للصهاينة؟ لقد كانت لغة الإعلان غامضة بشكل متعمَّد، ولم يكن هناك أي استعداد لدى الجانب البريطاني أو الجانب الصهيوني في ذلك الوقت للتعمّق في معناه – ناهيك بعدم وجود أي تفسير متفَق عليه».

(2) لم يكن بلفور وحده
رغم أن آرثر بلفور، بصفته وزيراً للخارجية في حكومة ديفيد لويد جورج، كان مؤلفَ المسوّدة النهائية للإعلان، إلا أن الأفكار الأصلية التي استند إليها صاغها عدد من الشخصيات الصهيونية وغير اليهودية: ليونيل والتر روتشيلد، الذي نقل المسودة الأصلية لبلفور التي تقترح «إعادة تشكيل فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي»؛ وحاييم وايزمان، الصهيوني والكيميائي الروسي الذي يمكن القول إنه الشخصية الأكثر تأثيراً في الحصول على وعد بلفور؛ ديفيد لويد جورج، الذي عمل قبل تولّيه منصب رئيس الوزراء بشكل وثيق مع تيودور هرتزل في مخطط أوغندا – خطة لإعادة توطين اليهود في أوغندا تحت رعاية بريطانية؛ مارك سايكس، الذي كان بمنزلة قناة رئيسية بين حاييم وايزمان وزملائه الصهاينة الناشطين، والحكومة البريطانية؛ هربرت صموئيل، الذي نُقل عنه قوله إن الحكومة البريطانية يجب أن تسمح بالهجرة اليهودية «إذ يمكن مع مرور الوقت أن يتم منح السكان اليهود بعدما يصبحون غالبية ويستقرون في الأرض درجة من الحكم الذاتي». وقال: «ستكسب إنكلترا امتنان اليهود في جميع أنحاء العالم»؛ ناحوم سوكولو هو فاعل رئيسي أقل شهرة في وعد بلفور، رغم أن عمله وراء الكواليس كان تأثيره كبيراً على إصدار التصريح. وبعبارة أخرى، كان الإعلان نتاج عملية طويلة شارك قادة الحركة الصهيونية البريطانية في جزء منها بناء على طلب اللورد بلفور المساعدة منهم لصياغة اللغة. وبالفعل، في 17 تموز 1917، اجتمعت اللجنة السياسية الصهيونية في فندق إمبريال بلندن للقيام بذلك. خلص هذا الاجتماع إلى مسودتان، إحداهما مكتوبة بخط اليد من قبل شخص اسمه ليون سيمون على قرطاسية الفندق والأخرى مسوّدة مطبوعة مع ملاحظاته. ولا تزال المسوّدات المتبقية مفقودة حتى يومنا هذا.
بمعنى آخر، لم يكن تأليف وعد بلفور فرديّاً، بل جماعيّاً. لم تكن في أي حال من الأحوال بادرة سببية. لقد أُصدِر بعد مداولات مطوَّلة باعتباره بياناً سياسيّاً مدروساً. يذكر تمبرلي في «تاريخ مؤتمر السلام في باريس» أنه «قبل أن تقدِّم الحكومة البريطانية الإعلان للعالم، تمت مراجعته من كثب في جميع اتجاهاته وتداعياته، وتعرَّض لتغيير وتعديل متكررين». كذلك كتب ناحوم سوكولو، في كتابه تاريخ الصهيونية، وهو عمل أساسي آخر، أن «كل فكرة ولدت في لندن تم اختبارها من قبل المنظمة الصهيونية في أميركا، وكل اقتراح في أميركا حظي بأكبر قدر من الاهتمام في لندن». وبالفعل، كان وعد بلفور في طور الإعداد منذ ما يقرب من عامين.

