شعبٌ ضحية أم شعبٌ منتصر؟! / د. بسام أبو عبد الله

بسام ابو عبد الله ( سورية ) – الخميس 30/11/2023 م …




أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تذكير العالم بالمآسي التي عاشتها شعوب الاتحاد السوفييتي، وبشكل أساسي الشعب الروسي خلال الحرب العالمية الثانية، عندما اعتبر بتاريخ 13/10/2023 الحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة مشابهاً لحصار ألمانيا النازية لمدينة لينينغراد الروسية، لسانت بطرسبورغ حالياً، مؤكداً أن هذا «أمر غير مقبول»، مكرراً ما سبق أن أشار إليه من أن المأساة الحالية هي نتيجة لفشل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

تصريح الرئيس بوتين هذا أثار استياءً كبيراً في الأوساط الإسرائيلية والأميركية، وهذا أمر طبيعي لأن فيه تشبيهاً واضحاً بأن ما تلجأ إليه إسرائيل في غزة يتطابق تماماً مع إستراتيجية الزعيم النازي هتلر ضد الروس في تلك المدينة الروسية، حيث لجأ إلى استخدام القصف الجوي والمدفعي المفرط، وللإبادة الجماعية، والحصار والتجويع، والتهجير القسري للسكان، وقتل الأطفال والنساء بلا هوادة، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن حصار لينينغراد استمر لحوالي 900 يوم، قتل فيه 1.2 مليون إنسان، وحدد هتلر مهمة جيشه المحتل بتدمير المدينة من خلال القصف الجوي، وترحيل بقية السكان نحو الأقاليم الروسية الأخرى، واحتجاز الباقي كأسرى، ومحو المدينة عن وجه الأرض، وتتحدث المصادر التاريخية الروسية عن أنه تمّ قطع كل الموارد عن المدينة، واستخدم النازيون سلاح التجويع ضد السكان، وحوصرت المدينة من البر والبحر، وقُطعت المياه والكهرباء والرعاية الطبية، وتؤكد هذه المصادر أن من قتل بسبب الجوع والمرض يصل إلى مليون إنسان، ومع ذلك كله صمد أهل المدينة، وتابعوا العمل والإنتاج في ظل الحرب لدعم المدافعين عنها حتى تمكنت القوات الروسية بقيادة الجنرال غيورغي جوكوف من فك الحصار عنها، لتتحول هذه المدينة إلى رمز الصمود والصبر والانتصار.

أما النموذج التاريخي الآخر الذي استحضره كثيرون على خلفية العدوان الوحشي الإسرائيلي على قطاع غزة، فهو نموذج معركة ستالينغراد، فولغاغراد حالياً، والتي تعتبر أحــد أشهر المعارك التي قلبت نتائــج الغزو النــازي الألمانــي لروسيا من نصــر في بدايـــة الحرب إلى هزيمة مدوية لاحقاً، إذ بدأ الهجوم النازي بقصف عنيف جداً بالطيران والمدفعية حوّل المدينة إلى أنقاض وأطلال، لكن تدمير المدينة كان له أثر سلبي على الجيش المحتل الذي كان يعتمد على الحرب الخاطفة، مرتكزاً على التفوق الجوي وسلاح الدبابات والهجمات السريعة، ليجد نفسه غارقاً في حرب مدن من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، ويعزو بعض المؤرخين السبب إلى أن الجيش النازي أصيب بتورم الذات، والغطرسة بعد احتلاله لأوروبا الغربية بما في ذلك فرنسا بسرعة خاطفة دون مقاومة شرسة، كما تقدم بسرعة في بداية غزوه للأراضي الروسية متناســياً الــروح المعنويــة للمدافعـــين عن أرضهم ووطنهم، والاستبســال الــذي يتفوقـــون فيــه علــى القــوات النازية.

