كيف تصنع ثورة وتحميها … قصة “لجان المقاومة السودانية”…




 

مدارات عربية – الجمعة 29 / أيار ( مايو ) / 2020 م … 


مع تعثر أداء الحكومة السودانية المخنوقة بالأزمات اليومية، وجدت لجان المقاومة نفسها أمام مهام تنفيذية. فجأة ودون مقدمات، تولى أفراد منها عمليات مراقبة توزيع الدقيق للمخابز والوقود للمحطات. بعض الأطراف داخل الحكومة، وحاضنتها السياسية، نصحت بأن تتولى هذه اللجان الفاعلة عملية المراقبة وهي في الأصل من مهام السلطات المحلية.

أدت سياسات الأجهزة الأمنية لنظام الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، تجاه القوى المعارضة – وهي تقوم على الملاحقة والمطاردة والاعتقالات التعسفية الطويلة ومصادرة حريتها السياسية من جهة، واختراقها بهدف لي يدها من جهة أخرى – إلى ضعف القوى السياسية، بما فيها الأحزاب التاريخية. وهو ما أثر على الحياة السياسية والاجتماعية التي شهدت تراجعاً مريعاً في ظل سيطرة قوى الإسلام السياسي على مفاصل الدولة والمجتمع لنحو ثلاثين عاماً.

خلال هذه الفترة عاشت الأحزاب السياسية سنيناً جدباء، تفككت، تشظت وتقسمت، فقدت فاعليتها وتراجعت شعبيتها، وفقدت ثقة الشارع فيها من فرط عجزها عن إحداث تغيير، أو على أقل تقدير، قيادة معارضة ذات أثر في مقاومة سياسات الحكومة. وظّف جهاز أمن المخلوع إدارات كاملة مهمتها الرئيسية ضرب الأحزاب السياسية، وعلى نحو خاص قوى اليسار السوداني التي نالت النصيب الأوفر من سياسات جهاز الأمن التعسفية.

في أيلول/ سبتمبر 2013، بعد انفصال الجنوب في 2011، فقد السودان الواردات النفطية وتراجعت قيمة العملة الوطنية. قاد ذلك إلى اتخاذ إجراءات اقتصادية قاسية تمثلت في رفع الدعم عن المحروقات. رفض الشارع هذا الوضع الاقتصادي الجديد، تفجرت احتجاجات عفوية. الحكومة التي تفاجأت بانتفاض الشارع بعد سبات طويل، قابلت تلك الاحتجاجات بعنف مفرط وراح ضحية ذلك عشرات من الشباب. كان بإمكان هذه الاحتجاجات أن تطيح بحكومة البشير منذ ذاك الوقت، إذ أن الشارع كان مهيأً، والحكومة التي أحاط بها الفساد من كل جانب لم تكن قادرة على تقديم جديد. خرجت مجموعات من الشباب غير منظمة تسيّر المظاهرات هنا وهناك، وتقابل بطش الأجهزة الأمنية بكل ثبات. لكن غياب القيادة في الشارع أجهض بذرة الثورة. غابت الأحزاب عن قيادة الشارع أو عجزت عن قيادته وتبدد الأمل وقتها.

احتجاجات 2013.. أول تجربة للجان المقاومة

شكلت هذه المجموعات الشبابية بذرة ما يعرف ب”لجان المقاومة” والتي ذاع صيتها في “ثورة ديسمبر 2018″، وقادت بدرجة كبيرة الحركة الجماهيرية داخل الأحياء، ابتداءً من الدعوات للاحتجاج ثم تنظيمها وإدارتها. ولجان مقاومة الأحياء التي تمثل عصب الثورة، هي شبكات محلية غير رسمية ولا تخضع لهيكل إداري إذ تعمل بشكل أفقي. كانت بعض مجموعاتها تنشط في الأعمال الطوعية عطفاً على الأعمال الخدمية البسيطة داخل الأحياء.

يعود تأسيس لجان المقاومة السودانية إلى العام 2012، حيث دعا تكتل معارض آنذاك إلى تشكيل شبكات شبابية داخل الأحياء. والفكرة مستمدة طبعاً من إرث المقاومة الشعبية المعروف. وربما كانت أول تجاربها في احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2013 التي لم تقد إلى تحقيق التغيير المنشود.

حينما بزغت “ثورة ديسمبر2018″، التي بدأت باحتجاجات شعبية ضد الغلاء في عدد من المدن السودانية، كان الشارع متأهباً للانفجار أكثر من أي وقت مضى. لكن السؤال المصيري ظل حاضراً، من يقود الشارع؟ عقب أكبر مظاهرة شهدتها مدينة عطبرة شمالي السودان، والتي يؤرخ بها السودانيون لشرارة ثورة ديسمبر، برز “تجمع المهنيين السودانيين” في المشهد، وهو تجمع تشكل حديثاً، يضم أجساماً نقابية غير مسجلة: أطباءً، صحافيين، مهندسين، معلمين وعدداً من القطاعات المهنية. تولى التجمع زمام المبادرة وأعلن عن أول موكب في الخرطوم. والتجمع الذي كان بصدد تقديم مذكرة لرئاسة الجمهورية للمطالبة بتحسين الأجور، غيّر مطلبه من “رفع أجور” إلى “إسقاط نظام”.

