العولمة وآثارها على الوضعين الدولي والعربي / غازي الصوراني

غازي الصوراني ( فلسطين ) – الإثنين 18/9/2023 م …




لم يعد ثمة خلاف على ان المتغيرات العالمية النوعية، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في السياسة والاقتصاد والتطور العلمي، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً ورئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة، عنوانها العولمة في القرن الحادي والعشرين، لم يعهدها من قبل، ولم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسارعة أشد الساسة والمفكرين استشرافاً أو تشاؤماً أو أقربهم إلى صناعة القرار، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية ومنظومة التحرر القومي من جهة، والانحسار أو التراجع المريع أيضاً، ولكن المؤقت للبنية الأيديولوجية أو الفكرية لقوى الاشتراكية والتحرر القومي من جهة أخرى، الأمر الذي أخل – وما زال – بكل توازنات القوة والمصالح وفق مفاهيم وأسس القطبية الثنائية، ووفر بروز مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة منذ ثمانينيات القرن الماضي، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت – حتى تفجر الأزمة العالمية المالية في سبتمبر 2008 – استكمال فرض هيمنتها على مقدرات الكوكب، وفق آليات الليبرالية الجديدة.

تعريف العولمة:

نبدأ بالترجمة الصحيحة للاسم الإنجليزي للظاهرة وهو Globalization وهو مشتق من Globe بمعنى الكرة، والمقصود بها هنا الكرة الأرضية. أما المقصود بالعولمة فهو التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة.

في هذا الجانب، وصَفَ قاموس أكسفورد للعام 1991 العولمة لأول مرة بأنها من الكلمات الجديدة التي برزت خلال التسعينيات. حيث بدأ هذا المفهوم يزداد تداولاً وانتشاراً في مختلف دول العالم المتقدم مركزاً وهوامش ودخل في مختلف فروع الاقتصاد والمعرفة.

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن العولمة تعني أن الإنسانية عموماً انتقلت في المرحلة الراهنة، عبر عملية معقدة ومركبة، صوب صياغة مجتمع عالمي جديد، تحت تأثير الثورة الكونية”، هذه الثورة التي جعلت العلم – لأول مرة في تاريخ البشرية – قوة أساسية من قوى الإنتاج، تضاف إلى الأرض ورأس المال والعمل.

إن العالم اليوم أصبح يمتلك ملامح جديدة، أبرزها أنه يقوم أساساً على إنتاج المعلومات وتداولها من خلال آلية غير مسبوقة هي الحاسب الآلي وتكنولوجيا الاتصالات، هذا هو الأساس في إطلاق اسم “مجتمع المعلومات” على هذا الكوكب منذ نهاية القرن العشرين”.

في هذا الجانب، يرى المفكر الراحل د. صادق العظم أن ما يميز العولمة في طورها الراهن، هو أنها انتقلت من مركزية الإنتاج وعالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة، إلى عالمية دائرة الإنتاج والتسويق المباشر في مجتمعات الأطراف.

والعولمة أيضاً تعني انتقال الإنسانية اليوم عبر عملية معقدة صوب صياغة مجتمع عالمي جديد تحت تأثير الثورة الكونية، وثورة المعلومات في مشهد حضاري تسوده ثلاثية النهايات والمابعديات ومنفيات “بلا”: نهاية المكان، نهاية الوسطاء، نهاية الأيدلوجية، نهاية المكتبة، ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة، ما بعد الكنزية، ما بعد البترول…الخ، مصانع بلا عمال، تعليم بلا معلمين، مركبات بلا سائقين، مكتبة بلا رفوف، موظفين بلا مكاتب، جنس بلا رفقة، جيرة بلا قرب.

لم يعد ثمة خلاف على أن المتغيرات العالمية، النوعية المتدفقة، التي ميزت العقدين الأخيرين من القرن العشرين، في السياسة والاقتصاد والتطور العلمي، شكلت في مجملها واقعاً تاريخياً معاصراً ورئيسياً وضع كوكبنا الأرضي على عتبة مرحلة جديدة، عنوانها العولمة في القرن الحادي والعشرين، لم يعهدها من قبل، ولم يتنبأ بمعطياتها ووتائرها المتسـارعة أشد الساسة والمفكرين استشرافا أو تشاؤماً وأقربهم إلى صناع القرار، خاصة ذلك الانهيار المريع في كل من المنظومة الاشتراكية العالمية.

الأمر الذي أخل بكل توازنات القوة والمصالح وفق مفاهيم وأسس الثنائية القطبية التي سادت طوال حقبة الحرب الباردة السابقة، ووفر معظم مقومات بروز مرحلة الأحادية القطبية أو العولمة منذ ثمانينات القرن الماضي، التي اقترنت بالإمبريالية الأمريكية التي استطاعت استكمال فرض هيمنتها على مقدرات هذا الكوكب، وفق آليات ومفاهيم الليبرالية الجديدة .

العولمة Globalization، كظاهرة نشأت في ظروف موضوعية وذاتية –دولية وإقليمية- مواتية، وليس كحتمية تاريخية كما يدعي أو يتذرع أصحابها أو المدافعين عنها الخاضعين لشروطها المذلة، فالعولمة ليست في حد ذاتها شكلا طارئا من أشكال التطور البشري، وإنما هي امتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو، المتسارع والبطيء، منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر، الى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر، ومن ثم تطورها الى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر.

إن مصطلح العولمة الأحادية الامبريالية، يفترض تحقيق وتكريس عملية التكامل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي على مستوى العالم، وهو أمر لم يتحقق حتى اللحظة على المستوى الدولي في ارجاء الكوكب، حيث استمرت أوضاع التمايز في بلدان العالم عموما والبلدان الصناعية في المركز الرأسمالي خصوصاً على حالها من ناحية استمرار الحرص على دور وفعالية الاقتصاد ال قطر ي المرتبط بهذه الدولة او تلك، وقطاعها الرأسمالي الخاص (الأمريكي /الألماني/ الفرنسي /الإنجليزي / الصيني/ الروسي …الخ ) دون أن تتبلور عملية التحول الى الاقتصاد العالمي، بل استمرت المنافسة بين الدول الرأسمالية في المراكز- بصورة أساسية – من اجل توسيع احتكاراتها سواء بالنسبة لتصدير بضائعها او بالنسبة لاستغلال شعوب العالم الفقيرة.

في ضوء ما تقدم، فإن من التضليل الحديث عن العولمة باعتبارها مفيدة لجميع الشعوب، لأن الواقع العالمي في ظل العولمة الإمبريالية الحالية على النقيض من ذلك، فالعولمة إذن هي من وجهة نظري حالة تطورية – امبريالية معولمة- باتجاه المزيد من التوسع والاحتكار اصابت رأسمالية بلدان المراكز– خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي-من جهة، وازدادت في الانتشار والتوسع مع تزايد الاكتشافات العلمية التكنولوجية وعلوم الكومبيوتر والفضاء والنانو في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات الراهن، الذي أسهم في تجسير الفجوة التاريخية من حيث المكان والزمان بين الأمم والشعوب، وأصبح من الممكن الحديث عن أن عالمنا بات اليوم أشبه بقرية صغيرة من حيث الشكل فحسب، الأمر الذي برر انطلاق مفهوم العالمية أو العولمة الراهن.

وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أن انتشار العولمة لم يكن بسبب المخططات الامبريالية للسيطرة على الشعوب الفقيرة، وكذلك أيضاً لم يكن السبب ارتباطاً بالتقدم الهائل في المعلومات والمواصلات فحسب، بل إن السبب الرئيسي لذلك التغول الامبريالي المعولم يعود بالدرجة الأساسية إلى ضعف وتبعية وخضوع أنظمة البلدان الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مما مهد الطريق لكي تفرض العولمة الامبريالية مشروعها بالقوة العسكرية إلى جانب الوسائل الإعلامية والقروض والضغوط المالية الأخرى صوب المزيد من استغلال الشعوب في ظل دكتاتورية السوق والعولمة.

بانهيار المنظومة الاشتراكية – السوفيتية في مطلع التسعينات من القرن المنصرم، انفتح المجال فسيحاً أمام نظام “الرأسمالية – العالمية”, ووحدانية النظام الامبريالي الاقتصادي – الاجتماعي على مستوى الكوكب الأرضي بأكمله.

بناء على ما تقدم، فإن الولايات المتحدة سوف توظف قوتها الاقتصادية والعسكرية الاستثنائية من اجل إخضاع الجميع لمقتضيات ديمومة مشروعها للسيادة العالمية، بمعنى آخر لن تكون هناك “عولمة” دون إمبراطورية عسكرية أمريكية، تقوم على المبادئ الرئيسية التالية وفق د. سمير امين:

1- إحلال الناتو محل الأمم المتحدة من اجل إدارة السياسة العالمية.

2- تكريس التناقضات داخل أوروبا من اجل إخضاعها لمشروع واشنطن.

3- تكريس المنهج العسكري او عولمة السلاح كأداة رئيسية للسيطرة.

4- توظيف قضايا “الديمقراطية” و”حقوق الشعوب” لصالح الخطة الأمريكية عبر الخطاب الموجه للرأي العام من ناحية وبما يساهم في تخفيض بشاعة الممارسات الأمريكية من ناحية ثانية.

وفي هذا الإطار، ينبع تفوق العولمة من الاقتصاد القوى والتقدم العلمي والمعلوماتي إلى جانب التطور في الميدان العسكري الذي دفع قادة واشنطن إلى لغة الغطرسة بقولهم ” لا يوجد مكان على وجه الأرض بمعزل عن القوة التدميرية الصاروخية” عولمة السلاح “، إنها استمرار للصراع الطبقي بصورة معولمة أكثر توحشا.