عارض اليهود المستنيرون، الذين فضّلوا الاندماج وكانوا راضين عن التقدّم المحرَز في القوانين الجديدة التي تمنح اليهود حقوقاً متساوية في بلدانهم، الإعلانَ بشدة باعتباره معادياً للسامية

(3) الإحباط الصهيوني
رغم أن الإعلان اعتُبر علامة فارقة بالنسبة إلى الصهيونية، إلا أنه لم يرْقَ إلى مستوى آمال الصهيونيين. على سبيل المثال، مارست الحكومة البريطانية الحذر حيث اقترح المشروع الصهيوني الأصلي الذي أرسله اللورد روتشيلد إلى بلفور أنّ «تقبّل حكومة جلالته مبدأ «إعادة تشكيل» فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي»، وذكر البيان الرسمي أن الحكومة تنظر إلى «إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي». هناك فرق كبير – سيكون وطناً، وليس الوطن – وسيتم إنشاؤه وليس إعادة تأسيسه، والمصطلح الأخير يعني ضمناً حقّاً قانونيّاً.
علاوة على ذلك، اقترحت المسوّدة الصهيونية الأصلية أن تبذل «حكومة صاحب الجلالة غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وستناقش الأساليب والوسائل اللازمة مع المنظمة الصهيونية». أمّا الرواية الرسمية، فقد ذكرت أن الحكومة «ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية». وقد أُسقِط الاعتراف الرسمي بالمنظمة الصهيونية كسلطة، وهو الاعتراف الضمني في المسوّدة الصهيونية. ولقد كان وايزمان حساساً لهذه التغييرات المهمة:
مقارنة بين النصين – النص الذي وافقت عليه وزارة الخارجية ورئيس الوزراء، والذي تم اعتماده في 4 تشرين الأول، بعد هجوم مونتاغو، يُظهر ركوداً مؤلماً عمّا كانت الحكومة نفسها مستعدة لتقديمه. الأوّل ينصّ على أنه «يجب إعادة تشكيل فلسطين كوطن قومي للشعب اليهودي». والثاني يتحدّث عن «إنشاء وطن قومي للعرق اليهودي في فلسطين». ويضيف الأول فقط أن «الحكومة ستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية وستناقش الأساليب والوسائل اللازمة مع المنظمة الصهيونية». أمّا الثاني، فقد قدّم موضوع «الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة» بطريقة تنسب نيات قمعية محتمَلة لليهود، ويمكن تفسيرها بأنها تعني فرض القيود على عملنا لشله تماماً.
وبعبارة أخرى، صيغ الإعلان ليناسب مصالح السياسة البريطانية بالدرجة الأولى. ومع ذلك، فإن الحقيقة الأكثر أهمية والتي لا تقبل الجدل هي أن الإعلان في حد ذاته كان ضعيفاً من الناحية القانونية. ذلك أن بريطانيا العظمى لم تكن لها حقوق سيادية على فلسطين، ولم تكن لديها مصلحة ملكية، ولم تكن لديها سلطة التصرف في الأرض. لقد كان الإعلان مجرد بيان للنيات البريطانية وليس أكثر.
ومن المؤكد أن الصهاينة كانوا مطلعين على النيات البريطانية، لكنهم اعتبروا أن من الحنكة السياسية عدم الضغط أكثر من ذلك: «إنه أحد التساؤلات التاريخية عما إذا كان ينبغي لنا أن نكون متعنتين وأن نتمسك بمطالبنا إلى الرمق الأخير. هل كان ينبغي لنا إذاً الحصول على بيان أفضل أم إن الحكومة كانت ستسأم من الانقسامات اليهودية الداخلية وتُسقط الأمر برمته؟ كان حكمنا هو القبول».

