د. أمين محمود يكتب: دردشة تاريخية حول ( اعتراف الإتحاد السوفياتي بالكيان الصهيوني عام 1948 م )




د. امين محمود ( الأردن ) – الخميس 4/6/2020 م …
* بين يدي المقال … كتب عاطف زيد الكيلاني … 
بداية ، لا بدّ من توجيه الشكر للدكتور أمين محمود على هذا المقال الهامّ .
لا أدري كيف يمكن لبلد يتولّى السلطة فيح الحزب الشيوعي ( كالإتحاد السوفياتي ) ، أن يقع في مثل هذا ( الفخّ ) الذي نصبته له الأيادي  القذرة للصهيونية العالمية ومن وراءها القوى الإمبريالية ، قديمها وحديثها.
عندما كنت أدرس في موسكو أوائل سبعينيات القرن المنصرم، أتيحت لي ( وبالتأكيد لغيري ) أن أستمع إلى شروحات طويلة وتبريرات لا تنتهي حول إعتراف الإتحاد السوفياتي ، وكنت وغيري من الطلاب العرب والفلسطينيين نمضي ساعات طويلة ومتواصلة في النقاش معهم ، ( ومنهم مسؤولون في الحزب وأخصائيين في العلوم السياسيو وأعضاء في أكاديمية العلوم ومعهد الإستشراق الذي كان عميده يفغيني بريماكوف الذي أصبح رئيسا للوزراء.
كانت تبريراتهم واهية لا تقوى على الصمود طويلا أمام الحقيقة المظلمة التي ارتكبها الإتحاد السوفياتي باعترافه بالكيان الصهيوني فو إعلان قيام ( دولة اسرائيل ).
وبالتأكيد، ليس عذرا وليس مقبولا أن يدّعي الإتحاد السوفياتي ( الشيوعي؟! ) تلك الإدعاءات كالتي أوردها الدكتور أمين في ثنايا المقال حول أسباب اعترافه بالكيان.
وتبقة المصيبة الكارثية الأكبر ، عندما تجد من ( الشيوعيين العرب والفلسطينيين بشكل خاص ) يبرر فعلة الإتحاد السوفياتي تلك.
جميل جدا ، ومفيد أن تفضل المفكر الدكتور أمين محمود بالكتابة عن هذا الموضوع ، لعلّه بهذا يكون قد رمى حجرا في المياه الراكدة لإعادة النقاش حول هذا الخطأ التاريخي ، بل الخطيئة التاريخية… انتهى!!
**********************************************************************************
نصّ المقال …

من المثير للاستغراب في أوساط العديد من المراقبين ان يقوم الاتحاد السوفييتي بالوقوف.الى جانب قيام الدولة اليهودية على الرغم من مواقفه السابقة المعادية للصهيونية ومشاريعها الاستيطانية ، اضافة الى كونها مغامرة قد تعرض سياسته لردود فعل قد تحمل فقدانه تعاطف عشرات الملايين من العرب ، مما سيؤثر على وضعه المستقبلي في منطقة الشرق الأوسط . وكان تبرير هذا الموقف السوفييتي الداعم لإنشاء الدولة اليهودية ما ورد على لسان أندريه غروميكو نفسه : بالنسبة لنا هناك دوما منطق واحد في سياستنا.وهو منطق الأفضل للاتحاد السوفييتي . فما هو يا ترى منطق الأفضل للاتحاد السوفييتي الذي دفعه للوقوف الى الجانب الصهيوني خلال الفترة بين عامي ١٩٤٧-١٩٤٨ ؟ وما هي دوافع هذا الموقف الذي جاء خاذلا لجميع التوقعات العربية ؟!

لعل من اهم تلك الدوافع اعتقاد السوفييت بان المجتمع اليهودي في فلسطين * بملامحه الاشتراكية البارزة * سيكون حقلا سهلا لانتشار الشيوعية ودوران الدولة الجديدة في فلك السياسة السوفييتية . وقد أشار العديد من المحللين الى انه كان لا بد للتوجهات الاشتراكية للمهاجرين اليهود الذين قدموا لفلسطين من دول الكتلة الشرقية ان يكون لها تأثير كبير على مستقبل العلاقات السياسية بين الاتحاد السوفييتي والدولة اليهودية . ومثل هذه التوجهات المشتركة سواء من ناحية المستوى السياسي ام من ناحية القدرات الانسانية ، خلقت في بداية تأسيس الدولة ارتباطا وتواصلا طبيعيا بين شعوب كل من الاتحاد السوفييتي ودوّل أوروبا الشرقية من جانب والمهاجرين اليهود من جانب اخر .

