د. أمين محمود يكتب: الحل القومي للمسألة اليهودية في اطروحات موسى هس




د. امين محمود* ( الأردن ) – الإثنين 14/9/2020 م …
* وزير أردني أسبق …

ترك موسى هس انطباعا عميقا في الفكر الصهيوني، فقد نشأ نشأة دينية تقليدية مثل غالبية من سبقه من المفكرين اليهود، غير انه ما لبث ان ابتعد عن التقاليد اليهودية الدينية لدى التحاقه بجامعة بون حيث امضى معظم وقته في دراسة الفلسفة ونشأت خلالها علاقة وثيقة بينه وبين كارل ماركس الذي كان طالبا في الجامعة انذاك.

غير ان من اهم المفكرين الذين تأثر بهم هس في هذه المرحلة من حياته كان الفيلسوف اليهودي الهولندي بينديكت سبينوزا ( Benedict Spinoza ) . وقد تبنى هس الكثير من آراء هذا المفكر خاصة في كتابه الاول ( تاريخ الانسانية المقدس ).

ويلاحظ في هذا الكتاب تمجيد هس للدين المسيحي واعتباره دين العصر الذي سيوحد الشعوب، في حين ان الدين اليهودي يسعى فقط لتوحيد * شعب * واحد دون غيره من الشعوب ، ولذا فان هس دعا الى تخلي اليهود عن فكرة الاله الواحد المرتبط بهم دون عيرهم ، واصر على ان الاله الحقيقي هو اله الانسانية عامة ، كما انه دعا اليهود ايضا الى التخلي عن اسطورة * شعب الله المختار * والاندماج في الحياة الاوربية الحديثة كي لا يظلوا تاىهين في الدنيا * شعب اشباح * يتجول عبر القرون التاريخية روحا بدون جسد ( Waiter Laqueur , A History of Zionism , p. 48) .

وقد انضم هس في بداية نشاطه السياسي الى الحركة الاشتراكية الاوروبية حيث اخذ يتعاون مع ماركس واتجلز في تنظيم الحركات العمالية في المانيا . غير انه ما لبث ان اختلف معهما بعد صدور البيان الشيوعي . وكانت فكرة حتمية الصراع نقطة الخلاف الاساسية لدى هس ، فهو اعتبر العالم مكونا من عناصر واعراق بشرية وليس بالضرورة من طبقات واذا كان الصراع حتميا فانه يكون بين العناصر ، والعنصر المتفوق هو الذي يربح الجولة . وفِي اعقاب تخليه المفاجئ عن دعوة ادماج اليهود في المجتمعات الاوروبية المسيحية ، جاءت المفاجاة الكبرى حين اخذ هس يردد مقولة ان العنصر اليهودي اكثر عناصر البشرية تفوقا وذكاء ، وعلى كاهله تقع مسوولية انقاذ البشرية من كل ما تعانيه من ظلم واضطهادات وكوارث . وهكذا تحول هس كغيره ممن سبقه من المفكرين اليهود من موقع يتبنى فيه المنطق الاشتراكي الى موقف معاكس تماما يتبنى فيه المنطق العنصري الشوفيني المتعصب ( Moses Hess. ,Rome and Jerusalem , p. 30 ) .

وفِي عام ١٨٦٢ اصدر هس كتابه المشهور باللغة الالمانية * بعث اسراىيل * والذي سرعان مااصبح يعرف فيما بعد باسم * روما والقدس * . وقد جاء الكتاب على شكل رساىل وملاحظات موجهة الى سيدة مجهولة فقدت انسانها الذي احبته وتسلل الياس الى قلبها فجاء من يواسيها ويبعث الامل في حياتها ، ويبدو ان هس كان يتخذ من هذه المراة المجهولة رمزا * للشعب اليهودي * ومن ذلك الحبيب التاىه رمزا ل * ارض الميعاد * ، وحصيلة هذه الرساىل والملاحظات كانت البحث في افضل السبل لاعادة الجمع بين السيدة وحبيبها او بتعبير اخر *اعادة * الصلة بين اليهود وفلسطين . ولقد تضمنت هذه المعادلة الاستعمارية التي وردت على شكل صورة رومانسية اهم اسس العقيدة الصهيونية والكثير من الافكار التي تبنتها فيما بعد المنظمة الصهيونية العالمية .