تمكن الألمان النازيون من السيطرة على كامل مدينة ستالينغراد، لكنهم فشلوا في كسر آخر الخطوط الدفاعية للمقاومين على الضفة الغربية لنهر الفولغا، والتي بدأ منها الجيش الأحمر هجومه المضاد ضد مواقع الغزاة لينجح بعــد معــارك عنيفة جداً بمحاصرة الجيشين السادس والرابع النازيين، وليستثمر في القدرة على تحمل الشتاء القارص لشن حرب العصابات لإنهاك القوات النازيين، وزاد الطين بلّة عنجهية هتلر وغطرسته الذي رفض مقترحاً بالانسحاب، مشدداً على البقاء بأي ثمن مع وعد بفك الحصار، وهو ما فشل به بعد تمكن المقاومين الروس من السيطرة على المطارات لقطع الجسر الجوي للإمدادات، ما أدى في النهاية للانهيار التام للجيش النازي، واضطر قائده فريدريك باولوس للاستسلام في 2 شباط 1943، ومعه غالبية عناصر الجيش السادس.

وبالرغم من التفوق العسكري الألماني بشكل كبير، لكن استخدام الروس للقوات الخاصة المدربة على حرب الشوارع، والاستفادة من شبكة أنفاق الصرف الصحي، وأنفاق أخرى بنيت عبر عشرات السنين أدت لهزيمة النازيين إذ سحب المقاومون الروس الغزاة الألمان إلى حرب الأنفاق بعد تدمير المدينة من الجو، وكان النازيون كلما تقدموا خرج لهم المقاومون الروس من تحت الأرض، حتى هزيمتهم النهائية، ويقال حسب المصادر التاريخية إن الرئيس السوفييتي حينها جوزيف ستالين رفض خروج المدنيين، وعددهم 400 ألف مدني، وكان يقول: «إن وجودهم سيشجع المقاتلين على الصمود».

استحضار الذاكرة التاريخية لتجارب الشعوب، تبدو مهمة للغاية مع الفارق بين تجربة وأخرى، وإبداع شعب وآخر في مقاومة المحتلين والغزاة، ذلك أن المقارنة بين حصار ليننغراد، وستالينيغراد، مع غزة، يبدو لي بالمجمل صحيحاً، لكن حالة غزة قد تبدو فريدة من نوعها، فهي محاصرة حصاراً مطبقاً من البحر والبر، وليس لديها امتداد جغرافي أو ديمغرافي يساعدها، ويساندها، وليس فيها تضاريس يمكن الاستفادة منها، ومساحتها 365 كم فقط، وفيها أكبر كثافة سكانية في العالم، ومحاصرة منذ 17 عاماً بالتمام والكمال، ولذلك يبدو لي أن إبداع المقاومة هنا يثير الإعجاب، ويدل على صمود أسطوري، وتجذر بالأرض، وإيمان عميق، أثار وألهب مشاعر ملايين عبر العالم، بعد أن عملت الليبرالية الجديدة، والرأسمالية المتوحشة على تحويل هذا العالم والبشر إلى مجرد آلات تعمل دون مشاعر وأحاسيس، ومادة دون روح ورُقي، ومشتركات إنسانية.

غزة كجزء من قضية فلسطين، وشعبها المقاوم أعادت كل العالم لاستحضار المآسي البشرية، وتذكر الدروس المستخلصة التي يجب أن نقرأها جيداً، وأهمها:

إن من يعتقد أن حرية الشعوب، ومقاومة المحتلين والغزاة ستكون بلا ثمن باهظ، هو واهم ومشتبه وجاهل، وللعلم فإن معركة ستالينغراد التي حوّلت مجرى الحرب العالمية الثانية نحو النصر لمصلحة الروس كلفت حياة 2 مليون إنسان، ما يضعها الخبراء ضمن أكثر المعارك دموية في تاريخ الحروب، وأطلق الخبراء آنذاك على هذه المدينة «القلعة المحاطة بطوق من الفولاذ»، وحسب الكاتب روبيرت ماكمان في كتابه «الحرب الباردة: مقدمة قصيرة جداً»، فإن الطرف المنتصر في الحرب العالمية الثانية تكبد مقتل أكثر من 35 مليون إنسان، وهو رقم مهول جداً، ولقي 10- 20 بالمئة من إجمالي سكان الاتحاد السوفييتي وبولندا ويوغسلافيا حتفهم، ووصف رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل أوروبا ما بعد الحرب بأنها: «كومة من الأنقاض، ومقبرة، وأرض خصبة للأوبئة والكراهية»!