والواقع ان هولاء المهاجرين الذين وفدوا من الكتلة الشرقية تمكنوا من تشكيل قوة طبقية نشطة في فلسطين ، كما تمكنوا من تعزيز اواصر الترابط والتواصل مع وطنهم الأصلي مما كان له اكبر الأثر في تسهيل عملية اعتراف دول الكتلة الشرقية بالدولة اليهودية فور إعلانها عام ١٩٤٨ .

وقد عقد الاتحاد السوفييتي منذ البداية امالا عراضا على احتمال ان تصبح هذه الدولة اليهودية ذات الميول الاشتراكية واحة للديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط لا سيما وأنها كانت تعترف قانونيا بالحزب الشيوعي وتسمح له بممارسة نشاطاته علنا وبمنتهى الحرية . وفِي المقابل لم يكن للاتحاد السوفييتي اي علاقات ذات قيمة تذكر مع اَي من الدول العربية باستثناء علاقاته مع الأحزاب الشيوعية فيها والتي كانت في مجملها أحزابا محظورة ومضطهدة باستثناء الحزب الشيوعي اللبناني الذي لم يكن له اَي شان في الحياة العامة .

وبالاضافة الى ذلك كان السوفييت ينظرون الى الوسط العربي الذي كان يحيط بالدولة اليهودية على انه وسط عشائري قبلي متخلف تسيطر عليه كيانات مجزاة ومتصارعة خاضعة للنفوذ الغربي وخاصة البريطاني والفرنسي ، وهكذا لم تترك هذه الهيمنة الغربية للاتحاد السوفييتي اَي منفذ يعبر من خلاله لمنطقة الشرق الأوسط سوى المنفذ اليهودي في فلسطين .

كما تولدت لدى السوفييت قناعة بان الأحزاب الصهيونية التي كان لها برامج يسارية ستكون نواة للهيمنة الاشتراكية على المنطقة وبمقدورها ان تتيح المجال للاتحاد السوفييتي كي ينخرط في شؤون هذه المنطقة ويقوم بدور مؤثر في توجهاتها . ومما عزز.هذه القناعة لدىه انضمام حزب عمال هاشومير هاتزعير في يناير ١٩٤٨ الى حزب أحدوت هاعفودا ليتكون منهما حزب مابام وهو الحزب الصهيوني الذي كان يمثل الجناح الاشتراكي اليساري والذي كان السوفييت يدركون مدى قوته وخاصة بين المنظمات العسكرية الصهيونية مما جعلهم ياملون ان يصمد هذا الحزب ويصل الى دفة الحكم . ولعل هذا ما أدى الى تشجع الاتحاد السوفييتي ودوّل المعسكر الشرقي لتقديم المزيد من الدعم العسكري والسياسي الى الدولة اليهودية ,على أمل ان يشد هذا الحزب من ازر باقي الأحزاب التي تتبنى التوجهات الاشتراكية ويتولى قيادتها من اجل نشر وترسيخ الاشتراكية في المنطقة . وكان هذا الموقف منسجما مع السياسة السوفييتية الرامية الى التعرف في وقت مبكّر على مرشحين ذوي توجهات اشتراكية في البلدان النامية حيث تقوم بمساعدتهم وتوجيههم ضمن المسارات الاشتراكية المعتمدة لديها . وهكذا كان الاتحاد السوفييتي يامل ان يودي قيام دولة اشتراكية يهودية في فلسطين الى تقوية نفوذه في الشرق الأوسط ، اضافة الى إمكانية ان يصبح نظام هذه الدولة الاشتراكي نموذجا يحتذى من الدول الاخرى في المنطقة .

وقد اثارت الخلافات التي نشبت بين الصهاينة والانتداب البريطاني في أعقاب مؤتمر بلتمور اهتمام السوفييت لا سيما حينما أخذ الصهاينة يتهمون بريطانيا بالمماطلة والتباطؤ في الوفاء بالتزاماتها نحو انشاء كيان سياسي مستقل في فلسطين . وَمِمَّا زاد من اهتمام السوفييت أيضا تلقيهم تأكيدات من الزعماء الصهاينة بأنهم كانوا مستعدين لممارسة شتى وساىل المقاومة للتخلص من عبء الانتداب البريطاني ولا سيما بعد اعلان بن غوريون استعداده ، اذا دعت الحاجة ، لاستخدام قوة الهاجاناة العسكرية لتحقيق الطموحات الصهيونية التوسعية متفقا في ذلك مع المنظمتين الصهيونيين المتطرفين الإرجون وشتيرن . وكان موقف السوفييت تجاه هذه المنظمات الصهيونية المتطرفة موقفا إيجابيا بدعوى ان مهمة هذه المنظمات القتالية – في راي السوفييت – ينحصر في محاربة الإنجليز دون غيرهم . وكان هناك اتصال وثيق بين قادة هذه المنظمات ورجال مخابرات سوفييت واخرين من أوروبا الشرقية ، كما كانت الاتصالات قاىمة أيضا بين هذه المنظمات وزعماء شيوعيين بارزين وخاصة في أوروبا الشرقية مثل جورج ديمتروف ورودلف سلانسكي . ودعت هذه المنظمات الصهيونية منذ البداية الى التحالف مع السوفييت على أمل ان يتمكنوا متعاونين من التصدي للنفوذ البريطاني ولو بالقوة اذا اقتضت الضرورة . وقد جاء في احدى الوثائق المرسلة من القنصل الامريكي العام في لبنان الى وزارة خارجيته في واشنطن ما يكشف وجود علاقة بين المفوضيات السوفييتية وأوروبا الشرقية في بيروت . وكان مما جاء فيه ان مناحيم بيغن كان يتلقى اموالا بانتظام من افجيني بودفيجين السكرتير الثاني في المفوضية السوفييتية في بيروت .