(4) لم يؤيد كل اليهود الإعلان
خلافاً للاعتقاد السائد، فإن وعد بلفور لم يحظَ بإجماع يهودي على تأييده. عارض اليهود المستنيرون، الذين فضّلوا الاندماج وكانوا راضين عن التقدّم المحرَز في القوانين الجديدة التي تمنح اليهود حقوقاً متساوية في بلدانهم، الإعلانَ بشدة باعتباره معادياً للسامية. في الواقع، عُدِّل الإعلان النهائي بناءً على طلب إدوين صموئيل مونتاغو، وهو يهودي مؤثِّر مناهض للصهيونية ووزير خارجية الهند، الذي كان يشعر بالقلق من أن الإعلان بصيغته الحالية قد يؤدي إلى زيادة معاداة السامية. تجدر الإشارة إلى مذكرة مونتاغو للحكومة البريطانية وقوله:
لقد بدت لي الصهيونية دائماً عقيدة سياسية ضارة، لا يمكن لأي مواطن مخلص في المملكة المتحدة الدفاع عنها. إذا وضع رجل إنكليزي يهودي عينيه على جبل الزيتون واشتاق إلى اليوم الذي ينفض فيه التربة البريطانية عن حذائه ويعود إلى الأنشطة الزراعية في فلسطين، فهو يبدو لي دائماً أنه اعترف بأهداف تتعارض مع الجنسية البريطانية وأنه يعترف بأنه غير لائق للمشاركة في الحياة العامة في بريطانيا العظمى أو أن يعامَل كرجل إنكليزي. لقد فهمت دائماً أن أولئك الذين انغمسوا في هذه العقيدة كانوا مدفوعين إلى حد كبير بالقيود المفروضة على اليهود في روسيا ورفضِ منحهم الحرية. ولكن في الوقت نفسه الذي تم فيه الاعتراف بهؤلاء اليهود باعتبارهم يهوداً روساً ومنحُهم جميع الحريات، يبدو من غير المعقول أن تعترف الحكومة البريطانية رسميّاً بالصهيونية، وأن يؤذن للسيد بلفور بالقول إن فلسطين يجب أن يتم تشكيلها من جديد باعتبارها «الوطن القومي للشعب اليهودي». لا أعرف ما يتضمنه هذا، ولكني أفترض أنه يعني أن المسلمين والمسيحيين يجب أن يفسحوا الطريق لليهود وأن اليهود يجب أن يوضَعوا في جميع مراكز التفضيل ويجب أن يرتبطوا ارتباطاً خاصّاً بفلسطين بالطريقة نفسها التي ترتبط بها إنكلترا بالإنكليز، كما هو الحال، أو فرنسا بالفرنسيين، وأن الأتراك وغيرهم من المسلمين في فلسطين سيُعتبرون أجانب تماماً كما سيعامَل اليهود فيما بعد كأجانب في كل بلد ما عدا فلسطين. وربما يجب أيضاً منح الجنسية فقط نتيجة لاختبار ديني».
بالنسبة إلى مونتاغو وآخرين، هدد إعلان بلفور مكانة الجاليات اليهودية في أوروبا والولايات المتحدة مع إمكانية إثارة قضية الولاء المزدوِج، الذي كان موضوع نقاش حاد في تلك المدة. وفي النهاية، بعد أن وصلت مسوّدة التغييرات إلى الصياغة النهائية نجد في نهاية النص أنها وفّرت الحماية لـ«الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر»، في إشارة إلى المخاوف التي أثارها مونتاغو وآخرون.

واضعو الاعلان الرئيسيون نشأوا في جو سيطرت عليه الأفكار التدبيرية والتجديدية، وهما القطبان اللذان استقرت عليهما الصهيونية المسيحية

(5) معاداة السامية
يُعتبر وعد بلفور عموماً معادياً للسامية لأنه خدم كنقطة استقطاب لأصحاب معاداة السامية في كل بلد في العالم. ورغم أنه قد يبدو ظاهريّاً وكأنه كان خيراً لليهود، إلا أنه كان في الواقع غارقاً في التفوق العرقي ومعاداة السامية. في الواقع، نشأ دعم بلفور للصهيونية من الرغبة في وقف الهجرة اليهودية إلى بريطانيا. فقد كتب بلفور، على سبيل المثال، في مقدمته لكتاب ناحوم سوكولو تاريخ الصهيونية عام 1919 أن الحركة الصهيونية سوف «تخفف من المآسي التي استمرت على مر العصور والتي خلقتها الحضارة الغربية عبر وجود جسد في وسطها اعتبرته لمدة طويلة غريباً وحتى عدائيّاً ولكنها لم تكن قادرة على طرده أو استيعابه». وحتى يومنا هذا، يعلن المتعصبون للعرق الأبيض عن رغبتهم في مغادرة اليهود «المجتمعات البيضاء» إلى إسرائيل مستشهدين بوعد بلفور لدعم موقفهم.