بالطبع لم يكن ظهور مفهوم العولمة الاقتصادي معزولاً عن الانهيار الأيديولوجي الذي أصاب العالم بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي، بل هو مرتبط أشد الارتباط بالمفاهيم الفكرية التي صاغها فلاسفة ومفكرو الغرب الرأسمالي، بدءاً من ” عصر نهاية الأيديولوجيا ” الى ” صراع الحضارات “، و” نهاية التاريخ عند الحضارة الغربية”، وهي مجموعة أفكار تتقاطع مع الأفكار النازية كما صاغها تريتشكه ونيتشه، عندما تتحدث عن تفرد الحضارة الغربية – ضمن إطارها الثقافي والجغرافي – بالقوة والعظمة دون أي دور أو ترابط مع حضارات العالم الأخرى، كما يقول ” فرنسيس فوكوياما ” الذي رأى (عام 1992) أنه ” بسقوط الأنظمة الاشتراكية يكون الصراع التاريخي بين الليبرالية والماركسية قد انتهى بانتصار ساحق لليبرالية الجديدة، وبهذا النصر تكون البشرية قد بلغت نقطة النهاية لتطورها الأيديولوجي”!؟ وقد تراجع عن موقفه هذا فيما بعد عام 2004.

والواقع، انه منذ أن نشأت الرأسمالية كنظام عالمي، وهي تسعى دائماً لأن تخضع العالم أجمع لمتطلبات نموها وشروط حركتها.

وسوف نميز فيما يلي، بين ستة مراحل أساسية، لتطور الرأسمالية، بدأت منذ القرن الخامس عشر حتى اللحظة الراهنة من القرن الحادي والعشرين، وهذه المراحل الستة هي:

المرحلة الأولى: مرحلة الكشوف الجغرافية

وهي مرحلة التمهيد لنشأة الرأسمالية، أي فترة الكشوف الجغرافية التي امتدت من نهاية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر، ومهدت الطريق لتكوين السوق العالمية فيما بعد.

المرحلة الثانية: المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية)

وهي المرحلة التي تمتد من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي على أسواق العالم، وظهر فيها ما يسمى بالدول القومية.

المرحلة الثالثة: مرحلة الثورة الصناعية

بدأت هذه المرحلة مع ظهور رأس المال الصناعي، حيث تحققت الثورة الصناعية خلال الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استمرار المراكز الرأسمالية في تطويع وتكييف المناطق المسيطر عليها.

وعند هذه المرحلة أُرسيت دعائم تقسيم العمل الدولي غير المتكافئ بين البلاد الرأسمالية الصناعية والمستعمرات وأشباه المستعمرات.

المرحلة الرابعة: مرحلة الاستعمار

بدأت هذه المرحلة مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال.

ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز.

يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين هذه القوى، وهو الأمر الذي أجج صراعا محموما فيما بينها، انتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.

المرحلة الخامسة: مرحلة الإمبريالية

إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدؤوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونيالية والاستعمارية.

أهم أدوات الإمبريالية الجديدة التي استخدمتها المراكز الرأسمالية الصناعية لاستمرار “تكييف” البلاد المتخلفة بعد حصولها على استقلالها السياسي، لأمكننا رصد الأدوات التالية:

1. سعت الدول الرأسمالية الاستعمارية إلى إيجاد نوع من العلاقات الخاصة الثنائية مع مستعمراتها السابقة.

2. استخدام سلاح ما سمي “بالمعونة الاقتصادية”: المعونات الغذائية والهبات والقروض والتسهيلات الائتمانية.

3. خلق روابط متينة مع بعض الفئات والشرائح الاجتماعية في البلدان المتخلفة (من الاقطاعيين من كبار الملاك والتجار ما يسمى بالوجهاء من أبناء العائلات والمخاتير.. الخ) ورجال الحكم من كبار الموظفين المدنيين والعسكريين (البيروقراطية العليا).

4. استخدام أسلوب المعونات العسكرية التي قدمت لكثير من الأنظمة الديكتاتورية والرجعية لحماية وتأمين الأمن الداخلي لهذه النظم، وقمع أي حركات ثورية بالداخل، من خلال إقامة القواعد العسكرية والدخول في الأحلاف واتفاقيات الأمن المتبادل.

المرحلة السادسة: مرحلة العولمة الرأسمالية الأحادية

إن جوهر وشكل الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين، لا يمكن اعتباره نظاماً دولياً جديداً، وإنما هو امتداد لجوهر العملية الرأسمالية القائم على التوسع والامتداد، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة نظام العولمة الرأسمالي الراهن، وهي :

صندوق النقد الدولي الذي يشرف على إدارة النظام النقدي العالمي ويقوم بوضع سياساته وقواعده الأساسية، وذلك بالتنسيق الكامل مع البنك الدولي .

منظمة التجارة العالمية WTO وهي أهم وأخطر مؤسسة من مؤسسات العولمة الاقتصادية، تقوم الآن بالإشراف على إدارة النظام التجاري العالمي الهادف الى تحرير التجارة الدولية وإزالة العوائق الجمركية بالتنسيق والتعاون مع البورصات العالمية الكبرى التي يبلغ حجم تعاملها 95 تريليون دولار، علماً بأن حجم تداول العملات عالمياً سجل عام 2022 مستوى قياسي بلغ 7.5 تريليون دولار يومياً، ما يعني احتفاظ الدولار بهيمنته على الصعيد العالمي، فهو يسيطر على 80% من حجم تداول العملات حول العالم، بينما يحتل اليورو المرتبة الثانية في قائمة أكثر العملات تداولاً بنحو 31% فيما لا يزال حجم المبادلات باليوان الصيني والروبل الروسي والين الياباني متدنيا.

وفي ضوء هذه السياسات والشروط المحددة من قبل الصندوق والبنك الدوليان من جهة، ومنظمة التجارة الدولية من جهة ثانية، أصبحت السياسة التجارية للدول المستقلة، ولأول مرة في التاريخ الاقتصادي للأمم، شأنا دولياً، أو معولما، وليس عملا من أعمال السيادة الوطنية أو القومية الخالصة.

فعلى النقيض من كل ما كتبه مفكرو العولمة، المدافعين عن إجراءات الخصخصة والليبرالية، فإن النتائج الناجمة عن اندماج بلدان العالم الثالث في هذه الإجراءات، تشير الى تكريس مظاهر التبعية السياسية والمالية والتجارية والتكنولوجية، مع تزايد مظاهر الإفقار والبطالة وتراجع النمو وإعاقة عمليات التنمية في هذه البلدان وفقدانها لجوهر استقلالها السياسي والاقتصادي.

ويزيد من تفاقم العولمة قيام طبقة جديدة يمكن تسميتها “الطبقة العالمية” التي تتشكل من النخب الاقتصادية الناشطة في إطار الشركات العالمية.

في العالم أكثر من 500 “بليونيراً” تقدر ثرواتهم بأكثر من تريليون دولار، أي ما يساوي ما يملكه 45 بالمائة من سكان العالم الفقيرة.

كما شهد الاقتصاد العالمي في عصر العولمة- انتقال مركزه من الوطني إلى العالمي، وباتت مؤشرات الاقتصاد العالمي لا المحلي هي الشغل الشاغل ومحور الاهتمام العالمي.

وظهور منظمة التجارة العالمية وتزايد دور الشركات المتعددة الجنسية، دولية النشاط والتي بمجموعها تشكل العولمة الاقتصادية التي تفترض أن العالم قد أصبح وحدة اقتصادية واحدة تحركه قوى السوق على المستوى العالمي، إنها تستهدف باختصار رسملة العالم وتحويل البشر إلى مجرد مستهلكين للسلع والخدمات المروج لها على المستوى العالمي.

وفي هذا السياق يقول “روبرت شتراوس هوب” أحد المدافعين عن الوجه العنصري البشع للعولمة، في كتابه ” توازن الغد ” الصادر عام 1994م، إن ” المهمة الأساسية لأمريكا توحيد الكرة الأرضية تحت قيادتها، واستمرار هيمنة الثقافة الغربية، وهذه المهمة لابد من إنجازها بسرعة في مواجهة نمور آسيا وأي قوى أخرى لا تنتمي للحضارة الغربية”، ويستطرد “أن مهمة الشعب الأمريكي القضاء على الدول القومية، فالمستقبل خلال الخمسين سنة القادمة سيكون للأمريكيين، وعلى أمريكا وضع أسس الإمبراطورية الأمريكية بحيث تصبح مرادفة “للإمبراطورية الإنسانية”!

تطور مفهوم العولمة وآثاره الضارة:

في سياق هذا التحول المادي الهائل الذي انتشر تأثيره في كافة أرجاء كوكبنا الأرضي بعد أن تحررت الرأسمالية العالمية من كل قيود التوسع اللامحدود ، كان لابد من تطوير وإنتاج النظم المعرفية ، السياسية والاقتصادية التي تبرر وتعزز هذا النظام العالمي الأحادي في ظل حالة من القبول أو التكييف السلبي ، شجعت على تطبيق شروط العولمة، إضافة إلى هذا المناخ العام المهزوم أو المنكسر في بلدان العالم الثالث أو الأطراف، الذي أصبح جاهزاً للاستقبال والامتثال للمعطيات السياسية والاقتصادية ، الفكرية والمادية الجديدة عبر أوضاع مأزومة لأنظمة محكومة للشرائح العليا من التحالف البيروقراطي الكومبرادوري من ناحية، أو لهذه الشرائح أيضاً بالتحالف مع رموز التخلف القبلي أو العشائري كما في مشيخات الخليج والسعودية.