وأخذ السوفييت تدريجيا يتقبلون فكرة تخفيف الحظر المفروض على هجرات اليهود السوفييت الى فلسطين ، لا سيما تلك النوعية من المهاجرين اليهود ذوي التوجهات الاشتراكية على أمل ان يساعد هولاء في التعجيل بقيام ثورة تحررية قد يمتد أدوارها ليشمل الشرق العربي بمجمله ، كما تصور السوفييت انهم بكسب القيادات الصهيونية الى جانبهم سيتمكنون من تاجيج المزيد من التناقضات والخلافات بين القوى الاستعمارية . وأكد الزعماء الصهاينة للمسؤولين السوفييت بان *دولتهم * حينما تنطلق ستنتهج سياسة مؤيدة ومتعاطفة مع المصالح والقضايا. السوقييتية . وبالاضافة الى ذلك فانهم سيقومون بدور فعال لتعبئة القوى اليهودية في الاتحاد السوفييتي للمشاركة الفعالة في دعم المجهود الحربي ضد النازيين .

واخذت المنظمات اليهودية الصهيونية بمختلف اطيافها تعمل جاهدة وبنشاط متزايد طيلة امد الحرب في تقديم العون والمساعدة للمجهود الحربي السوفييتي ، وتواصلت الجهود الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان زعيم المنظمة الصهيونية العالمية ودافيد بن غوريون زعيم المستوطنين اليهود في فلسطين ، وكلاهما كانا يمثلان أيضا الوكالة اليهودية ، وذلك في متابعة الدبلوماسيين والممثلين السوفييت شارحين لهم الأهداف التي كانت تسعى الصهيونية لتحقيقها في فلسطين اضافة الى الضغط عليهم من اجل إقناعهم بمواصلة تخفيف القيود عن الهجرات اليهودية التي تسعى للتوجه الى فلسطين والاستقرار فيها . كما تشجعت بعض القيادات الاشتراكية الصهيونية فقامت بتشكيل لجنة عامة ضمت الكثير من اليهود الروس أسمتها اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية ، واعلنت. هذه اللجنة منذ البداية ان الاولوية في مساعيها تتجه الى جمع الأموال والمساعدات لإغاثة ضحايا الحرب من الروس . وكان لهذا العون دلالاته السياسية ، اذ كان قبول السوفييت لهذا العون بمثابة اعتراف ضمني بوجود الحركة الصهيونية كمكون من مكونات قوى التحالف المعادية للنازية والفاشية مما وفر للسوفييت مبررا في التعامل مع الحركة الصهيونية والاعتراف بالدولة اليهودية فيما بعد دون حرج او تردد .

وأدرك السوفييت – من جانبهم – ان مصير هذه الدولة الجديدة يعتمد الى حد كبير على استمرار تدفق هجرات يهود العالم اليها ولا سيما من الكتلة السوفييتية حيث كانت نسبة كبيرة من اليهود تعيش فيها . . ولذا فقد بدا للسوفييت ان بمقدورهم استثمار هذا العدد الكبير من اليهود في أراضيها كقوة ضغط سياسية للتأثير على حياد هذه الدولة واستقطابها الى جانبهم . كما بدا لهم ان بمقدورهم استخدام اليهود السوفييت المهاجرين اليها كحصان طروادة لتهريب عناصر شيوعية موالية لموسكو الى الشرق الأوسط ( M. Beecher , Decisions in Israel’s Foreign Policy ,,pp.582-589) .

