الحياد ومخاطر الدعوة اليه في لبنان / العميد أمين محمد حطيط .

العميد أمين محمد حطيط .( لبنان ) – الجمعة 17/7/2020 م …

 في خضم ما يعانيه لبنان من حصار أميركي، وانقسام داخلي ومخاطر متعددة العناوين من صحية (كورونا) ومعيشية مع تفشي البطالة وتفلت الأسعار، ووضع اقل ما يقال فيه انه من أسوأ ما شهده لبنان منذ أنشائه بقرار من المفوض السامي الفرنسي في العام 1920، في خضم هذا الوضع المأسوي البائس أطلق البطريرك الماروني لأنطاكية وسائر المشرق من لبنان مواقف تتعلق بواقع لبنان ومستقبله بناها على مقولة “الشرعية المصادرة ” داعيا إلى حياد لبنان، الحياد الذي يرى فيه علاجا لكل ما يعتور لبنان من ماسي وما يتهدده من مخاطر. فهل الحياد يشكل فعلا علاجا لأمراض لبنان ويمكن اعتماده؟




للإجابة على هذا السؤال نبدأ أولا بالتوقف عند معنى الحياد و طبيعته و شروطه المحددة في قواعد القانون الدولي العام و قانون النزاعات المسلحة و العلاقات الدولية ، تلك القواعد التي تقول بان حياد الدولة يكون واحدا من ثلاثة :أولها الحياد العسكري ، او الحياد المؤقت و ثانيها الحياد الاتفاقي او الحياد الدائم ، و ثالثها الحياد الإيجابي  عبر الانضواء في تكتل دولي محايد بين معسكرين دوليين متصارعين و لذا يسمى “عدم انحياز “، و قد تبلور عمليا في حركة عدم الانحياز التي شكلها في منتصف القرن الماضي الثالوث المصري الهندي اليوغسلافي ( عبد الناصر ، نهرو ، تيتو) و كان لبنان عضوا فيها و لا يزال رغم أفول شمسها و تراجع دورها حتى شبه الاضمحلال بعد تفكك الاتحاد السوفياتي و ما سبقه من غياب القادة التاريخين الثلاثة التي شكلوها ، و بالتالي ان الدعوة إلى الحياد المتقدم الذكر و المسمى أيضا بالحياد الإيجابي لا يعني باي حال هذه الحركة او ما يشبهها و يبقى ان تكون الدعوة إلى حياد مؤقت او دائم .

بيد ان الحياد المؤقت او كما يسمى أيضا الحياد الحربي هو موقف تتخذه دولة ما بإرادتها المنفردة التي لا تتوقف عند إرادة الأطراف المتواجهة في نزاع عسكري، موقف تحفظ فيه الدولة علاقتها السلمية العادية بكل الأطراف دون ان تنحاز لأي منهما ودون ان يشكل أي منهم خطرا عليها او يقتحم إقليمها لاستعماله في الحرب ضد الطرف الأخر. أي تعلن الدولة حيادها بنفسها وتتخذ من التدابير ما يقفل إقليمها بوجه كافة الأطراف، وتحفظ علاقاتها السلمية المتوازنة مع الجميع، فهل هذا ممكن في حالة لبنان الراهنة؟

قبل الإجابة نعرض للحياد الدائم او الحياد التعاقدي ، الذي يختلف عن الأول كونه لا يمكن ان يبرم بإرادة منفردة او يعطي مفاعيله دون ان ترضى الدول الأخرى به اقله الدول التي لها مصالح مع الدولة المزمع إعلان حيادها , فاعلان هذا الحياد و أحداث مفاعيله يشترط عرضا (إيجاب) من الدولة ، و قبولا من الدول الموجه اليها ثم إبرام معاهدة يوقعها الجميع تنشئ حالة حياد الدولة المعنية .فاذا قامت هذه الحالة وجب احترامها ،او فرض حمايتها لذا يجب على  الدولة المعنية ان تمتلك القوة العسكرية الكافية للدفاع عن نفسها و عن حيادها .

فاذا راجعنا حالة لبنان على ضوء ما تقدم نجد ان إقامة حياد مؤقت او دائم تتطلب في الحد الأدنى إرادة وطنية جامعة تقرره، وقوة عسكرية مانعة لتحميه، وعلاقة سلمية مع كل دول الجوار والإقليم موسومة بعدم وجود صراعات معها حول أي من المصالح، ويضاف اليها في حالة الحياد الدائم، قبول الدول المعنية به للتمكن من توقيع اتفاقية الحياد كما تفرض قواعد القانون الدولي العام، فهل تتوفر هذه الشروط في الحالة اللبنانية؟

نبدأ بالإرادة الوطنية الجامعة ،ونرى ان اللبنانيين منقسمون عاموديا بين فئتين رئيستين ، فئة تفاخر بالانتماء إلى الأمة العربية و تعتبر نفسها جزءا منها ، و فئة لا تستسيغ فكرة الانتماء و لا ترتاح إلى ممارستها ، و يضاف إلى ما تقدم وجود من يعيش انتماءه إلى الأمة الإسلامية أيضا فضلا عن العربية و هؤلاء يرفضون فكرة الحياد بين امتهم و بين أعدائها لانهم يعتبرون مصالح الأمة هي مصالحهم ، و هنا نذكر بموقف هؤلاء المعترض أصلا على  فكرة قيام لبنان المستقل عن محيطه و يروون ان قبولهم بالدولة المستقلة بعد زمن لا يعني تنازلهم عن انتمائهم ، و عليه لا ينتظر من هؤلاء القبول بفكرة الحياد التي تترجم بالنسبة لهم انسلاخا عن جسم الأمة عربية كانت او إسلامية ، و اعتقد ان صاحب طرح الحياد انتبه إلى هذه الثغرة و لطف طرحه بالقول ” بالحياد مع الاستمرار بالاهتمام بالقضايا العربية المشتركة “. ولكن هذا التلطيف وهذا التراجع لا يغني ولا يسمن فالحياد له قواعده وضوابطه فأما ان تلتزم ويكون الكيان محايدا او لا تلتزم ولا يكون، أما سياسة “النصف نصف ” فهي تلاعب على الألفاظ لا يعتد به، ولنقل صراحة ان تشكل أجماع لبناني على الحياد بمفهومه القانوني امر مستحيل الآن وهنا ننوه بموقف الرئيس العماد ميشال عون الذي واجه به صاحب الطرح قائلا “الحياد يستلزم وفاقا وطنيا” كلمة مختصرة قد تكون كافية لنعي الطرح كله.

