من سجن عكا: أغنية شهداء فلسطين / مروة صلاح متولي

مروة صلاح متولي ( مصر ) – الأربعاء 06/12/2023 م …




تروي أغنية «من سجن عكا» حكاية فلسطينية خالصة، وقصة من قصص الشجاعة والمقاومة، والنضال الطويل في سبيل الدفاع عن الوطن. يعود ما تتناوله الأغنية من أحداث، إلى تاريخ 17 يونيو/ حزيران من عام 1930، عندما قامت سلطات الاحتلال البريطاني بتنفيذ حكم الإعدام شنقاً، في ثلاثة من الأبطال الذين قادوا ثورة البراق سنة 1929، وهبوا من أجل الدفاع عن مقدسات أرضهم الفلسطينية، ومقدساتنا الإسلامية ومقدسات الأمة بأكملها، ووقفوا صامدين في وجه العدوان، عندما قامت العصابات الصهيونية، التي تسللت إلى فلسطين تحت حماية الإنكليز، بانتهاك قدسية حائط البراق وتدنيسه، ومحاولة الاستيلاء عليه وإهانة عقيدتنا الإسلامية.
ثارت ثائرة الفلسطينيين، وخاضوا صداماً عنيفاً مع اللصوص وحراسهم، ثم كان إلقاء القبض على عدد كبير من الثوار، وقضى قاضي الإنكليز حماة الصهاينة، بتعليق المشانق وتنفيذ الإعدام بـ 26 فلسطينياً، بعد ذلك خُفف الحكم إلى السجن المؤبد، استجابة لبعض الضغوط العربية والخارجية، حسبما يقال، لكن إصراراً وعزماً على إعدام ثلاثة بعينهم لم يمكن زعزعته، والثلاثة من قادة تلك الثورة الخالدة وأبرز أبطالها الشجعان، وبالفعل تم تنفيذ الحكم الجائر، وارتكبت جريمة القتل علناً في سجن مدينة عكا، الكائن في قلعتها الأثرية التاريخية العريقة.

اليوم الدامي

حدثت الواقعة يوم الثلاثاء الموافق 17 يونيو سنة 1930، وارتقى الشهداء الثلاثة إلى جنات الخلد عند ربهم. لكن ما أراده الإنكليز وعصابات الصهاينة لم يتحقق، فلم ينته وجود الأبطال الثلاثة، ولم تخمد شعلة ثورتهم، ولم يخفت تأثيرهم القوي في الشعب، بل امتدت قدرتهم على بث روح المقاومة، من المجموعة التي كانت تعاصرهم وتحيط بهم، إلى مجموعات لا نهائية من الأجيال المتعاقبة على مرّ الزمن، وخلدوا في الأرض كما خلدوا في السماء. لم تنس فلسطين محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، وظلت قصة بطولتهم حية راسخة في الأذهان، وظل ذكرهم يتردد على الألسنة، وصاروا مضرباً لمثل الكرامة والعزة والإباء. وكما خلدتهم الحياة الفلسطينية والذاكرة الجمعية للفلسطينيين، خلدهم كذلك الفن الفلسطيني، في قصائد وأغنيات وأعمال تمثيلية. كتب شاعر فلسطين إبراهيم طوقان قصيدة «الثلاثاء الحمراء» بعد أيام معدودة من إعدامهم في الشهر ذاته، وهي قصيدة رائعة حية الشعور، نابضة بحب الوطن وأبنائه، وكيف لا تكون، وصاحبها مؤلف قصيدة أو نشيد «موطني» الذي قد يكون أجمل وأصدق نشيد وطني على الإطلاق. في القصيدة الطويلة يصف الشاعر إبراهيم طوقان وقائع وتفاصيل الحادثة المؤلمة ويؤرخها شعراً، ويرثي الشاعر الشاب إخوانه من شباب فلسطين الأبطال، ويكتب دقائق الساعات الثلاث الأخيرة، التي تم إعدامهم خلالها، كل في ساعة، وخصص مقطعاً لكل بطل من الأبطال يروي فيها ساعته، وأقسم بأرواحهم، روح محمد، وروح فؤاد، وروح عطا، على تحرير الوطن. ومما يقول طوقان في الجزء الأخير من القصيدة:
أجسادهم في تربة الأوطان.. أرواحهم في جنة الرضوان
وهناك لا شكوى من الطغيان.. وهناك فيض العفو والغفران