استهل هس كتابه بقوله : … كانت غربة طويلة استمرت ما يزيد على العشرين عاما … وعدت بعدها الى شعبي واهلي لاشارك من جديد في افراحهم واحزانهم ، امالهم وذكرياتهم ، تلك المشاعر التي خلت نفسي قد نجحت في كبتها عبر السنين الطويلة ، بعثت لي الحياة من جديد … انها المشاعر المستمدة من قوميتي التي ترتبط بتراث اجدادي وبالارض المقدسة الخالدة … واورشليم الغالية * ( Hess , pp. 52-53 ) .

وانتقل هس بعد ذلك الى الحديث عن الاسباب التي جعلته يتخلى عن غربته ويعود الى * شعبه*
فاشار الى ان مبعث ذلك هو ازدياد حدة * المعاناة اليهودية * نتيجة ازدياد النزعة اللاسامية في المانيا، وهي نزعة كانت تعكس- في رايه – عمق كراهية الالمان لا لليهودية كدين فقط وانما لليهود* كعنصر *. او *كعرق * ايضا ، وبالتالي فان المحاولات التي كانت تقوم بها بعض الجماعات اليهودية للاندماج في المجتمع الالماني اعتبرها هس محاولات عقيمة وعديمة الجدوى لن تنقذ اليهود من * معاناتهم * . والغريب ان هذا الموقف الذي اتخذه هس من فكرة الاندماج جاء مناقضا تماما لما كان ينادي به من قبل .

ويلاحظ ان معظم معاصري هس من المفكرين الاوروبيين الاشتراكيين كانوا يتحدثون عن معاناة مختلف الطبقات العاملة والفقيرة في شتى المجتمعات الاوروبية الراسمالية ولَم يعيروا قضية اللاسامية اهتماما كبيرا ولَم تشكل بالنسبة اليهم قضية مصيرية .وراوا ان رفع الظلم عن كاهل جميع هذه الطبقات سواء كانت يهودية ام غير يهودية لن يتحقق الا عن طريق الاتيان بحكومات شعبية حقيقية ، اما التركيز على المعاناة التي تعرضت جماعات فقيرة معينة لكونها يهودية دون الاهتمام بالجماعات الفقيرة الاخرى غير اليهودية فهذا في حد ذاته تشجيع غير مباشر للنزعة اللاسامية وتعميق لجذورها في المجتمعات الاوروبية .

اما الحل الذي اقترحه هس لمعاناة فقراء اليهود او ما سمي * بالمسالة اليهودية * فكان العمل على تهجير هذه الجماعات خارج اوروبا صوب فلسطين ، او بتعبير اخر تبني المشروع الصهيوني الذي شجعته البرجوازية اليهودية التي كانت تسعى للتخلص من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء اوضاع الفىات اليهودية الفقيرة التي كانت تفد الى دول اوروبا الغربية من روسيا وباقي اجزاء اوروبا الشرقية . كما ان نجاح تطبيق هذا الحل بانشاء كيان يهودي سياسي في فلسطين تحت حماية احدى الدول الاوروبية الكرى يهيء المجال لوجود مستوطنين عملاء لتلك الدولة يتفانون في خدمة مصالحها الاستعمارية ويدراون عنها الاخطار التي تحدث بها . دبالاضاقة الى ذلك ، فان هذا الحل الذي تماشى تماما مع مصالح الامبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية ، توفر فيه ايضا امكانية القضاء على مبررات وجود النزعة اللاسامية التي كان من الممكن ان توثر على مصالح البرجوازية اليهودية .