هذه المرحلة التي وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الإمبريالي المعولم، الذي يسعى –استنادا الى منطق إرادة القوة المتوحشة- الى العودة بشعوب العالم الى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية وآلياتها التدميرية ولضمان عملية التوسع الاكراهي -بالقوة العسكرية والاحتلال المباشر، أو عبر أنظمة التبعية والتخلف والخضوع أو كلاهما معا.

هذا هو جوهر الإمبريالية في طورها المعولم في القرن الحادي والعشرين، باعتباره استمراراً للصراع في ظروف دولية لم يعد لتوازن القوى فيها أي دور أو مكانة، ولذلك كان من الطبيعي أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي واليابان، باعتبارها القوة الوحيدة المهيمنة في هذه الحقبة، بملء الفراغ الناجم عن انهيار التوازنات الدولية السابقة.

التداعيات الاقتصادية الاجتماعية للنظام الرأسمالي بين المركز والأطراف:

إن العمال والفئات الكادحة والمهمشون هم الضحايا الاكثر تضررا من النظام الرأسمالي، في دول الأطراف أو المحيط خصوصاً. كما أن المهمة الرئيسية التي تم تحديدها لمجتمع الاستخبارات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تتمثل في المساعدة على نشر مبادئ العولمة والإطاحة بمعارضيها والتبشير بها وتعزيز مصالح الولايات المتحدة.

“إن ازدياد التفاوت كان له تأثير على البنى الطبقية ومكاسب وخسائر الطبقات المختلفة في الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة، فكان هناك صعود نخبة رأسمالية ومالية أو بلوتوقراطية جديدة، حيث إن 1٪ في الولايات المتحدة تأخذ أكثر من 20٪ من الدخل، والرؤساء التنفيذيين الأميركيين يكسبون 200 ضعف متوسط الأجر في الولايات المتحدة.

ان التفاوت في توزيع الثروات قاسم مشترك الان في جميع الشعوب التي تتبنى دولها هذا النمط المغلف للرأسمالية الانجلوأمريكية، فكل دولة من هذه الدول لديها طبقة الواحد بالمائة.

واليوم يعيش أكثر من 780 مليون شخص تحت خط الفقر الدولي، 11٪ منهم يعيشون في فقر مدقع ويكافحون من أجل تلبية أدنى الاحتياجات الأساسية كالصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي، وأكثر من 160 مليون طفل معرضون لخطر الاستمرار في العيش في فقر مدقع بحلول عام 2030. وتبين الإحصائيات انه:

لم يزل 783 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر الدولي المحدد بـ1.9 دولارا يوميا.

تنتمي الغالبية العظمى ممن يعيشون تحت خط الفقر إلى منطقتين: جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والدول العربية غير النفطية، حيث تنشر البطالة وتسوء التغذية وتكثر الامراض والاوبئة رغم التقدم العلمي والاكتشافات الطبية الكبيرة ذلك ان هذه الاكتشافات لا تستخدم لخدمة الانسانية بل لمراكمة ارباح مخابر وشركات الادوية.

في المقابل تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين. وتوضح الدراسات أنهم لو ساهموا بـ 1% من هذه الثروات لغطت تكلفة الدراسة الابتدائية لكل الأطفال في العالم النامي.

وبينما يموت 35 ألف طفل يوميا بسبب الجوع طفل يوميا بسبب الجوع والمرض، ويقضي خمس سكان البلدان النامية بقية اليوم وهم يتضورون جوعا، تقل المساعدات المخصصة للدول الفقيرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة عما تنفقه تسعة من البلدان المتقدمة على غذاء القطط والكلاب في ستة أيام فقط.

حركة التجارة الدولية في ظل العولمة وانعكاسها على الدول النامية:

بالرغم من ارتفاع حجم التجارة الدولية الى (32) تريليون دولار عام 2023 (تتوزع بين تجارة السلع بمبلغ 25 تريليون $ وتجارة الخدمات 7 تريليون $) فقد ظل نصيب مجموعة البلاد النامية من التجارة العالمية ثابتاً خلال العقود الثلاثة الماضية حول 18% بما في ذلك نصيب الدول المصدرة للنفط.

في هذا الجانب، أشير إلى ” ارتفاع حجم التجارة الالكترونية ليصل عام 2022 إلى 3.3 تريليون دولار، تحققت من خلال أكبر عشر دول في مجال التجارة الالكترونية، حيث حلت الصين في المركز الأول بنحو 1.5 تريليون دولار والولايات المتحدة في المركز الثاني بحوالي 875 مليار دولار فقط، وحلت اليابان في المركز الثالث بما يعادل حوالي 241 مليار دولار فقط، وجاءت كل من المانيا وبريطانيا في المركز الرابع والخامس بإيرادات بلغت 148 مليار دولار و143 مليار دولار بريطانيا، وفي المركز السادس كوريا الجنوبية 118 مليار دولار، ثم الهند بحوالي 97 مليار دولار، ثم فرنسا في المركز الثامن بإيرادات بلغت 96 مليار دولار، واندونيسيا في المركز التاسع 59 مليار دولار، وكندا 59 مليار في المركز العاشر، أما دول الخليج فقد بلغت إيراداتها 32 مليار دولار فقط”.

“ارتفع إجمالي رصيد ديون البلدان النامية حسب تقرير معهد التمويل الدولي ليبلغ عام 2022 (98.7 تريليون$) ما يعادل 97% من الناتج العالمي البالغ (101.6 تريليون$) عام 2022، ومع نمو حجم هذه الديون ارتفعت أسعار الفائدة ومعدل خدمة الدين الذي وصل في بعض هذه البلدان الى 62 مليار دولار حسب البنك الدولي.

في هذا السياق، أشير الى أن بلدان الوطن العربي عموما وخاصة مصر والعراق وسوريا والجزائر وتونس، لم يعد لها دور او تأثير في السياسة والعلاقات الدولية الراهنة بسبب تفاقم تبعيتها وخضوعها للشروط الامريكية الإسرائيلية، حيث نلاحظ بوضوح وبكثير من الأسى والحزن بروز الدور الرئيسي المركزي في الشرق الأوسط لحساب ثلاثة دول رئيسية هي دولة العدو الصهيوني، ودولة حلف الناتو تركيا، وايران بعد أن غاب الدور المركزي للوطن العربي .

ففي ضوء وضوح وعينا للعولمة الإمبريالية، تتكشف الطبيعة المتوحشة للرأسمالية المعولمة اليوم على حقيقتها عبر ممارساتها البشعة ضد شعوب العالم الفقيرة، وذلك بالاستناد الى المؤسسات الدولية التي تكرست لخدمة النظام الرأسمالي في طوره الإمبريالي الراهن، وهي (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، إلى جانب الشركات المتعددة الجنسية التي باتت تملك أصولاً رأسمالية تزيد عن (50) ترليون دولار وهو ما يقارب 50% من إجمالي الناتج المحلي لجميع دول العالم في كوكبنا.

وفي هذا الجانب أشير الى أن السلطة الاقتصادية لهذه الشركات العالمية تتركز بصورة كبيرة في مؤسسات أمريكية وأوروبية كما تؤكد المعلومات المستقاه من جريدة فاينانشال تايمز إنه من ضمن 500 من أكبر الشركات 244 منها من أمريكا الشمالية و173 أوروبية و46 يابانية. أي بعبارة أخرى 83% من أهم المنشآت التي تتحكم في التجارة والإنتاج العالمي هي أمريكية شمالية وأوروبية.

ويغدو تركز السلطة مذهلاً إذا تأملنا ال80 شركة الأكبر في العالم (تلك التي يفوق رأسمالها في تقديري 25 تريليون دولار): أكثر من 70 % منها أمريكية شمالية و26% أوروبية و4% يابانية.

المشهد الدولي الحالي.. القوى المركزية:

النظام العالمي الآن أكثر تعقيداً مما يتصور أحد، لذلك لابد من متابعة المتغيرات واستيعابها، فهناك امبراطورية تفككت (الاتحاد السوفيتي) وتسعى إلى وقف التفكك داخل روسيا الحالية إلى جانب الحفاظ على الأمن الاستراتيجي المحيط بها (أوكرانيا وغيرها) بحيث تضمن سيطرتها على المجال الحيوي المحيط بها.

الإمبراطورية الثانية هي امبراطورية تتراجع ببطء، وهي الولايات المتحدة، يؤكد على ذلك أهم الباحثين والمفكرين الأمريكان الذي تناولوا هذا الموضوع، أهمهم بول كنيدي، وجون كالتنج الذي تنبأ بانهيار الاتحاد السوفييتي، ثم أكد أن الولايات المتحدة تسير في حالة تراجع، لكنني أعتقد أن تراجعها مرهون بتزايد أزماتها الاقتصادية والمالية من ناحية، وبروز وتبلور التعددية القطبية بصورة ملموسة، وانهاء كافة مظاهر تبعية البلدان النامية للولايات المتحدة من ناحية ثانية.

لكن ملامح هذه المرحلة أخذت بالتصدّع خلال عقدين من الزمان بصعود الصين كقوة اقتصادية عظمى وعودة روسيا كقوة مؤثرة بعد غياب الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى تحالفات جديدة خارج الهيمنة الأمريكية، كما هو دور دول البريكس، فإضافة إلى الصين وروسيا، هناك البرازيل وجنوب إفريقيا والهند، وهي قوى صاعدة، لا سيّما في المرحلة الانتقالية الحالية التي تشهد صراعاً بأنواع مختلفة، مع اتفاق مصالح، الأمر الذي يجعل من التكتلات الكبرى أساساً في مواجهة الدور الأمريكي المهيمن والآخذ بالتراجع على الرغم مما يملكه من مصادر قوة لا يزال يحتفظ بها”.