الدلعونا الحزينة

أما أغنية «من سجن عكا» فقد ظهرت بعد مرور أكثر من خمسين عاماً على استشهاد الأبطال الثلاثة، كُتبت الأغنية باللهجة العامية الفلسطينية، وتتباين المعلومات حول هوية مؤلفها، إذ تُنسب إلى أكثر من شاعر غنائي. لكنها على الأرجح من تأليف عوض النابلسي، وأعدها وقام بتوزيعها موسيقياً حسين نازك، وغناها المطرب حسين منذر بصحبة كورال فرقة العاشقين، وصدرت ضمن ألبوم للفرقة يحمل عنوان عز الدين القسام. غنى آخرون نسخاً أخرى من الأغنية، يلاحظ فيها حذف، أو إضافة بعض المقاطع. تم وضع الأغنية في قالب الدلعونا اللحني، لتسير على نمطه وموازينه التي لا يُمل سماعها، لكنها دلعونا بطيئة لها وقع جنائزي مأتمي، تختلف كثيراً عن الدلعونا المعتاد سماعها، ذلك اللحن الإيقاعي الفرح الجاذب، بما يصاحبه من الغناء القوي المبهج، ورقصات الدبكة النشيطة المليئة بالحيوية، ولا يتم ذكر كلمة الدلعونا في الأغنية بطبيعة الحال، والدلعونا كما هو معروف، لحن تراثي فولكلوري يوجد في فلسطين وسائر بلاد الشام، وهو من تأليف الشعوب على ما يبدو فلا يُنسب إلى شخص بعينه. تسير الأغنية على نمط الدلعونا سيراً بطيئاً، لكنها تتوقف من حين لآخر، لينكسر اتصال اللحن بتدخلات الناي الفردية، في ما يشبه الارتجال الحزين، يرافقه صوت الأجراس. الأغنية مؤثرة للغاية على مستوى الكلمات واللحن والغناء، صيغت بكلمات عامية بليغة، وعبارات وتراكيب موحية دالة، ورُسمت صورها بتعبيرات نابعة من الوجدان والمخيلة الفلسطينية، وعبّر الغناء المحزون الذي يستشعر فيه السامع أحياناً شيئاً من البكاء المكتوم، عن كل كلمة من كلمات الأغنية، وكل شعور يرتبط بالموقف المروي، وكل المعاني الكامنة في الأغنية.

تبدأ الأغنية بموال تقول كلماته: «كانوا ثلاث رجال.. تسابقوا ع الموت.. أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد.. وصاروا مثل يا خال.. بطول وعرض البلاد.. نهوى ظلام السجن يا أرض كرمالك.. يا أرض يومِ تندهي بتبين رجالك.. يوم الثلاثا وثلاثة يا أرض ناطرين.. مين اللي يسبق يقدم روحه من شانك». يُغنى هذا الموال في بداية الأغنية كتمهيد، يدخل بالسامع إلى الأجواء، ويجعله متطلعاً إلى سماع المزيد، ومعرفة بقية الحكاية المغناة. تعتمد الأغنية على بعض التفاصيل التاريخية التي حدثت بالفعل، كتسابق الأبطال الثلاثة إلى الموت، حيث أراد كل منهم أن يكون هو أول الشهداء، وقد ذكر هذا الأمر أيضاً، الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدة «الثلاثاء الحمراء» بين مقاطع الموال، يغني المطرب «يا عين» ويرددها ست مرات متتالية، تكون المرة الأخيرة أطول تمديداً. بعد الموال يبدأ الغناء على نمط الدلعونا قائلاً: «من سجن عكا وطلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي.. جازي عليهم يا شعبي جازي.. المندوب السامي وربعو عموما.. محمد جمجوم ومع عطا الزيري.. فؤاد حجازي عز الدخيري.. انظر المقدر والتقاديري.. بحكام الظالم تيعدمونا». تبدأ الأغنية من مشهد الجنازة، بعد أن تم الإعدام، وتذكر أسماء الشهداء، وهذا الذكر المتكرر لأسمائهم يقربهم كثيراً إلى السامع، خصوصاً وإن كان يستمع للأغنية للمرة الأولى، ويشعر بأنه يستمع إلى حكاية لا تزال حية، رغم مرور كل هذه السنوات والعقود.