ومن اجل اثارة اهتمام وحماس الفىات اليهودية الفقيرة للمشروع الصهيوني لجا هس الى استخدام اامنطق الامبريالي الغربي الذي كان ساندا في ذلك العصر . وكان من اهم مكونات ذلك المنطق القومية الشوفينية المتعصبة ، واسطورة الجنس النقي ، والرسالة الحضارية التمدينية ( Hess , p. 145 ) . وقد تصور هس انه باستعمال نزعة * القومية اليهودية * يمكنه التخلص من اي خلاف او صراع قد يحدث بين الفىات اليهودية الفقيرة وتلك الفىات اليهودية البرجوازية وذلك بما توفره الرابطة القومية من ارضية مشتركة لهذة الفىات بحيث تفتح امامها افاق التعاون المشعرك . وقد عبر هس عن ذلك بقوله : * ستجتمع الطبقات اليهودية جميعها على ارضية مشتركة وهي : القومية اليهودية سواء التقليدية منها ام التقدمية ، الفقيرة ام الغنية * ، وبقوله ايضا : * … ان تعميق الرابطة القومية المشتركة يوفر الركيزة الاساسية لاقامة علاقات افضل واكثر تقدمية بين مختلف الشراىح اليهودية * ( Hess , ibid ) . وقد استغل هس المعتقدات الدينية المتاصلة بين يهود اوروبا الشرقية ، لحثهم على الهجرة الى فلسطين باعتبار ذلك بمثابة فريضة دينية ، تماما كما فعل الحاخام اليهودي زفي كالبشر حينما اكد ان لا مجيء للمسيح المنتظر ما لم يبدا اليهود مسيرة * العودة * الى فلسطين *لاستعادتها* باية وسيلة ممكنة والاعداد لمجيء المسيح ( Hess ,ibid ) . وتساءل هس لم لا يقتدي اليهود بالشعب الايطالي ويتخذون من تجربته الوحدوية نموذجا يحتذون بها . ويبدو واضحا ان هذه التجربة الايطالية كان لها تاثير عميق على هس بحيث نراه يختار من وحيها عنوانا لكتابه المشهور * روما والقدس * .وكان هس يرى في مازيتي شخصية تستحق الاعجاب والمباهاة من اليهود .وكان مازيتي بدوره يحث اليهود على انشاء * وطن قومي * لهم . ومما قاله مازيتي في هذا الشان : * … بدون وطن تبقون بلا اسم ، بلا علاقة مميزة ، بلا صوت ولا حقوق … لا تخدعوا انفسكم بامل التحرر من ظروف اجتماعية مجحفة ما لم تنشىوا لانفسكم وطنا اولا ، لانه حيث لا يوجد وطن لا يوجد اجماع على راي يمكنكم الرجوع اليه …* ( نقلا عن صادق العظم ، دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية ، ( ص ٩٢-٩٣ ) .

اما بالنسة للعنصرية فان هس اعتبر العالم مكونا من عناصر واعراق بشرية ، كل عنصر او عرق يتميز عن الاخر بخصائص عقلية وفسيولوجية لا تتغير بتغير الظروف المحيطة . وهذه الاعراق مرتبة تصاعديا حسب افضليتها وذلك في ضوء محافظة كل عرق منها على نقاوته وتفوقه . وقد اشار هس الى ذلك بقوله : * يعتبر العرق اليهودي من اواىل الاعراق البشرية ، وقد حافظ على نقاوته عبر العصور التاريخية المتلاحقة * . ولعل هس باستعماله هذه النظرية كان ينشد غرس ثقة اليهود بانفسهم عن طريق اقناعهم *بنقاوة *عنصرهم * وتفوقهم على العناصر البشرية الاخرى * . وانتقل هس بعد ذلك ليتحدث عن الرسالة الحضارية * للشعب اليهودي * لتمدين وتثقيف شعوب اسية وافريقية * المتخلفة * . واعتبر هذا * الشعب * بمثابة * شمس الشعوب * الذي انيطت به مهمة انقاذ العالم وارشاده الى طريق * الخير والسلام * .
ان من الواضح ان هذه الاطروحات والمفاهيم التي تبناها هس تحمل في طياتها منطقا استعماريا طالما استعملته الدول الاوروبية الكبرى في تبرير حركاتها التوسعية وتسلطها على الشعوب الاخرى خارج القارة الاوروبية . وقد تبنت * الدولة اليهودية * فيما بعد نفس هذا المنطق الاستعماري ونفس هذه المفاهيم لتبرير توسعها المستمر على حساب الدول العربية المجاورة .

ويبدو ان هس كان متاثرا بنظرية روما الثالثة التي كانت ساندة في روسيا القيصرية خلال القرنين السابقين لعصره . وكان مضمون هذه النظرية – كما عرضناه في مقال سابق – يشير الى ان روما كانت في نظر العالم المسيحي المركز الحضاري للانسانية ومقر المرجعية الدينية للبشرية ثم ما لبثت القسطنطينية ان احتلت هذا الموقع عند اتباع الكنيسة الارثوذوكسية ولاسيما الروس منهم حيث اطلقوا عليها لقب روما الثانية وذلك في اعقاب الانشقاق الكبير عام ١٠٥٤ بين الكنيستين الارثوذوكسية والكاثوليكية ، وفِي اعقاب سقوط القسطنطينية عام ١٤٥٣ على يد العثمانيين اخذت موسكو بدءا من عهد بطرس الاكبر تعتبر نفسها روما الثالثة خلفا للقسطنطينية واصبحت في نظر الروس والاوروبيين الشرقيين مركزا لعالمهم دينيا وحضاريا ، وقد شكلت هذه النظرية احد المبررات التي استعملها الروس لتبرير بسط نفوذهم وتوسعهم المستمر في تلك الفترة على حساب المناطق المجاورة لها .