(6)
لا يجوز النظر إلى وعد بلفور على أنه وليد اللحظة أو انعكاس لسياسات آنية فرضتها الحرب. يبقى ناقصاً النظر إليه بمعزل عن الأحداث والمراحل التاريخية التي مهّدت له. فالوعد كان اللحظة الأبرز في مسيرة طويلة ربما تعود إلى القرن السادس عشر مع بروز عند بعض المصلحين الإنكليز فكرة أنه قبل عودة المسيح سيتم إعادة اليهود إلى وطنهم. أصبح هذا معروفاً باسم حركة الاستعادة (restoration movement) التي ظهرت أثناء اضطهاد البروتستانت في عهد ماري الأولى. وقد أدت ثلاثة عوامل إلى ظهور هذه الحركة:
(١) صدور نسخة جديدة عن التوراة في أوروبا (تعرف بنسخة جنيف) أدت إلى تعريف الشعب الإنكليزي بالعهد القديم لأول مرة، وبالتالي عن وعود الله لليهود.
(٢) طرد البروتستانت من إنكلترا في عهد ماري وعودتهم في عهد إليزابيث الأولى ما أدى إلى انتشار نسخة جنيف في إنكلترا على نطاق واسع وبالتالي إلى تعميق افتتان الإنكليز بالعهد القديم.
(٣) الالتقاء المباشر الذي حصل بين البروتستانت الإنكليز والجماعات اليهودية في بلدان عدة من القارة الأوروبية خلال مدة اضطهاد البروتستانت في عهد ماري، الأمر الذي أدى إلى ظهور تصور جديد عن اليهود باعتبارهم رموزاً أساسية في النص التوراتي، وإلى المطالبة بإعادتهم إلى إنكلترا بعد أن تم طردهم من البلاد في القرن الثاني عشر.
هذه العوامل الثلاثة مجتمعة أسهمت في تكريس الحركة الاستعدادية باعتبارها مذهباً دينياً بحد ذاته وعززت مناخاً ملائماً لفكرة إعادة اليهود إلى أرض الميعاد. استمر هذا الاعتقاد يتفاعل بشكل تراكمي لعقود وفي القرن التاسع عشر، مع بروز المذهب التدبيري والصهيونية المسيحية وغيرها من البدع البروتستانتية، بدأ يأخذ أشكالاً سياسية تمشياً مع المصالح السياسية البريطانية في شرق البحر الأبيض المتوسط. فكانت الكتب والمجلات، مثل Morning Watch، التي كانت تدعو إلى إعادة اليهود إلى أرض أجدادهم، ناهيك بالجمعيات المكرسة للهدف نفسه كـ«جمعية يهود لندن» (The London Jews’ Society) التي نجحت في تأسيس أول موطئ قدم بريطاني في فلسطين، في الازدهار.
لقد كان وعد بلفور ذروة هذا المسار الطويل. ربما لم يتم إصداره لولا وجود تلك المشاعر المؤيدة لليهود بين البروتستانت الإنجليز والافتتان بفكرة إعادة اليهود الى أرضهم المعهودة.