أما الشرط الثاني المتمثل بامتلاك القوة الدفاعية اللازمة لحماية الحياد، قوة تكون وحيدة لا شريك لها على الأرض اللبنانية أي إقامة الجيش القادر على حماية لبنان ، فهذا امر شبه مستحيل الأن و يصعب تحققه في المستقبل في ظل 3 عوامل تحكم الوضع اللبناني أولها لقرار الغربي بمنع لبنان من امتلاك تلك القوة التي تقيد التحرك الإسرائيلي و تمنع إسرائيل من تحقيق مطامعها في لبنان ، ثانيها وضع لبنان المالي الذي يحول دون شراء الأسلحة و التجهيزات اللازمة لبناء منظومة دفاع مجدي، والثالث انقسام لبنان حول فكرة التحول إلى أسواق السلاح  البديلة ، و بالتالي يجد الجيش اللبناني نفسه محاصرا بضيق ذات اليد ، والقيود الغربية ، ورفض داخلي للبدائل ما يبقيه من غير سلاح يعتد به لمواجهة المخاطر و تبقى القوة الدفاعية الرسمية الكافية حلما لا يطال و تكون الحاجة إلى الحل الاحتياطي المتمثل بالمقاومة الشعبية أمرا لا مناص منه كما يرى رئيس الجمهورية العماد عون أيضا ، الأمر الذي يرفضه صاحب فكرة الحياد و هنا انقسام أخر.

أما شرط إقامة علاقة سلمية متوازنة مع دول الإقليم لا عداء فيها فانه أيضا امر مستحيل فجيران لبنان اثنان دولة سورية الشقيقة، والكيان الصهيوني العدو الغاصب. و اذا كانت العلاقة مع سورية محكومة بعوامل الأخوة و الصداقة و بالاتفاقيات المبرمة معها و التي تنص على أنها علاقات مميزة كما ورد في اتفاقية الطائف ، فان العلاقة مع إسرائيل عكس ذلك تماما، فإسرائيل عدو للامة التي ينتمي اليها لبنان و لا يغير من طبيعة هذه العلاقة أقدام بعض العرب على الصلح و التطبيع معها ، كما أنها عدو للبنان تغتصب حقوقا و تطمع بحقوق و مصالح  في البر و البحر أرضا و ثروة و تنتهك  السيادة و تهدد مستقبل لبنان وجودا ودورا ووظيفة .و أي حياد يطرح قبل ان نستنقذ حقوقنا و مصالحنا من براثن إسرائيل يكون فيه انتحارا ذاتيا و خدمة للعدو ، حقيقة وعاها صاحب الطرح كما يبدو و المح اليه متأسفا بالقول “للأسف …إسرائيل عدو ” و طبعا اسفه لا يقدم و لا يؤخر في طبيعة العلاقة بل انه ينسف فكرة الحياد التي يطرحها .

وأخيرا نصل إلى فكرة قبول الحياد من قبل مجموعة الدول المعنية بالعلاقة مع لبنان، وهو قبول يشترط استباقه بأمرين، تصفية العلاقة والنزاعات حول المصالح البينية ثم عرض (إيجاب) يتقدم به لبنان من اجل ان يستدعي القبول والموافقة عليه من قبل الطرف الأخر. وهنا نجد ان ما يحكم علاقة لبنان بإسرائيل جملة ملفات خطيرة منها توطين الفلسطينيين والخروج من الأرض اللبنانية المحتلة والاعتراف بالحدود البرية دون مناورة لإعادة ترسيمها والإقرار بالحدود البحرية دون الطمع بمساحات من منطقة لبنان الاقتصادية، فهل تقر إسرائيل بهذه الحقوق؟ نسارع للقول طبعا لا وها هي صفقة القرن تؤكد بكل وضوح ان الحل الذي تطرحه يطيح بمصالح لبنان تلك وبالتالي أي سلام يبتغى مع إسرائيل في ظل أطماعها تلك؟ أما سورية فيكفي ان نعود معها إلى مواقف سياسية أعلنت من قبل مسؤوليها لنجد أنها كلها تقطع برفض القبول بحياد لبنان ما يقود إلى القول ان الجوار غير جاهز للقبول بهذا الحياد أي يتعذر قيام الحياد الاتفاقي او الحياد الدائم.

حقائق اعتقد ان على من طرح الحياد ان يتوقف عندها، وبالتالي يكون من الأفضل له وللبنان ان يتجنب طرحا مستحيلا في مثل هذا الظرف بالذات إذ لن يكون للطرح أثر او مفعول ألا زيادة الانقسام والتشرذم وإضافة ملف خلافي جديد تستفيد منه أميركا في خطتها الرامية لإنتاج فراغ سياسي مترافق مع الحصار والتجويع المنتج للفتنة والاقتتال الداخلي والممهد لعدوان إسرائيلي على لبنان.

قد يعجبك ايضا