“لجان مقاومة الأحياء” التي تمثل عصب الثورة، هي شبكات محلية غير رسمية ولا تخضع لهيكل إداري، إذ تعمل بشكل أفقي. كانت بعض مجموعاتها تنشط في الأعمال التطوعية عطفاً على الأعمال الخدمية البسيطة داخل الأحياء. ويعود تأسيس “لجان المقاومة السودانية” إلى العام 2012.

خرجت مجموعات من الشباب، غير منظمة، تسيّر المظاهرات هنا وهناك، وتقابل بطش الأجهزة الأمنية بكل ثبات. لكن غياب القيادة في الشارع أجهض بذرة الثورة. غابت الأحزاب عن قيادة الشارع أو عجزت عن قيادته، وتبدد الأمل وقتها.

وعلى الرغم من أن “تجمع المهنيين” بالنسبة لعموم الناس جسم غير معروف، ولم يسبق له الظهور وليس لديه تاريخ، لكنه حظي بالتفاف واسع. وهذا الأمر يفسر بوضوح الحاجة الملحة لواجهة جديدة بعيداً عن الأحزاب السياسية، واجهة يرمي فيها الشارع بثقله. استطاع التجمع أن يملأ الفراغ كما ينبغي، وحظي بثقة كبيرة لم تحظ بها أي قوى سياسية أو مهنية من قبل. قاد المواكب طيلة شهور الثورة. بالمقابل كانت اللجان تنظم وتسيّر المواكب من الأحياء دون علاقة عضوية مع تجمع المهنيين. وهكذا تشكلت ثنائية استثنائية لقيادة الثورة.

من رحم الاعتصام وُلدت لجان جديدة

لاحقاً حدث تنسيق بين تجمع المهنيين ولجان المقاومة، وهذا الأمر برز بشكل واضح قبيل مليونية اعتصام القيادة العامة في نيسان/ أبريل 2019، ونبتت لجان مقاومة جديدة من رحم الاعتصام المليوني حيث لعبت الدور الرئيسي في حراسة حدود الاعتصام. فعلياً، كانت حامية للاعتصام عبر عمل متصل لتأمين الموقع من كل المداخل، وقاومت هذه اللجان محاولات عديدة لفض الاعتصام في أيامه الأولى ودفعت من أرواح شبابها ثمناً لذلك.

وإن كانت لجان المقاومة تشكلت أساساً من قوى حزبية، إلا أن الغالبية الساحقة في هذه اللجان لا تنتمي إلى حزب. برزت قوة وفاعلية هذه اللجان في مليونية 30 حزيران/ يونيو 2019، بعد المجزرة الدامية التي صاحبت فض اعتصام القيادة العامة في الثالث من الشهر نفسه. استطاعت اللجان أن تحشد الشارع عن بكرة أبيه رفضاً لما حدث، وتفويضاً لوقف التفاوض مع المجلس العسكري الذي نفذت قواته تلك المجزرة البشعة. غير أن الطرفين (قوى الثورة والمجلس العسكري) عادا ووقعا اتفاقاً قضى بشراكة مدنية – عسكرية خلال الفترة الانتقالية.

على الرغم من أن “تجمع المهنيين” بالنسبة لعموم الناس جسم غير معروف، ولم يسبق له الظهور وليس لديه تاريخ، لكنه حظي بالتفاف واسع. وهذا الأمر يفسر بوضوح الحاجة الملحة لواجهة جديدة بعيداً عن الأحزاب السياسية، واجهة يرمي فيها الشارع بثقله.

استطاع التجمع أن يملأ الفراغ كما ينبغي، وحظي بثقة كبيرة لم تحظ بها أي قوى سياسية أو مهنية من قبل. قاد المواكب طيلة شهور الثورة. بالمقابل كانت اللجان تنظم وتسيّر المواكب من الأحياء دون علاقة عضوية مع تجمع المهنيين. وهكذا تشكلت ثنائية استثنائية لقيادة الثورة.

ولأن لجان المقاومة لا تُخضع الأمور إلى التسييس، ولأنها من القوى الحية الفاعلة داخل الأحياء، فهي نالت نصيب الأسد من ثقة الشارع التي تضعضعت في القوى السياسية التقليدية. ولأن اللجان لا تحمل توجهات حزبية، ولا تحمل إلا أجندة الثورة ومطالبها الواضحة غير القابلة للمساومات، فقد باتت تمثّل الأمل الوحيد في حراسة الثورة. ولأن الشارع يضع كل ثقته فيها، باتت تمتلك مفاتيحه بشكل شبه مطلق. هذا الوضع الذي حازت عليه اللجان جعلها في مهب الاستقطاب، لكونها البطاقة الرابحة والمفتاح السحري للوصول إلى الشارع والتحكم فيه أو توجيهه الوجهة المحددة، وفقاً لما تطلبه القوى الحزبية أو العسكرية أو حتى المخابرات الإقليمية. وتتنافس القوى السياسية في استقطاب هذه اللجان، بما في ذلك النظام البائد الذي وجد طريقاً إلى داخل بعض اللجان الهشة وحديثة التكوين.