وَمِمَّا شجع السوفييت فيما بعد ، على اتخاذ قرارهم المؤيد للدولة اليهودية هو كوّن معظم قادتها آنذاك من أصل روسي اوبولندي مما زاد من احتمالات تبنيها سياسة متعاطفة ومؤيدة للاتحاد السوفييتي . الا ان هذا أدى هذا الى تخوف العديد من الدوائر الغربية وخاصة البريطانية فيها من تغلغل العملاء السوفييت في صفوف الوحدات اليهودية المقاتلة والمتدفقة جنوبا من أوروبا الشرقية مرورا بيوغسلافيا وإيطاليا وفرنسا . كما سبب انحدار القادة المدنيين والعسكريين في الدولة اليهودية من الكتلة السوفييتية الكثير من القلق لدواًىر الاستخبارات الغربية ، لا سيما وان خلفية غالبيتهم كانت خلفية اشتراكية تشبه الى حد كبير خلفية الزعماء االشيوعيين في الاتحاد السوفييتي ودوّل أوروبا الشرقية ، وكلا الخلفيتين كانتا من البينة الاقتصادية والاجتماعية نفسها . ( اكثر من ٧٠ بالمىة من القادة السياسيين والعسكريين الاواىل في الدولة اليهودية وفدوا من الكتلة السوفييتية ) .

وقد أدى اعتراف الاتحاد السوفييتي الى فتح الباب على مصراعيه للدول التي تدور في فلكه في أوروبا الشرقية لتحذو حذوه في مسالة الاعتراف مما شكل دعما قويا لهذه الدولة الجديدة . وقد استخدم الاتحاد السوفييتي الكليشيه المعتادة لتبرير قراره بالاعتراف بهذه الدولة بانه جاء نتيجة تعاطفه مع مرارة التجربة القاسية التي تعرض لها اليهود على يد النازيين والتي كانت تماثل في * قسوتها ومرارتها * تلك التجربة التي عاشها السوفييت في ظل الغزو النازي لبلادهم خلال الحرب . وكان الصهاينة قد نجحوا في ترسيخ *عقدة الذنب * في ضمير المجتمع العالمي بحجة تقاعسه عن مد يد العون الى اليهود لإنقاذهم من اضطهاد النازيين . وهكذا تولدت قناعة لدى الكثير من دول العالم ومن ضمنها الاتحاد السوفييتي بان قيام الدولة اليهودية سيساهم بطريقة عملية في تحرير ضمير العالم من عقدة الذنب تجاه اليهود وسيجعل هذه الدول تقتنع بأنهم يستحقون كيانا مستقلا يلبي طموحاتهم ويوفر لهم الحماية من التعرض لمزيد من * المعاناة * كتلك التي تعرضوا لها على يد الناريين .

ولا شك انه كان للاتحاد السوفييتي الحق كله في ان يدعي انه كان له الفضل الكبير في اخراج الدولة اليهودية الى حيّز الوجود أسوة بالولايات المتحدة الامريكية ، وذلك باتخاذه خلال تلك الفترة الحرجة من تأسيسها موقفا داعما يتضمن السماح لمىات الآلاف من اليهود السوفييت ويهود أوروبا الشرفية بالهجرة الى فلسطين ، اضافة الى صفقات الأسلحة بمختلف أنواعها والتي تم تدريب وتزويد المهاجرين اليهود عليها لاستخدامها في حربهم ضد عرب فلسطين . وبالرغم من كون المصدر الرىيسي لهذا ألدعم المتمثل بالهجرات والسلاح كان يتم في بادئ الامر عن طريق أوروبا الشرقية ، الا انه من الواضح ان هذا الدعم ما كان ليتم لولا موافقة السوفييت ومباركتهم له .

وجاء التبرير السوفييتي لهذا الدعم اللوجستي للدولة اليهودية بحجة ان عرب فلسطين كانوا يتلقون معونات عسكرية واسعة من مصادر غربية تشمل مختلف انواع المواد الحربية وذلك اما عن طريق الدول العربية او مباشرة من المستودعات البريطانية في المنطقة ، اضافة الى التعزيزات في القوى البشرية القادمة بشكل رىيس من الأقطار العربية المجاورة . وكان هذا التبرير السوفييتي مثالا واضحا للكيفية التي تلجأ اليها الدعاية السوفييتية في مهاجمتها احد الأطراف تغطية لموقفها ونشاطها الممالىء للطرف الاخر .

ان إبراز الدور الذي قام به الاتحاد السوفييتي في تأسيس الكيان الصهيوني لا يقلل باي حلل من الأحوال من أهمية ادوار القوى الغربية لا سيما الولايات المتحدة وبريطانيا في مساندة ودعم الحركة الصهيونية وتحويلها في فترة حاسمة من التاريخ الى * قوة خاصة * تسعى للتدمير والتوسع . ان الدراما الفلسطينية لم يقتصر تنفيذها على القوى الإمبريالية الغربية فقط وإنما كان للاتحاد السوفييتي ودوّل أوروبا الشرقية دور لا يستهان به على الإطلاق .

قد يعجبك ايضا