لكن ذلك لا يعني ابداً زوال الأحادية القطبية الأمريكية الآن، لحساب تعددية قطبية بقيادة الصين التي قد تمتلك قوة اقتصادية أكبر من القوة الاقتصادية الامريكية، إلا أنها ستظل بحاجة إلى فترة زمنية طويلة نسبياً لتحقيق تفوقها التكنولوجي العسكري مع روسيا، بما يضمن انهاء الأحادية القطبية، وولادة التعددية القطبية المنشودة، التي بدأت تتجاور -منذ أكثر من خمس سنوات- مع الأحادية الأمريكية، وهي قابلة للتزايد والانتشار وفق مخططات الصين السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، ووفق تطور روسيا ودول البريكس وبعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.

في هذا السياق، أشير إلى أن الصين الشعبية، هي اليوم، القوة المركزية الثانية عالمياً، وللتذكير هنا أشير إلى وضع الصين عند وفاة ماوتسي تونغ، حيث كان ترتيبها في الناتج المحلي العالمي رقم 36، أما الآن فإجمالي ناتجها المحلي حسب القوة الشرائية يبلغ 27.31 تريليون دولار، وهي بالتالي الأولى في العالم، أما الناتج الإسمي فيصل إلى 14 تريليون $ مقابل 22 تريليون الناتج الإسمي الأمريكي (المجموع العالمي للكرة الأرضية تخطى عتبة ألـ 100 تريليون $ عام 2022، وحسب مركز أبحاث الاقتصاد البريطاني، سيرتفع الناتج العالمي إلى 207 تريليون $ عام 2037).

وبالعودة إلى الصين، فقد بدأت في تنفيذ مخططها الهادف إلى بناء الصين الكبرى بكلفة 6 تريليون $ – بقرار من الحزب الشيوعي- عبر تكامل اقتصادي سياسي مع سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ وتايوان وفيتنام والفليبين.. إلخ، إلى جانب مشروعها الضخم الهادف إلى بلورة وتحقيق الحزام الصيني، علاوة على إجراءاتها ومشاريعها العلنية وغير العلنية فيما يتعلق بطموح الصين في التفوق العسكري.

لم تنتقل الصين إلى العولمة المالية. لقد حافظت على نظامها المالي المستقل الذي تديره الدولة، ليس فقط بشكل رسمي ولكن من حيث الجوهر. هناك نوع من رأسمالية الدولة تعمل هنا. تتعارض العولمة مع استراتيجية “القدمين” الصينية. لأن العولمة الإمبريالية والمشروع الصيني ليسا استراتيجيات متكاملة بل هما في صراع.

بتقديري -كما يقول د. سمير أمين- الصين ليست اشتراكية، لكنها أيضاً ليست رأسمالية. إنها تحتوي على نزعات متصارعة. هل تتجه نحو الرأسمالية أو الاشتراكية؟ معظم الإصلاحات التي تم إدخالها، وبالتحديد بعد دنغ شياو بينغ، كانت يمينية، وقد أفسحت ووسعت المجال لنمط الإنتاج الرأسمالي ولنشوء طبقة برجوازية.

ولكن، حتى الآن، تم الحفاظ على الدينامية الأخرى (الحزب الشيوعي والخصائص الصينية للاشتراكية).

فطالما ظلت الصين مبتعدة عن العولمة المالية ستظل أي عقوبات ضدها محدودة الفعالية. ولنأخذ كمثال: عندما انسحبت شركة أمريكية تعمل في حقل المعلومات، أحلت الصين محلها شركة بريطانية منافسة على الفور. وإذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بعض الصادرات الصينية يمكن للصين أن ترد بعقوبات مضادة.

في هذا الجانب يشير د. وليد عبد الحي إلى أن الصين وضعت خطة بدأت في تنفيذها عام 2015 تكلفتها 1,68 تريليون $ مخصصة لمجال الذكاء الصناعي حتى عام 2025، وهذا يعني ان الصين ستكون أهم دول العالم في الذكاء الصناعي، اسم الخطة: صنع في الصين، الصين ستتفوق عام 2026، وحسب التوقعات العالمية قد تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم عام 2037.

وفي هذا السياق، أشير إلى زيارة الرئيس الصيني الأمين العام للحزب الشيوعي شي جين بينغ لموسكو 20 آذار/ مارس 2023، حيث أكد في مستهل زيارته موقف بلاده التضامني مع روسيا والرئيس بوتين ضد كافة العقوبات الأمريكية والأوروبية، معلناً تأييده للرئيس بوتين في الحرب الأوكرانية، وفي مجابهة حلف الناتو، وأن بلاده مستعدة للوقوف بحزم إلى جانب روسيا لحماية القانون الدولي، وأضاف أن زيارته ستكون “مثمرة وتعطي دفعة جديدة لتعزيز العلاقات مع روسيا”، كما قال مخاطباً الرئيس بوتين “إننا سنقيم معاً تحالفاً استراتيجياً سيمكننا من إعادة بناء النظام الدولي بصورة تتناقض مع المنطلقات السياسية الامبريالية التي تتحكم في النظام الدولي في المرحلة الراهنة”، الأمر الذي يعني بداية تجليات التعددية القطبية راهناً بقيادة الصين وروسيا والدول المتحالفة معهما، خاصة دول البريكس.

روسيا:

مثَّل القرار الروسي بالتدخل عسكريًّا في أوكرانيا خطوة أخرى بارزة لروسيا على المسرح الدولي، استهلتها بالحرب الجورجية في 2008، قبل أن تدعم سياسيًّا ولوجيستيًّا النظام السوري، وبين هذه وتلك، كان التدخل العسكري وضم القرم في 2014.

وقد جاءت تلك الخطوات كدلالة على محاولة روسيا استعادة نفوذها الإقليمي والدولي الذي كان قد تضعضع تمامًا على خلفية اهتراء السلطة السوفيتية ثم تفكك الاتحاد السوفييتي.

وبالتالي، فإن النظر في الحرب الروسية الأوكرانية لا بد أن يتناول أساسًا مجمل التفاعلات التاريخية جغرافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا التي حددت مسار السياسة الروسية منذ نشأتها الإمبراطورية في القرن الثالث عشر وصولًا للثورة البلشفية ثم الانهيار السوفييتي وفترة الاضمحلال التي تلته، إلى أن استعاد بوتين دورها ودخل بها من جديد في طور لاعب رئيسي على الساحة، وهنا لابد لنا من التأكيد على صحة استنتاج الكاتب الأمريكي بريجنسكي حينما قال: “روسيا مع أوكرانيا امبراطورية، وبدونها روسيا مجرد دولة”.

سمات رأسمالية تخومية، لقد تم تحويل الاقتصاد الروسي إلى اقتصاد ريعي يعتمد بشكل شبه مطلق على تصدير المواد الخام من نفط وغاز كأي دولة تخومية من دول أطراف المنظومة.

التدخل الأمريكي ضد روسيا:

لم تكف الولايات المتحدة وشركاؤها في الناتو عن التدخل في شئون روسيا وفي مجالها الحيوي حتى بعد الانهيار السوفيتي، وقد أدرم بوتين أن الغرب لا يزال عدوًّا لروسيا، الأمر الذي يفسر مواقفه الجريئة التي اتخذها في مواجهة الأزمات الدولية الأخيرة (سوريا، إيران، أوكرانيا).

وفي هذا السياق، أشير إلى مبدأ الجغرافيا السياسية أو الجيوبوليتكا المرتبطة بالمساحات الهائلة لروسيا -حوالي 1/8 ثمن مساحة الكرة الأرضية – بالإضافة إلى دورها التاريخي القديم في السياسة الدولية، إلى جانب الشعور بالعظمة والاعتزاز والفخر لدى الروس عموماً وحكام روسيا خصوصاً منذ ما قبل الامبراطور بطرس العظيم، يدفعني إلى التأكيد على ان تميز روسيا التاريخي والحديث والمعاصر، يعزز دوماً مشاعر العظمة ليس عند الامبراطور أو لدى لينين أو ستالين فحسب، بل أيضاً تمتد تلك المشاعر لتصل اليوم بصورة أكثر وضوحاً عند الرئيس القومي الروسي بوتين وطموحه اللا محدود بالمعنيين الذاتي والموضوعي صوب استعادة روح روسيا العظيمة، كما عبر عنها أباطرة روسيا من ناحية، وكما عبر عنها أيضاً القائد العظيم لينين وحزب البلاشفة وصولاً إلى بوتين في اللحظة الراهنة، ما يعني أن روسيا عظيمة سواء في نظام إمبراطوري أو في نظام اشتراكي أو في نظام قومي كما هو حالها في اللحظة، وهنا يأتي تأثير الكسندر دوغين وتأكيده على استعادة عظمة روسيا من خلال الجيوبوليتكا (الجغرافيا السياسية المرتبطة بمصطلح “أوراسيا”)، وايمانه العميق بدور الرئيس بوتين في هذه العملية الاستنهاضية الروسية في مواجهة الأحادية الإمبريالية الأمريكية المعولمة، ومن أجل ان تستعيد روسيا دورها الطليعي هذا الكوكب.

اليابان:

تأتي اليابان، كواحدة من القوى المركزية العالمية، لكنها حسب تقييم كافة الدراسات ستظل دولة تقبل أن تقوم بدور التاجر ومنتج السلع؛ فهي لن تستطيع منافسة أمريكا وروسيا والصين فيما يتعلق بعسكرة الدولة، وهي أيضاً لم تستطع حتى الآن منافسة كوريا الشمالية في الجانب العسكري.