ثم يصور المقطع التالي ما كان يحدث بين هؤلاء الأبطال، وهم في اللحظات الأخيرة قبل ارتقائهم، وتلهفهم على الشهادة، وعدم خوفهم مما قدر الله لهم، كان كل منهم يريد أن يسبق إلى الجنة من ناحية، ومن ناحية أخرى كان يشفق من الحزن على صاحبيه. يقول المقطع: «ويقول محمد أنا أولكوا.. خوفي يا عطا أشرب حسرتكوا.. ويقول حجازي أنا أولكوا.. ما نهاب الردى ولا المنونا». وكان فؤاد حجازي أول من نال الشهادة، حسبما ورد في قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان. من هذا المقطع المؤثر تنتقل الأغنية إلى مقطع آخر، قد يكون أشد تأثيراً، إذ يتناول أهل هؤلاء الأبطال، وما يواجهونه من ألم وحزن على فراق أغلى أحبابهم، فهناك أم تنادي على ابنها تأمل في وداعه، وهناك البطل الذي يوصي شقيقه أن يعتني بأمه من بعده، والبطل الذي يوصي أخته بألا «تنّهم بعده» وكيف لا تنّهم الأخت بعد موت شقيقها؟ يقول المقطع: «أمي الحنونة بالصوت تنادي.. ضاقت عليها كل البلادي.. نادوا فؤاد مهجة فؤادي.. قبل نتفرق تيودعونا.. تنده ع عطا من ورا البابي.. وقفت تستنظر منو الجوابي.. عطا يا عطا زين الشبابي.. يهجم ع العسكر ولا يهابونا.. خيي يا يوسف وصاتك أمي.. اوعي يا أختي بعدي تنهمي.. لجل هالوطن ضحيت بدمي.. وكلو لعيونك يا فلسطينا».

بعد ذلك تنتقل الأغنية إلى مقطعها الأخير، الذي يؤكد موت الأبطال كالأسود، وتلقى عموم الشعب لخبر تنفيذ حكم الإعدام، وتجمعهم في ذلك اليوم الرهيب. يقول المقطع: «ثلاثة ماتوا موت الأسودي.. وجودي يا أمي بالعطا جودي.. علشان هالوطن بالروح نجودي.. ولجل حريتو بيعلقونا.. نادى المنادي يا ناس إضرابي.. يوم الثلاثا شنق الشبابي.. أهل الشجاعة عطا وفؤادي.. ما يهابوا الردى ولا المنونا». في هذه الأغنية تظهر قدرة الفن الفلسطيني، على صون تاريخه وحفظ ذاكرته، بأعمال منبعثة من الأرض والشعب والوجدان الجمعي، تُعظّم الشهيد على جلال قدره، في كل زمن من الأزمنة الفلسطينية، وفي كل فصل من فصول المقاومة الطويلة المستمرة، وكما أن المقاومة والشهادة والدفاع عن الأرض، جزء أساسي من حياة الفلسطيني أو هي كل حياته، فإنها أيضاً فن الفلسطيني وفيه يبرع. على الرغم من الحزن العميق في الأغنية، إلا أنها لا تزرع اليأس في الروح، بل على العكس تمد سامعها، بروح الإيمان والأمل، وتبث في أوصاله نفحات القوة والإيمان والعزيمة، وهو يصغي إلى حكاية من حكايات هي كثيرة في فلسطين، ويتأمل في القلوب المطمئنة بالحق، والنفوس الصابرة صبراً طويلاً، الواثقة في النصر مهما طال الأمد، تعكس الأغنية وجهاً من وجوه إباء الفلسطيني وجلده وطول احتماله، في فصل من أقدم فصول المقاومة، يعود إلى زمن ما قبل النكبة. فبعد عدة سنوات، سيكون قد مر على تاريخ الواقعة التي تتناولها الأغنية، مئة عام بالتمام والكمال. ولا يزال الفلسطيني كما هو يدافع عن أرضه، يهب الحياة ويبذل النفس والروح، في سبيل تحريرها واستعادة كل شبر من أراضيها، لا يرهبه عدوان، ولا يفزع من موت، ولا يجزع مما قضى الله، ولا ينهزم أمام صهيوني. وبعد سنوات طويلة من استشهاد محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، لا يزال شهداء فلسطين يزدحمون على باب الحياة السعيدة المتصلة عند الله.

قد يعجبك ايضا