كان هس معجبا بالدور الذي قامت به فرنسا في لبنان خلال فتنة الستين واعتبره دورا انسانيا حضاريا ساهم في تهدىة الامور في المنطقة ، كما استعرض الجهود التي كانت تقوم بها فرنسا من اجل النهوض بالمستوى الاقتصادي والثقافي * لسكان هذه المنطقة. وبين هس من ناحيةاخرى ، اهمية شق قناة السويس وبناء خط سكة حديد بين اوروبا واسية عبر المشرق العربي ومنتهيا بالهند والصين . وركز هس على الدور الحيوي الذي يمكن ان يلعبه المستوطنون اليهود في تقديم المساعدة والعون لفرنسا لانجاز هذه المشاريع الضخمة وتوفير الحماية اللازمة لها . وقد وجه نداء الى اليهود دعاهم فيه الى الانضواء تحت الراية الفرنسية ، وكان مما ورد في هذا النداء : * …. ان بمقدورفرنسا مساعدة اليهود على تاسيس مستعمرات تمتد من السويس الى القدس ومن ضفاف الاردن الى شاطىء البحر المتوسط * . وقد اشار هس في اكثر من موقع في اطروحته الى قيمة المكاسب الاستثمارية التي كان بمقدور البرجوازية اليهودية الحصول عليها من خلال تبنيها لعملية الاستيطان اليهودي متحالفة في ذلك مع الامبريالية الفرنسية التي كانت تسعى للسيطرة على تجارة الشرق واقتصادياته .

* اما بالنسبة لتاسيس * الدولة اليهودية * فقد نادى هس بتحقيق ذلك من خلال تحالف يهودي فرنسي . ولعل اختياره لفرنسا يعود الى نفوذها القوي انذاك في منطقة الشرق العربي، فهي كانت تتمتع بنفوذ قوي في مصر اضافة الى نفوذها المتزايد في بلاد الشام من خلال الطاىفة المارونية التي تدخلت فرنسا عسكريا في لبنان لانقاذها وحمايتها خلال فتنة الستين . كما ان فرنسا كانت في راي هس ، اكثر دولة اوروبية مهياة في تلك الفترة للمساهمة بشكل فعال في توطين اليهود في فلسطين خاصة وانها بدات تسيطر على القسم الاكبر من تجارة الشرق والعديد من المواقع الاستراتيجية الواقعة على طريقها . وقد اشار هس الى انه بعد ان ينتهي العمل في شق قناة السويس فان مقتضيات التجارة العالمية تتطلب اقامة المستودعات والمستوطنات على طول الطريق التجاري الممتد عبر الشرق العربي شرقا باتجاه الهند والصين ، بحيث تتمكن هذه المستوطنات من القضاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد الواقعة على هذا الطريق ، * وتحويلها الى دول متحضرة تومن بشرعية القانون ، ولن يتم ذلك الا في ظل حماية عسكرية من جانب الدول الاوروبية وبالذات فرنسا التي كانت دبلوماسيتها الحكيمة تخطط على الدوام لضم الشرق الى اقاليمها الحضارية …* . كما ركز هس على حجم الفاىدة التي ستعود على فرنسا من وراء انشاءدولة يهودية في فلسطين ، معللا ذلك بان من مصلحة فرنسا ان يستوطن الطريق التجاري المودي للهند والصين شعب موال تماما لمصالحها الاقتصادية والحضارية ، ولا تتوفر هذه الخصائص لدى شعب اكثر من * الشعب اليهودي * لتادية هذه المهمة خدمة للمصالح الفرنسية .

* ويبدو ان السياسة الفرنسية في ذلك الوقت كانت تسعى الى احكام سيطرتها على المشرق العربي من خلال محاور ثلاثة : المحور الاول كانت تمثله القوة المارونية في لبنان ، والمحور الثاني كانت تمثله المحاولات الفرنسية التي قام بها فرديناند ديلسبس لاقناع حكام مصر بمنح فرنسا حق توطين المناطق المحيطة بقناة السويس بمستوطنين اوروبيين يوفرون الحماية اللازمة لهذا المرفق الحيوي . اما المحور الثالث فكان المفروض ان تمثله القوة الاستيطانية اليهودية في فلسطين . غير ان سياسة المحاور الفرنسية هذه لم تنجح نظرا لانحسار النفوذ الفرنسي عن المنطقة في اعقاب هزيمة فرنسا المنكرة على يد القاىد الالماني بسمارك في موقعة سيذان عام ١٨٧٠ .

قد يعجبك ايضا