الاتحاد الأوروبي:

أما الاتحاد الأوروبي، الذي يعتبر من بين أهم القوى المركزية في المشهد الدولي الراهن، إلا أنه ما زال حتى اللحظة عاجزاً عن تطوير نفسه صوب تحقيق القدرة التي يمكن أن تجعله متفوقاً على الولايات المتحدة الأمريكية، علاوة على أن هذا الاتحاد الأوروبي منذ نشأته لم يمثل كتلة سياسية دولانية واحدة وموحدة، حيث نلاحظ حالة التمايز والاختلاف السياسي بين العديد من دوله خاصة بين فرنسا وألمانيا وغير ذلك من الدول، وبالتالي لا نستطيع الحديث عن الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية واحدة أو موحدة، وسيظل ضمن علاقات تابعة للولايات المتحدة بشكل أساسي.

العولمة والمشهد الدولي:

في الحديث عن المشهد الدولي هناك مقاييس أو مؤشرات حول ترابط العولمة الراهنة، فهناك مؤشر عالمي من مائة درجة -حسب د. وليد عبد الحي- يتم تطبيقه على دول العالم، لمعرفة مدى الروابط الدولية مع العولمة بالنسبة إلى دول العالم حالياً.

فالدول الحاصلة على 90 درجة فما فوق، تعتبر دولة معولمة، مثال سنغافورة (اقتصادها وثقافتها وتطورها معولمة بالكامل)، وهناك أكثر من 32 دولة تندرج في الجدول من 80 – 90 درجة، وهناك 66 دولة من 60 درجة إلى 80 درجة، أما عدد الدول بين 60 درجة إلى 75 درجة فهي 14 دولة، وهناك 11 دولة أقل من 50 درجة، وكل ذلك حسب د. وليد عبد الحي.

كما يشير أيضاً إلى أن 4-5 مليار نسمة في الكوكب مرتبطين بالإنترنت، وأن هناك حوالي 60 ألف شركة متعددة الجنسيات تملك نصف مليون فرع لشركتها، تسيطر على حوالي 42% من حجم التجارة الدولية (حوالي 11.5 تريليون $) وتستحوذ على 40% من الناتج العالمي.

بالنسبة لقياس القوة، يمكن توضيحه حسب د. وليد عبد الحي كما يلي: لو أخذنا القوة العسكرية للدولة نجد أن قوة روسيا تساوي 2.5 مرة القوة اليابانية، لكن حجم الاقتصاد الياباني خمسة أضعاف الاقتصاد الروسي.

في ضوء تطبيق هذه المؤشرات، هناك خلاصة توضح طبيعة العلاقات الدولية:

أمريكا تملك 38.18% من القوة العالمية.

الصين تملك 34.55% من القوة العالمية.

روسيا تملك 27.70% من القوة العالمية.

معدل الاستقرار السياسي: الصين هي الأفضل .

حجم التجارة الخارجية: الصين 4.6 تريليون دولار، أمريكا 4.3 تريليون، روسيا 606 مليار$ فقط .

الصين لديها فائض 359 مليار $ مقابل 946 مليار دولار عجز في أمريكا في الميزان التجاري.

الولايات المتحدة بلغت ديونها مقابل الناتج المحلي 106.7%.

بالنسبة إلى المساعدات الخارجية لدول العالم: الصين تقدم 38 مليار $ مساعدات للعالم، أمريكا 32 مليار$ (الصورة العامة ان أمريكا أكثر) روسيا 1.14 مليار $.

في أمريكا 496 ألف براءة اختراع، في الصين 1.440 مليون براءة اختراع (3 اضعاف أمريكا) روسيا أقل من 50 ألف براءة (مع الاخذ بعين الاعتبار آلاف الاختراعات لا قيمة نوعية لها).

إن تسارع عمليات العولمة سيؤدي إلى تغيير مضامين الكثير من المفاهيم مثل الحرية الاقتصادية أو الليبرالية الجديدة ومفاهيم الحرية السياسية، وكذلك مفاهيم التنمية الاقتصادية والتقدم التكنولوجي والقرية العالمية الصغيرة… إلخ، إذ أن هذه المصطلحات لا معنى لها سوى تكريس مصالح الإمبريالية المعولمة، مع استمرار تزايد البطالة والفقر وتحرر الأسواق والانفتاح والتخلي عن كل الضوابط التي أدت إلى تحكم 20% من سكان الكوكب بمقدرات 80% من سكانه، ما يؤكد على الاستغلال البشع لثروات الشعوب الفقيرة.

ففي ظل العولمة الامبريالية الراهنة تتوزع شعوب العالم على خمس شرائح كما يلي :

أغنى 20% يمتلكون 82.7% من دخل العالم البالغ 101.6 تريليون $ ( 1.3 م.نسمة يمتلكون 82 تريليون$ بمعدل يزيد عن 60 ألف $ للفرد سنوياً)

أل 20% التالية يمتلكون 11.7% من دخل العالم ( 1.3 م.ن يمتلكون 11.7 تريليون $ بمعدل عشرة آلاف $ للفرد سنوياً)

أل 20% التالية يمتلكون 2.3% من دخل العالم (1.3 م.ن يمتلكون 2.3 تريليون$ 2700$ للفرد سنوياً)

أل 20% التالية يمتلكون 1.9% من دخل العالم (1.3 م.ن يمتلكون 2.1 تريليون$ 2000$ للفرد سنوياً)

أفقر 20% التالية يمتلكون 1.4% من دخل العالم[3] (1.3 م.ن يمتلكون 1.9 تريليون $ 1000$ للفرد سنوياً).

ترتيب دول العالم حسب مساهمتها في الاقتصاد العالمي عام 2022:

الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصادات العالم بالمليار دولار

1

الولايات المتحدة الأمريكية

25,035.2

2

الصين

18,321.2

3

اليابان

4,300.6

4

ألمانيا

4,031.1

5

الهند

3,468.6

6

المملكة المتحدة

3,198.5

7

فرنسا

2,778.1

8

كندا

2,200.4

9

روسيا

2,133.1

10

إيطاليا

1,997.0

إجمالي الناتج المحلي العالمي

101,559.3

في الجدول أعلاه نلاحظ أن خمس دول فقط تشكل أكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي العالمي في عام 2022: الولايات المتحدة والصين، واليابان، والهند، وألمانيا. ومن المثير للاهتمام، أن الهند حلت محل المملكة المتحدة هذا العام كأكبر خامس اقتصاد في العالم.

والمعروف أن البلدان الفقيرة أو القوى الضعيفة في العالم تتركز أساسا في المناطق التالية:

إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (48 دولة تقريبا) .

آسيا الوسطى الإسلامية (6 دول من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق) ومعها معظم البلدان العربية ما عدا بلدان النفط عموماً، واليمن ومصر وفلسطين والصومال وسوريا و السودان .

جنوب آسيا (أفغانستان- بنجلاديش وباكستان واندونيسيا ونيبال…الخ)

القطاع الشرقي من آسيا الشرقية: كمبوديا- كوريا الشمالية- لاوس-ميانمار…

منطقة أمريكا الوسطى والبحر الكاريبي (جواتيمالا، جرينادا، هاييتي…الخ).

باختصار شديد أقول من منطلق التحريض ومواصلة النضال، التحرري والاجتماعي الطبقي، ان الدول المتخلفة والتابعة (بما في ذلك بلداننا العربية) فقدت اليوم –عبر أنظمة الخضوع والتبعية الكومبرادورية- إرادتها الذاتية وسيادتها ووعيها الوطني، وكان استسلام معظم هذه الدول أو رضوخها لقواعد ومنطق القوة الأمريكية والتطبيع والاعتراف بدولة العدو الصهيوني، مسوغاً ومبرراً “لشرعية” هذه القواعد من جهة، والصمت المطبق على ممارساتها العدوانية في كثير من بقاع العالم، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة من جهة أخرى، بهدف وحيد هو: الاستيلاء على فائض القيمة للشعوب.

ولكن، على الرغم من كل ما تقدم حول سيطرة الأحادية الامبريالية الأمريكية – حتى اللحظة إلا أن أزمة الرأسمالية المعاصرة وتفاقمها ستؤدي إلى مزيد من النزاعات الفاشية كما يقول د. سمير أمين: ” ليس من قبيل المصادفة الحديث عن عودة الفاشية في المشهد السياسي وأزمة الرأسمالية المعاصرة؛ حيث تمثل الفاشية استجابة سياسية معينة للتحديات التي قد تواجه إدارة المجتمع الرأسمالي في ظروف محددة”[1]. “ولا شك أن الخطر الفاشي يبدو اليوم كما لو أنه لا يشكل خطرا على النظام “الديمقراطي” في الولايات المتحدة وأوروبا.

العولمة والوضع العربي الراهن وآفاق المستقبل:

يتعرض الوطن العربي في ظروف العولمة الإمبريالية الراهنة، وبالترابط الكامل مع حكام أنظمة الكومبرادور لظروف هي الأقسى والأكثر مرارة وانحطاطاً من أي مرحلة في تاريخه الحديث والمعاصر، وهو انحطاط مرتبط بالتبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الطبقي، حيث تتزايد فيه حالة الإفقار والمعاناة للقوى العاملة وكل الفقراء والكادحين العرب، المحرومين من أي شكل من أشكال التأمين والحماية والدعم.

إن هذه الرؤية تشكل اليوم هاجسا مقلقا ومتصلا في عقل وتفكير العديد من القوى والأحزاب والمفكرين والمثقفين في إطار الوحدة الجدلية بين القوى والفعاليات القومية واليسارية بمختلف انتماءاتها المعرفية (عرباً أو اكراداً او امازيغ.. إلخ) على مساحة الوطن العربي كله في المشرق والمغرب، وهي أيضا ليست دعوة الى القفز عن واقع المجتمع العربي أو أزمته الراهنة التي تتجلى في ثلاث مظاهر أساسية:

(1) المظاهر السياسية.