(7)
في حين أن عدداً من المؤرخين يرجعون وعد بلفور إلى مساهمة حاييم وايزمان في المجهود الحربي البريطاني أو إلى محاولة خلق تعاطف مع الجهود البريطانية في أوساط اليهود الأميركيين، فإن السبب العميق للاعتراف البريطاني متجذر في الدين، وخاصة المسيحية البروتستانتية. يكتب شالوم غولدمن في كتابه (Zeal for Zion (2009: «حتى أواخر القرن التاسع عشر، كانت معظم خطط إقامة كيان يهودي في فلسطين مسيحية. استندت هذه الخطط إلى تصور مفاده أن فلسطين الجغرافية كانت الوطن القديم «الخاص» باليهود. وقد أثر هذا التصور، المتأصل في النظرة التوراتية (العهد القديم)، على قطاعات واسعة من العالم المسيحي».
هذه النزعة البروتستانتية لعبت دوراً حاسماً في تمهيد الطريق لوعد بلفور. إن نظرة سريعة على واضعي الإعلان الرئيسيين تظهر أنهم نشأوا في جو سيطرت عليه الأفكار التدبيرية والتجديدية، وهما القطبان اللذان استقرت عليهما الصهيونية المسيحية. نبدأ مع الرواد الأوائل لفكرة عودة اليهود إلى فلسطين:
– اللورد شافتسبري: كان سياسياً بريطانياً بارزاً في وقت مبكر وكان مسيحياً صهيونياً متأثراً بشدة بفكرة إعادة اليهود إلى أرضهم حتى إنه كتب في مذكراته: «من سيكون كورش العصر الحديث… ليرد شعب الله؟»
– لورانس أوليفانت (1829 – 1888): ولد أوليفانت في مستعمرة كيب. في عام 1853، درس في روسيا وأصبح على دراية بالحالة المزرية ليهود أوروبا الشرقية. وفكر في كيف أن إقامة وطن لليهود في فلسطين من شأنه أن يخفف من معاناة اليهود. في عام 1865، تم انتخاب أوليفانت عضواً في البرلمان وبدأ في البحث عن طرق لإنشاء مستوطنة يهودية في فلسطين لتكون ملجأ ليهود أوروبا الشرقية. سافر إلى القسطنطينية عام 1878 وقدم التماساً إلى السلطان نيابة عن إنكلترا للسماح للاجئين اليهود بالاستقرار في فلسطين.
– بنيامين دزرائيلي (1804-1881): تميز دزرائيلي كونه كان أول زعيم سياسي يهودي لأمة أوروبية. كان يصف نفسه بأنه عبري مسيحي وبناء عليه أعرب بشكل خاص عن دعمه لخطة توطين اللاجئين اليهود في فلسطين.
أمّا الذين ترجموا عملياً فكرة عودة اليهود إلى فلسطين عبر وعد بلفور، فنذكر منهم:
– ديفيد لويد جورج (1863-1945): الذي نشأ معمدانياً ويلزياً إنجيلياً، غارقاً في عقيدة ما قبل الألفية. هو صاحب القول الشهير: «لقد نشأت في مدرسة تعلمت فيها تاريخ اليهود أكثر بكثير مما تعلمته عن بلادي».
– آرثر بلفور (1848-1930): نشأ آرثر بلفور في بيت إنجيلي يحظى بنظرة عالية للشعب اليهودي. «كانت أفكاره حول اليهود متجذرة في نسخة العهد القديم من المسيحية». يرى النقاد أن قرار بلفور بدعم الصهيونية المسيحية ووعد بلفور كان سياسياً بالكامل.
– مارك سايكس (1879-1919): نشأ مارك سايكس على الروم الكاثوليك في يوركشاير. قبل الحرب، كان سايكس يكره اليهود، ولكن خلال الحرب العالمية الأولى أصبح مؤيداً لهم ومتحمساً لفكرة الوطن اليهودي لدرجة أنه سافر في عام 1917 إلى روما وقدّم التماساً إلى البابا ليطلب دعمه العلني لإقامة وطن لليهود.

خلاصة
هناك عدد من الأوصاف لوعد بلفور، ولكن ربما يكون الوصف الأقدم (1925) والأكثر إيجازاً هو وصف أنطون سعادة: «إنه أسوأ العهود الدنيئة في تاريخ الدول لأنه، فضلاً عن أنه عهد غير مبني على شيء من العدل الإنساني والحق الطبيعي، جاء طعنة من الوراء في ظهر الشعب السوري الذي قدّر أمانة سياسيي الحلفاء وسلامة نيتهم تقديراً سليماً انتهى بهذا الغدر الذي قلّما سُمع بمثله، وهو غدر صادر عن أسمى مقام سياسي في أوروبا بوقاحة وصلابة جبين يخجل عن إتيان مثلهما البرابرة فضلاً عن المتمدنين الذين يفهمون الحقوق الإنسانية».
بالفعل، خلق وعد بلفور «حقائق قانونية» صهيونية على الورق، ثم تم تغييرها لخلق حقائق استعمارية على الأرض عبر تشجيع الهجرة اليهودية الصهيونية ودعمها، وبناء المستوطنات، وطرد الفلسطينيين من البلاد.

 

قد يعجبك ايضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

14 − 1 =