من حراسة الثورة إلى المهام التنفيذية

بعد تشكيل الحكومة الانتقالية في أيلول/ سبتمبر 2019، كانت لجان المقاومة تراقب أداء حكومة الثورة وتطالب على الدوام بتحقيق شعاراتها. وقضية مثل العدالة لا تخضع إلى أيتسويف بالنسبة للجان المقاومة. وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام تركة ثقيلة من الفشل المتصل لنحو ثلاثين عاماً، كما أن طبيعة التغيير التي جرت بين قوى الثورة والعسكريين المحسوبين على النظام السابق حالت دون إحراز تقدم يذكر، سواء على الصعيد الاقتصادي أو في قضية العدالة أو قضية السلام التي تتأرجح بين التعثر والجمود. هذا المشهد المهتز دفع بلجان المقاومة إلى التصعيد المستمر عبر البيانات وتعبئة الشارع وتسيير المواكب المطلبية للضغط المستمر على الحكومة حتى تُنجز مهام الثورة. هكذا أصبحت اللجان حارساً “مزعجاً” لأي شكل تسوية سياسية تتجاوز مطالب الثورة.

وتمثل اللجان مجموعات ضغط حقيقية للحكومة أو حاضنتها السياسية “قوى الحرية والتغيير” وتسعى كل القوى الحزبية داخل التحالف الحكومي لكسب ود اللجان، ومحاولة تجييرها باتجاه خطها السياسي. وحتى المكوّن العسكري سعى لاستقطاب اللجان! وقبل فترة تسربت صورة جمعت نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان حميدتي، مع بعض أعضاء اللجان، قبل أن تُصدر لجان المقاومة بياناً تؤكد فيه أنها تعرضت لعملية استدراج. ولم يتوقف الأمر عند القوى السياسية والعسكرية داخل السودان، بل فعلياً، سعت بعض أجهزة المخابرات الدولية لاستقطاب اللجان عبر وكلائها داخل السودان.

مع تعثر أداء الحكومة المخنوقة بالأزمات اليومية، وجدت اللجان نفسها أمام مهام تنفيذية. فجأة ودون مقدمات، تولى أفراد من لجان المقاومة عمليات مراقبة توزيع الدقيق للمخابز والوقود للمحطات، بعض الأطراف داخل الحكومة وحاضنتها السياسية نصحت بأن تتولى هذه اللجان الفاعلة عملية المراقبة وهي في الأصل من مهام السلطات المحلية، لكن الحكومة، التي ليس لديها سلطة داخل جهاز الدولة القديم، لجأت إلى جنود الثورة: لجان المقاومة. وفي بادئ الأمر انقسمت اللجان حول القبول بهذا الدور أو رفضه، لكن الواقع أنها، أو جزء مقدر منها، انغمس بكلياته في المهام التنفيذية اليومية، ما يجعلها في مواجهة مع الشعب باعتبارها المسؤول الأول عن توفير الخبز أو تنظيم عملية صرف الوقود. لكن هذا الدور ينطوي على “خدعة” كبيرة، إذ بإغراقها في المهام التنفيذية فهي سوف تجد في يدها سلطة مطلقة تخلط بين الشرعية الثورية وبين تسيير دولاب العمل. وفي كل الأحوال، أن تنصرف لجان المقاومة عن مهمتها الأساسية وهي حراسة الثورة والضغط وتعبئة الشارع، حال تحيد الحكومة عن طريق الثورة والذي لا تؤمن لجان المقاومة إلا به، وتنخرط في مهام تنفيذية ليست من اختصاصها، فالأمر يحمل مخاطراً جمة.

المشهد المهتز دفع بلجان المقاومة إلى التصعيد المستمر، عبر البيانات، وتعبئة الشارع، وتسيير المواكب المطلبية، للضغط المستمر على الحكومة حتى تُنجز مهام الثورة. هكذا أصبحت اللجان حارساً “مزعجاً” لأي شكل من أشكال التسوية السياسية التي تتجاوز على مطالب الثورة.

لن يتوقف الصراع والاستقطاب داخل لجان المقاومة، في محاولات لإضعافها أو تشتيتها من جهة، ولكسبها باتجاه خط سياسي أو حزبي معين من جهة أخرى، لأنها مالكة مفاتيح الشارع، صاحبة الجماهيرية التي تحتاج إليها كل القوى السياسية.

قد يعجبك ايضا