(2) المظاهر الاقتصادية.

(3) المظاهر الاجتماعية.

1 – المظهر السياسي للأزمة:

لعل أبرز المتغيرات الدولية المعاصرة أو العوامل الخارجية، التي دفعت بالبلدان العربية نحو المزيد من التداعي والتراجع، تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي، والغزو الإمبريالي للعراق، وولادة ما يسمى “مشاريع التسوية العربية-الإسرائيلية” وما تلا ذلك من عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي للعديد من بلدان النظام العربي مع العدو الصهيوني.

العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف، بعد أن تغيرت طبيعة الأغلبية الساحقة من الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية بما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية وأحاديتها، حيث انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي “سابق”، الى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد منذ نهاية القرن العشرين إلى يومنا هذا.

2 – المظهر الاقتصادي للأزمة:

ويتجلى في فشل سياسات الانفتاح الخصخصة الاقتصادية (بيع القطاع العام)، التي صاغها الصندوق والبنك الدوليين في ثمانينيات القرن الماضي، بسبب أن هذه البرامج أو السياسات الجديدة التي انساقت لتطبيقها غالبية دول العالم الثالث، طمست أو غيبت بشكل مرسوم ومتعمد، كل مصطلحات “التنمية” و”التحرر الاقتصادي” و”التقدم الاجتماعي” و”العدالة الاجتماعية”.

والآن، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود من الزمن على استجابة بلدان العالم الثالث، ومعظم بلدان الوطن العربي، في تطبيق تلك السياسات، تحصد هذه البلدان، كما هو حالنا في عام 2023 النتائج الوخيمة التي لم تتوقف عند العجز عن مواجهة تحديات التنمية فحسب، بل أدت الى سيطرة طبقة الكومبرادور في كافة الدول العربية بالتنسيق مع البيروقراطية المدنية والعسكرية، وتفاقم المديونية الخارجية والداخلية، وعجز بعض الدول عن سداد فوائد هذه الديون الى البنك الدولي.

وفي ظل هذا التدهور الناتج عن الاستجابة لسياسات الصندوق والبنك الدوليين، كان لا بد لمجرى الأزمة الاقتصادية العامة أن يشق طريقه في صلب النظام العربي نحو مزيد من التراجع في الاقتصاد والتنمية والمجتمع والسياسة، والمؤشرات على ذلك كثيرة :

استفحال مظاهر التبعية بكل أشكالها.

تزايد حجم ومعدلات البطالة والفقر، وما ينتج عنها من أزمات.

استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي، فالمعروف أن الطلب على الغذاء ينمو بمعدل 6% سنويا في حين أن الإنتاج ينمو بمعدل 2% فقط.

تعرض التجارة البينية العربية لمزيد من التراجع والانخفاض.

3- المظهر الاجتماعي للأزمة:

عانى الوطن العربي من إخفاقات كبيرة في تاريخه الحديث منذ القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين، حيث ظلت القيم القديمة الثقافية الرجعية سائدة في مجتمعاتنا بعيداً عن أي شكل من أشكال التجدد الحداثي والنهوض العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي والسياسي، وظلت محكومة لمفاهيم وأساليب التخلف المادي والثقافي الموروث.

وبالتالي ظل اللاعقل المقدس مسيطراً بعد سقوط الدولة العثمانية، حيث عمل الاستعمار على تكريس أوضاع التخلف عبر الكيانات السياسية العربية التي تمأسست بموجب اتفاق سايكس بيكو في إطار التبعية للاستعمار، ولم تفلح قوى النهوض العربي في تجاوز أوضاع التبعية والخضوع، واستمرت مجتمعاتنا تعاني من تراكم تزايد الإخفاقات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والعلمية بسب استمرار سيطرة الثقافة العثمانية والاستعمارية والرجعية السائدة في بلداننا حتى اللحظة.

فقد أخفقنا على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بناء المؤسسات الدولانية السياسية والديمقراطية العصرية، حيث تجددت سيطرت القبائل والطغم الرجعية الاقطاعية والرأسمالية الرثة، بالتنسيق مع السيد الامبريالي على كافة مجالات التقدم والنهوض، ومن ثم تحولت أنظمة الحكم المطلق في بلادنا إلى أدوات في يد النظام الامبريالي، فبالرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين، إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان “ما قبل الرأسمالية”.

فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية.

إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية واتساعها الأفقي والعامودي معاً، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة، وأشكال “الثراء السريع” كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح والخصخصة.

حول اللحظة الراهنة للعولمة الإمبريالية وبشاعة تركز الثروات النفطية في بلادنا:

إن تسارع مظاهر الاستغلال في إطار النظام الامبريالي المعولم بالتنسيق مع البنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، أدى إلى تغيير مضامين الكثير من المفاهيم مثل “العالم الثالث” “التقدم” “العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية” إذ أن هذه المفاهيم -كما أشرت من قبل- لم يعد لها معنى مع تزايد البطالة والفقر وتحرر الأسواق والانفتاح والتخلي عن كل الضوابط التي أدت إلى تحكم 20% من سكان الكوكب بمقدرات 80% من سكانه، يؤكد على هذا الاستنتاج حجم الناتج الاجمالي العالمي البالغ 101 تريليون $ تستحوذ عشر دول كبرى على 73.9 تريليون $ بنسبة 73.2% من الناتج الاجمالي العالمي، في مقابل 150 دولة أو بالأحرى بقية دول كوكبنا تمتلك فقط 27.1 تريليون دولار، منها 22 دولة عربية ناتجها الاجمالي السنوي لا يزيد عن 2.1 ترليون دولار تستحوذ دويلات الخليج والسعودية والكويت وعمان و البحرين ( مجموع سكانها حوالي 42 مليون نسمة)على اكثر من 60% من الناتج الاجمالي العربي بحيث يتراوح دخل الفرد فيها بين 30 ألف دولار في السعودية والكويت والبحرين وعمان فيما يرتفع الى حوالي 50 ألف دولار في ابو ظبي ليصل الى 140 ألف دولار للفرد سنويا في قطر مقابل ثبات دخل الفرد في مصر وفلسطين والسودان واليمن وسوريا والمغرب وتونس والاردن ولبنان والجزائر والعراق عند ثلاثة الاف دولار أو أقل من هذا المبلغ ما يؤكد على ضرورة التحريض الواعي على الثورة لإسقاط أنظمة الاستغلال .

أوضاع الفقر في الدول العربية:

يعيش حوالي 40 في المائة من عدد السكان في الدول العربية (البالغ عددهم 441 مليون نسمة عام 2021) تحت خط الفقر الدولي المقدر بحوالي 2.75 دولار أمريكـي فـي اليـوم باستخدام الـدولار المعـادل القـوة الشرائية، كما تقدر العديد من المصادر أن حوالي ثلتي عدد السكان يعتبرون فـي حالـة فقر أو معرضين للفقر بينما 15 المائة من الفقراء يعانون من الفقر المدقع، حيث تم تسجيل أعلى مستويات للفقر في موريتانيا بنسبة 89.1%، والسودان بنسبة 73.5% واليمن بنسبة 69.1%، وسجلت أعلى نسب الفقر المدقع في فلسطين بحوالي 30% وفي موريتانيا بنسبة 51.6%، وفي السودان بنسبة 49.9%، واليمن بنسبة 30.6%.

ويقدر إجمالي القوى العاملة في الوطن العربي عام 2021 بحوالي (136.5) مليون عامل، ونسبة العاطلين عن العمل منهم حوالي 11.3% أو ما يعادل 15.4 مليون عامل X معدل الاعالة 4 أفراد للأسرة= 61.6 مليون نسمة، منهم 18.6 مليون نسمة يعيشون ضمن الفقر المدقع أقل من 1.9$ في اليوم.

وحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة (الأسكوا) فإن عدد الفقراء في بلدان الوطن العربي عام 2022 بلغ 130 مليون شخص أكثر من 90% منه داخل البلدان العربية غير النفطية (الصومال تبلغ نسبة الفقر 73% من مجموع السكان، واليمن 48.6%، والسودان 48.5%، مصر 32.5%، فلسطين 29%، لبنان 27.4%، المغرب 20%، العراق 18.9%، الأردن 15.7%، تونس 15.2%) .

أما الدين العام في البلدان العربية (حسب الاسكوا) فقد وصل إلى مستويات تاريخية بلغت 1.4 تريليون دولار أكثر من نصفها يقع على البلدان العربية الفقيرة.

وحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد، “يقدر حجم ديون مصر الداخلية والخارجية ما يقرب من 395 مليار$، علماً بأن إجمالي الناتج المحلي المصري لعام 2020 بلغ (363) مليار دولار، أما الديون الداخلية والخارجية في السودان فقد بلغت 74 مليار $، في حين أن الناتج الإجمالي 38.6 مليار $، بالنسبة لتونس بلغ الدين الإجمالي46.7 مليار $، وناتجها الإجمالي 39.2 مليار $، وبلغت ديون المغرب الاجمالية حوالي 100.9 مليار $ عام 2020، علما بأن ناتجه الإجمالي 363 مليار$، وفي الأردن بلغت ديونه الاجمالية 37.3 مليار $ مقابل ناتج محلي مقداره 43.7 مليار $، وبلغت ديون لبنان حوالي 93 مليار$ عام 2020 وناتجه الإجمالي حوالي 53 مليار $”.