كانت خسائر الروس والسوفييت، حسب ما هو شائع 25 مليون إنسان، وإن كان بعض الباحثين والمؤرخين الروس يجادلون أن الرقم قد يصل إلى 37 مليون إنسان، وشرد 25 مليون آخرين، ودمرت ستة ملايين مبنى، وسويت أغلب مصانع الدولة ومزارعها المنتجة بالأرض.

لكن الروس يقولون إن الثمن الباهظ لم يحول الشعب السوفييتي إلى شعب ضحية، إنما إلى شعب منتصر بالرغم من هذه الخسائر الهائلة، ذلك أن هذا الثمن الباهظ في الحرب ضد النازية ليس ثمناً للنصر فقط كما يحلو للبعض تسميته أحياناً، إنما هو ثمن إنقاذ جميع من بقوا على قيد الحياة، وثمن إنقاذ العالم من النازية، وثمن منع الحروب في العالم ليسود السلام.

مناسبة هذه الأرقام والإشارات للقول إن الشعب الفلسطيني الذي يقاوم منذ أكثر من 75 عاماً، ويقدم التضحيات الهائلة، هو أمام خيارين إما أن يتحول إلى هنود حمر سوف يتذكره العالم في كتب التاريخ، وسوف يقوم قادة العالم الغربي المنافق بالاعتذار منه بعد عقود من الزمن، أو أن يبقى شعباً حياً مقاوماً يناضل من أجل قضيته العادلة، ويفرض نفسه على معادلات العالم بالقوة التي يبدو واضحاً أنها الطريق الوحيد للحصول على حقوقك، ولكن القوة العادلة وليس الغاشمة.

هذه المعادلة تنطبق أيضاً علينا في سورية، إذ لولا صمود الشعب السوري وجيشه ورئيسه، ودماء آلاف آلاف الشهداء من عسكريين ومدنيين، والصبر والإيمان، لكنا الآن ستة كانتونات وقد يكون أكثر، ولما كانت سورية على الخريطة، لأن القرار لدى قوى الهيمنة العالمية كان بإزالتها عن الخريطة، كما اتخذ هتلر قرارات بإزالة مدن روسية عن وجه الأرض، وبالتالي فإن التضحيات والخسائر الهائلة لم تكن من أجل ديمقراطية وحريات، فالغرب الجماعي سقط في هذا الامتحان سقوطاً مدوياً عندما تعلق الأمر بـسورية وفلسطين.

لنتذكر جميعاً حصار دير الزور، وحصار حلب، وإن شئتم حصار دمشق، ولنتذكر المجازر الجماعية التي ارتكبتها التنظيمات الفاشية، وتدمير المعامل، والبنى التحتية، وقطع المياه عن دمشق، وتقطيع الطرق، واستهداف المطارات المدنية والعسكرية، واستهداف دور العبادة الإسلامية والمسيحية والجامعات والمدارس، والآثار ودور الثقافة، هل سننسى ذلك كله، وهل هناك من سيقول لنا: إن التفاوض كان أسلم! أم إنه بعد حرب غزة سيدرك أن تكلفة المقاومة أقل بكثير من تكلفة الاستسلام، لأنك بهذه المقاومة ستضع قدمك على خريطة العالم الجديد، وستحجز مكانك بين الأقوياء، لا يهم كبر المساحة، وعدد السكان، بل قرارك الوطني، واستقلالك، وتطلعك للحرية من أجل مستقبل أحفادك وأبنائك.

إلى أولئك الذين يقيسون النتائج والانتصارات بـحجم الدمار، عليهم أن يقرؤوا تجارب الشعوب كلها، وينظروا أيضاً إلى اقتصاد الصهاينة كيف ينهار ويتراجع، لأن أهم ما يجب أن نتعلمه من دروس التاريخ ألا نكون شعوباً ضحية، بل شعوب منتصرة مهما كلف الثمن.

قد يعجبك ايضا