إن الدويلات النفطية التي تستحوذ على اكثر من 50% من اجمالي الناتج للوطن العربي كله رغم ان عدد سكانها اقل من 20%، لا تكتفي بعدم تقديم أية مساعدات تنموية أو دعم حقيقي لمصر أو فلسطين أو سوريا فحسب، بل تعمل أن تتولى صدارة وقيادة المشهد العربي الراهن – بصورة مباشرة وغير مباشرة – إلى جانب دورها في قيادة عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني، والمساهمة في إضعاف وتفكيك سوريا واليمن و ليبيا ، علاوة على تشجيع هذه البلدان للصراعات الدينية والطائفية وفق توجهات السيد الأمريكي، الأمر الذي يؤكد على صحة قولنا، بأن هناك تحالفاً موضوعياً بين احتكار السلطة عبر الشرائح الطبقية الكومبرادورية واحتكار الحقيقة عبر النظام المستبد أو الأنظمة الرجعية، فهما يكملان بعضهما البعض.

الآثار الاقتصادية للعولمة على الوضع العربي

أهم مؤشرات التراجع السياسية والاقتصادية والثقافية على الصعيد العربي:

استمرار تراجع القطاع الصناعي في مجمل الصناعات التحويلية العربية بسبب هيمنة الاسواق الرأسمالية على الأسواق العربية، رغم الامكانات العربية المتوفرة للتطور الصناعي، لكن الكومبرادور العربي لا يجد مصالحه سوى في استمرار خضوعه وعمالته للنظام الرأسمالي العالمي.

تراجع مساهمة قطاع الزراعة في الناتج العربي عام 2021 إلى 5.8% حسب التقرير الاقتصادي العربي، وهذا يعني استمرار تراكم عوامل العجز في توفير مقومات الاكتفاء الذاتي الغذائي العربي.

فقد تزايدت الفجوة الغذائية العربية من 29 مليار دولار عام 2010 إلى 33.6 مليار دولار عام 2019، والمفارقة هنا، انه في ظل هذا العجز وما رافقه من بطالة وافقار، فقد قامت الدول العربية، النفطية منها خصوصا، باستيراد اسلحة ومعدات عسكرية بلغت قيمتها –حسب العديد من المصادر- 3 تريليون دولار خلال العقود الثلاث الماضية، بما في ذلك 480 مليار دولار عن صفقة أسلحة تم تقديمها إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اثناء زيارته شهر حزيران 2017 للسعودية!! وهي اسلحة ومعدات لم تستعمل قط

التدني الشديد في معدلات الاكتفاء الذاتي العربي حيث انخفضت نسبة الاكتفاء الذاتي – حسب التقرير الاقتصادي 2021- من الحبوب الى 37 % والسكر المكرر إلى 45% والزيوت النباتية الى 51% بالإضافة إلى العجز في اللحوم 23.5% والبقوليات 35% والأرز 38% رغم وجود مساحات هائلة من الأراضي الصالحة للزراعة في السودان والجزائر والعراق مازلت دون أي اهتمام اقتصادي أو تنموي، فقد بلغت مساحة الأراضي الصالحة للزراعة والمتروكة دون استغلال عام 2019 حوالي 197 مليون هكتار في حين قدرت المساحة المستغلة بنحو 75 مليون هكتار أي بنسبة 38.1%من مساحة الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة ما يعني ان المناطق الريفية في جميع البلدان العربية من المناطق الأكثر إهمالاً.

الميــاه: الوطن العربي هو الأفقر في المياه بالمقارنة مع دول العالم الأخرى إذ يبلغ المعدل السنوي لنصيب الفرد من المياه حوالي 814 متر مكعب سنوياً بالمقارنة مع 7 آلاف متر مكعب للفرد على المستوى العالمي.

أما الصورة المستقبلية فهي أشد حدة إذ يقدر أن ينخفض معدل نصيب الفرد السنوي إلى 400 متر مكعب ( بدلاً من 814 م3 حالياً ) وستصبح (13) دولة تحت خط الفقر المائي.

تزايد مظاهر التخلف التي كرست القطعية مع مفهوم “الاستثمار في رأس المال البشري” فلا تعليم جامعي وفق منهجية علمية معاصرة تسعى الى امتلاك علوم التكنولوجيا الحديثة وفق الرؤى العقلانية الديمقراطية، ولا كفاءة في التخطيط والهندسة والإدارة لدى قوة العمل العربية التي ظلت متخلفة.

ضعف وهشاشة مخصصات البحث العلمي التي لا تزيد عن نصف بالمائة او ما يعادل 12 مليار دولار من أصل اجمالي الناتج المحلي العربي لعام 2020، البالغ 2.4 تريليون دولار، في حين أن هذه النسبة تزيد في دولة العدو الصهيوني عن 3% او ما يعادل 11.1 مليار دولار من الناتج الإجمالي الإسرائيلي الذي يقدر بحوالي 380 مليار دولار في نهاية 2021.

انخفاض –وهشاشة- حجم التجارة البينية العربية بحيث لم تتجاوز نسبة 8.3% طوال الأعوام السابقة، وهذا يعني دليلاً فاضحاً على حجم سيطرة الكومبرادور العربي على الاقتصاد العربي! (في هذا الجانب نشير إلى أن حجم التجارة البينية في الاتحاد الأوروبي وصل إلى 85% من إجمالي التجارة الأوروبية).

تزايد الفجوة في متوسط دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العربي، حيث يبلغ متوسط دخل الفرد (حسب التقرير الاقتصادي العربي الصادر عام 2021) حوالي 58634 دولار، أما على مستوى الدخل للفرد في كل بلد عربي، فهناك فجوه هائلة بين هذه المستويات، حيث يبلغ دخل الفرد رغم انخفاض اسعار النفط عالمياً، 53250$ سنويا في قطر والإمارات 40900 $ وفي الكويت 22838 $ والبحرين 23560 $ والسعودية 21050$ وعُمان 14750 $ وليبيا بسبب تفكك النظام، 2266 $ فقط (كان 9600 $ عام 2012)، والاردن 4050 $ والجزائر 3505$ وتونس 3401 $ واليمن 681$ ثم لبنان 2744 $ في حين بلغ في فلسطين أقل من 2000 دولار في قطاع غزة و3000 $ في الضفة الغربية وفي مصر 3606 $ وفي السودان 869 $ ما يعني اتساع الفقر والفقر المدقع في العديد من البدان غير النفطية العربية.

العولمة والصهيونية:

تاريخياً، لم يكن ممكناً للحركة الصهيونية ان تتبلور وتتحقق أي من أهدافها لولا تأييد ودعم النظام الاستعماري الرأسمالي، لكي يضمن مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية في الوطن العربي، ومع بداية ظهور العولمة الأحادية الامبريالية نهاية القرن الماضي، قدمت الامبريالية الامريكية مزيداً من الدعم العسكري للكيان الصهيوني.

ومع تطور النظام الرأسمالي إلى حالة العولمة الامبريالية الأحادية منذ تسعينات القرن الماضي على أثر انهيار الاتحاد السوفياتي، باتت الحاجة لعملية التفاعل العضوي والمصلحي المباشر بين الامبريالية والصهيونية في العولمة الراهنة، بحيث أصبحت الدولة الصهيونية شريكاً للإمبريالية، وتحولت إلى حالة امبريالية صغرى في الوطن العربي.

لكن هذا الاندماج الصهيوني في إطار العولمة الامبريالية هو – بكل موضوعية- حالة مؤقتة- لن تؤدي بدولة العدو الإسرائيلية إلى أن تصبح جزءاً من يشبح المنطقة العربية، فهي في كل الأحوال دولة وظيفية تم تأسيسها في خدمة النظام الاستعماري والامبريالي الذي قدم لها كل وسائل الدعم والتطور.

إن إنهاء الدولة الصهيونية والوجود الأمريكي في بلادنا، وتحقيق الاستقلال الكامل وإلغاء كافة مظاهر التبعية بكل أشكالها السياسية والاقتصادية في كل البلدان العربية هو شرط رئيسي لاستمرار وضمان استنهاض وتطور مجتمعاتنا على طريق الوحدة التدرجية المنشودة صوب تحقيق الهدف العظيم في إقامة المجتمع الاشتراكي الديمقراطي لكل أبناء هذا الوطن وفق أسس المواطنة والعلمانية وحق تقرير المصير.

لذا يجب الانطلاق من رؤية إستراتيجية تقوم على أن الدولة الصهيونية هي جزء من المشروع الإمبريالي، وليست كما يزعم البعض أنها “وجدت لتبقى” أو أنها “دولة اليهود” أو “أرضاً للميعاد”، فهذه كلها كذبة كبرى استخدمت غطاء لأهداف النظام الرأسمالي.

لذلك، فإن التحدي الكبير الذي يواجه شعوب أمتنا العربية اليوم يجب أن يبدأ بعملية تغيير سياسي جذري ديمقراطي من منطلق الصراع الطبقي ضد أنظمة التبعية والتطبيع والاستبداد والاستغلال والفساد التي تحكمها، وذلك انطلاقاً من وعينا بأن هذه الأنظمة شكلت الأساس الرئيسي في تزايد واتساع الهيمنة الإمبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية، كما شكلت الأساس الرئيسي لتزايد واتساع عنصرية وصلف وهمجية “دولة” العدو الإسرائيلي.

إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربية كلها، في هذه اللحظة الثورية، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني – من خلال أحزاب وفصائل اليسار الماركسي الثوري -تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة، والبحث عن مبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن.

إن اللحظة الراهنة من المشهد العربي – على الرغم من تفاقم مظاهر الانحطاط والتبعية -تؤكد على أن العولمة الإمبريالية الأمريكية وصنيعتها وحليفتها الحركة الصهيونية و “إسرائيل”، لم تنجحا في نزع إرادة شعوب الوطن العربي، في مسارها وتطور حركة جماهيرها الشعبية وتطلعها نحو التحرر والديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية، وبالتالي فإن هذه اللحظة تمثل المشهد الآخر –النقيض- الذي يقول أن المطلوب أمريكياً إسرائيلياً لم ولن يمتلك صفة الديمومة والاستمرار، لأنه لن يستطيع –مهما تبدت مظاهر الخلل في موازين القوة الراهنة- ترويض وإخضاع شعوب هذه الأمة.

العولمة وتأثير تطور التكنولوجيا والكومبيوتر والذكاء الاصطناعي:

إن تطور العولمة وتأثيرها المباشر في كافة المجتمعات بنسب متفاوتة، عبر استخدام الموبايل والكومبيوتر وبرامج الانترنت المتنوعة، خاصة الذكاء الاصطناعي، والعلم، والشفافية، وحرية المعلومات، ويدفع باتجاه الليبرالية السياسية (= الديمقراطية البرلمانية) من الوجهة الثقافية، لكن انفتاح الاسواق، وانفلات التطور الرأسمالي المفتوح، من خلال الشركات المتعددة الجنسية وشركات الكومبيوتر والأدوية والاختراعات المرتبطة بتطور أجهزة الموبايل الذي بات اليوم أحد أهم مظاهر العولمة الثقافية في إطار ما يسمى بـ”القرية الواحدة” ومخاطر تلك الأجهزة والبرامج على الثقافة الاجتماعية والأسرة، وتربية الأطفال، والشباب الذين يقضون معظم أوقاتهم أمام الكومبيوتر أو الموبايل.

الأمر الذي سيؤدي إلى المزيد من طموح الشباب والأطفال صوب المزيد من الاستقلالية بعيداً عن الأسرة، ما يؤشر على بداية الانهيار الأسري والمجتمعي، خاصة وأننا “نعيش اليوم في عالم سريع ومتغير، تتحكّم فيه القوة والتكنولوجيا، حيث يتسلّل خطر مستحدث، نبيل في الظاهر كالمساعدات الإنسانية، لكنه متوحش كاقتصاد السوق، أو أكثر توحشاً منه ربما.

حول الذكاء الاصطناعي:

الذكاء الاصطناعي هو أحد مجالات علوم الكمبيوتر والهندسة التي تهدف إلى إنشاء آلات ذكية. إنه إنشاء آلات يمكنها التفكير واستخدام العقل والتعلم كما يفعل البشر.

إن ثورة الذكاء الاصطناعي تفتح آفاقًا جديدة ومثيرة، لكن الاضطراب الأنثروبولوجي والاجتماعي الذي يجلبه في أعقابه يتطلب دراسة متأنية.

يقصد بمصطلح الذكاء الاصطناعي (AI)، تطوير الحواسيب لتُجاري الذكاء البشري، وله ثلاثة أقسام:

الذكاء الاصطناعي الضيق، وهو كل ما نراه حولنا، وهو تدريب الحواسيب لأداء مهام محددة وبكفاءة تفوق قدرة البشر على تنفيذها، لكنها لم تبلغ حد الذكاء البشري.

الذكاء الاصطناعي العام، وهو وصول الحواسيب لمرحلة تساوي فيه ذكاء البشر، ويتوقع أن نشاهد أولى ابتكاراته عام 2050.

الذكاء الاصطناعي الخارق، ويقصد به تفوق الأنظمة الحاسوبية على الذكاء البشري، ويتوقع أن يكون في عام 2090.

العلامة الفارقة التي حصلت في العقد الأخير ودعت الكثيرين للتخوف من مستقبل هذا الذكاء، هو تطوير خوارزميات التعلّم الآلي والتعلّم العميق، وهي تعليم الحواسيب نفسها بنفسها دون الاعتماد على الجنس البشري.

ولعلّ من أكثر السيناريوهات تشاؤمًا تجاه مستقبل الذكاء الاصطناعي هو سيناريو التفرد، الذي يقصد به وصول الآلات لمستوى الذكاء الاصطناعي العام “GIA”، أي باستطاعتها الوصول للذكاء البشري .

إن التكنولوجيا تعرض إنسانيتنا للخطر إلى درجة غير مسبوقة كما يقول محمد جودت خبير التكنولوجيا المصري والباحث في العلوم الهندسية ونظم الذكاء الصناعي، في كتابه الجديد: “الذكي المخيف”، حيث يُفترض أن الذكاء الصناعي أذكى من البشر.

كما يضيف “إن الذكاء الصناعي سيصبح خلال عقود أكثر ذكاءً من البشر بملايين المرات، وإن الحديث عن إمكانية وقف زحف نظم الذكاء الصناعي ليس سوى خرافة… أولاً، إنها قادمة. ثانياً، لا يمكنك إيقافها. ثالثاً، أن “الذكاء الصناعي السوبر” سيكون أذكى من البشر.

في هذا السياق تقول كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي بايدن إن الذكاء الاصطناعي قادر “على تحسين حياة الناس والتصدي لكبرى التحديات التي يواجهها المجتمع”، لكنه قادر أيضا “في الوقت عينه … على أن يزيد بشكل هائل المخاطر حيال الأمن والسلامة، وينتهك الحقوق المدنية والخصوصية، ويقوّض ثقة الجمهور وإيمانه بالديمقراطية”.

في نهاية آذار/مارس2023، طالبت أكثر من ألف شخصية بأن يتم ولمدة ستة أشهر وقف الأبحاث على الذكاء الاصطناعي من بينهم إيلون ماسك الذي يعمل أيضًا على تطوير شركة للذكاء الاصطناعي والمفكر يوفال نوا هراري المقتنع بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدمر البشرية.

حول إمكانية مجابهة العولمة الإمبريالية:

“فبعد مرور عقود عدّة على الانتشار التدريجي للعولمة في كافة أنحاء العالم، لا بدّ لنا من التفكّر في مفهومها، وزيادة مدى الوعي بظواهرها وتأثيراتها، لتكوين وجهة نظر موضوعية تجاهها، ولاستيعاب قوّة متغيّراتها، واختيار الوسائل الأساسية لمواجهة تحدّياتها، لنعرف تمامًا ما يجري في العالم، لندرك أين نحن منه، ونحدّد موقعنا الفعلي على خريطته، خصوصًا وأنّ المنطقة العربية، التي تحتلّ مكانة حيوية في العالم، بسبب ثرواتها النفطية وإمكاناتها البشرية، تعدّ من أبرز استراتيجيات الأطراف التي ستصيبها تحوّلات واسعة النطاق، في إطار العولمة الجديدة”.

لذلك، فإن من حقائق هذا العصر، أن العولمة، بمثل ما أدت إلى عولمة التحديات، فإنها قد تعزز ما يمكن أن يسمى بعولمة الاستسلام في بلادنا وفي العالم الثالث عموماً، والمؤشرات على ذلك كثيره في اوضاعنا الحالية.

من هنا فإن الدعوة إلى مقاومة عولمة الاستسلام، تمثل أحد أبرز عناوين الصراع العربي الراهن من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية -، مدركين أن أحد أهم شروط هذا التحدي العربي لهذه الظاهرة هو امتلاك تقنيات العصر ومعلوماته وفق مفاهيم العقل والعلم والحداثة، في إطار أيدلوجي تقدمي ينتمي إلى الواقع العربي ويتفاعل معه ويعبر عنه في الممارسة العملية من جهة، وإلى الاشتراكية والفكر الماركسي كضرورة تتطلع إليها شعوبنا العربية كطريق وحيد للخلاص والتحرر الوطني والقومي والاجتماعي من جهة أخرى، إنها مهمة لا تقبل التأجيل، يتحمل تبعاتها – بشكل مباشر – المثقف التقدمي الملتزم في كل أقطار الوطن العربي، إذ أنه في ظل استفحال التخلف وعدم تبلور الحامل الاجتماعي الطبقي النقيض للعولمة وتأثيرها المدمر، لا خيار أمام المثقف العربي سوى أن يتحمل مسئوليته – في المراحل الأولى – منفرداً، وهذا يستلزم – كخطوة أولى – من كافة الأحزاب والقوى والأطر التقدمية أن تتخطى شروط أزمتها الذاتية.

والسؤال الآن: كيف وصل العرب في المرحلة الراهنة إلى هذه الحال الشديدة الانحطاط التي أدت إلى اعادة انتاج وتجديد التخلف بكل مضامينه الاجتماعية والثقافية، وأين يكمن الخلل؟

أجتهد هنا في الإجابة، بقولي، أنه يكمن في طبيعة التطور الاجتماعي الاقتصادي التاريخي المشوه والمتخلف، وخصوصاً في مرحلة الانفتاح والبترودولار، التي وفرت المناخ الملائم لإعادة تجديد وإنتاج الأفكار والحركات السلفية الغيبية المتزمتة، تمهيدا لهيمنتها على صعيد الفكر والمجتمع العربي، انسجاما مع تزايد تبعية وتخلف وارتهان المجتمعات العربية للنظام الإمبريالي، بما أدى إلى قطع الطريق على المعرفة العقلانية والسلوك الديمقراطي لحساب التخلف والأفكار الرجعية السلفية.

الأمر الذي يفرض على القوى الديمقراطية واليسارية أن تبادر إلى الخروج من ازماتها الفكرية والسياسية والمجتمعية لكي تفرض وجودها وانتشارها عبر بديلها الديمقراطي القادر وحده على كسر وتجاوز حالة الاستقطاب المرعبة بين قوى اليمين والتخلف والتبعية والاستبداد والخضوع صوب مستقبل عربي تحكمه معايير التنوير والمواطنة والثورة الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.

 

[1] سمير أمين -عودة الفاشية فى ظل أزمة الرأسمالية واﻻمبريالية المعاصرة- الحوار المتمدن – 2021 / 8 / 15

قد يعجبك ايضا