من هو اليهودي؟ وصراعنا تحرري وليس دينياً / د. فايز رشيد




د. فايز رشيد – الأربعاء 27 / أيار ( مايو ) / 2020 م …

عندما تقوم دولة من العدم وتغتصب أرض الآخرين، وتطرد أهلها وترتكب عشرات المجازر بحقهم، مستندة إلى مقولات تحيلها إلى الرب بينما هو منها براء، اخترعها حاخاماتهم في العصور الوسطى، لتسويغ احتلالهم الكولونيالي لأرضنا الفلسطينية، وتقوم هذه الدولة على أساس ديني قومي يدعي الانتماء العضوي لأرضنا بعينها، يصبح ضروريا التدقيق بصحة هوية ساكنيها، وفي تحديد من هو اليهودي؟
كان طبيعياً دخول الصهاينة الدينيين والعلمانيين في صراع حول تحديد هوية اليهودي. وبدورنا نتفق مع تساؤل إسرائيل شاحاك في كتابه «الديانة اليهودية، التاريخ اليهودي، وطأة ثلاثة آلاف سنة»: «ما الذي يعطي اليهودي يهوديته؟ هل هو التطور التاريخي والتراث اليهودي والانتماء العرقي؟ أم إنه الاختيار الإلهي والتاريخ اليهودي المقدس؟». من الطبيعي أن يتشظى الخلاف السابق، ليطرح عشرات التداعيات حول تحديد من هو اليهودي؟ خاصة أن اليهود توزعتهم حضارات تاريخية وجغرافية ومذاهب مختلفة، أي عاشوا كطائفة/طوائف دينية في بلدان عديدة، بعيدا عن كونهم شعبا، قومية، أمة، فضلا عن الطموحات السياسية لكل منهم في الدولة الوليدة قسرا إسرائيل.
إن السؤال الأكثر إشكالية في إسرائيل، ولدى الحاخامات والجاليات اليهودية في العالم، هو إيجاد جواب للسؤال التقليدي الذي ظهر مع ظهور اليهودية عن ماهية اليهودي؟ ورغم تشكيل الحركة الصهيونية وزرع دولتها في وطننا عام 1948، ورغم مرور 72 سنة عليها، ظل السؤال بدون تعريف محدد، إنه في الأساس سؤال أساسي حول جوهر الهوية، واعتبارات تعريف الذات، يدركها كل من ينتمي إلى دولة على صعيد العالم. يبرز السؤال عند اليهود لأنه يعتمد أفكاراً حول الشخصية اليهودية، التي تحمل أبعاداً ثقافية ودينية، وسياسية ونسبية وشخصية. نعم، يختلف التعريف وفقاً لما ينظر إليه اليهود بالاعتماد على الشرائع الدينية المعيارية أو التعريف الذاتي، أو من قبل غير اليهود لأسباب أخرى. لأن الهوية اليهودية يمكن أن تشمل خصائص إثنية ودينية أو اعتناقية، ويعتمد على العديد من الجوانب، التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، فمثلاً تتبع اليهودية الأرثوذكسية  واليهودية المحافظة «الهالاخاه» معيار الأم، فالفرد يعتبر يهوديا إذا كانت أمه يهودية، أو إذا خضع الفرد لاعتناق اليهودية. بينما تقبل اليهودية الإصلاحية  و»يهودية إعادة البناء» نسب الولد لأبيه أو لأمه. في الوقت الذي تتبع فيه « اليهودية القرائية» بالدرجة الأولى نسب الأب. لذا يتباين التعريف تبعاً لما يعتبره اليهود، إما على أساس الشريعة الدينية والتقليد، أو التعريف الذاتي، أو من قبل غير اليهود لأسباب أخرى (عبدالوهاب المسيري في كتابه «من هو اليهودي» ). بالتالي يمكن للهوية اليهودية أن تشتمل على خصائص للإثنية أو الدين أو «الشعب» ـ ما بعد تشكيل الصهيونية وصنيعتها الإسرائيلية- لذلك يتراوح اعتماد التعريف إما على التفسيرات التقليدية، وفقا لما جرت عليه العادة، أو على التفسيرات الأحدث عهداً للشريعة اليهودية. فمثلا تطلب الحاخامية الكبرى في إسرائيل وثائق تثبت يهودية الأم والجدة وأم الجدة وأم أم الجدة، عند التقدم للزواج. ويؤكد مكتب الحاخام الأكبر على المبدأ الأساسي القائل، بعدم اعتراف المكتب والهيئات الأخرى بيهودية الطفل إلا أن تكون والدة الطفل يهودية (شلومو ساند، كتاب: اختراع الشعب اليهودي). بالتالي يكون الفرد يهوديا منذ ولادته، أو يصبح يهودياً عبر اعتناقه لليهودية، تبعاً لأبسط تعريف يستخدمه معظم اليهود للتعريف الذاتي.

الهوية مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات

في حين توجد اختلافات في التفسيرات المتعلقة بالطوائف اليهودية غير الأرثوذكسية في تطبيق هذا التعريف، وتتضمن: هل ينبغي اعتبار الفرد يهودياً إذا كان أحد والديه (وليس كليهما) يهودياً؟ وهل عمليات اعتناق اليهودية تصح؟ هل يمكن للفرد أن يبقى يهودياً بعد اعتناقه لديانة أخرى؟ كيف يؤثر عدم إدراك الفرد لكون أهله يهودا على حالته الفردية؟ كيف تتحدد الهوية اليهودية في البلدان المختلفة خلال «الشتات» اليهودي؟ كيف يُحكم في زعم المواطنة الإسرائيلية في سياق قوانين إسرائيل الأساسية؟ نقول ذلك بعد أن جرت هجرة يهود الفلاشا إلى إسرائيل، فالكثير من الحاخامات يشككون بيهوديتهم، أي لا يجري في عروقهم دماء يهودية نقية، وبالتالي لا يجوز لهم التبرع بالدم لبنك الدم الإسرائيلي»(آني سلي «الواجهة الفولاذية» المعهد الإسرائيلي للدراسات).
سعت الشعوب منذُ بداية البشرية حتى هذا اليوم للمحافظة على تميزها وتفردها، اجتماعياً وقوميا وثقافياً، فاهتمتْ بأن تكون لها هوية تساعد في الإعلاءِ من شأن الأفراد في المجتمعات، وساهم وجود الهوية في زيادة الوعي بالذات الثقافيّة والاجتماعية، ما ساهمَ في التفريق بين الجنسيات، فالهويّة جزءٌ لا يتجزّأ من نشأة الأفراد منذُ ولادتهم حتّى رحيلهم عن الحياة، بالتالي فالهوية مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الوطنية أو الهوية الثقافية). يستخدم المصطلح خصوصا في علم النفس الاجتماعي، لذا فالهوية هي مجمل السمات التي تميز شيئا عن غيره، أو شخصا عن غيره، أو مجموعة عن غيرها. تكتسب شخصية أي إنسان هويتها من عملية «تفاعل مركبة بين الإنسان الفرد من جهة، وبنيان مجتمعه وثقافته وتاريخه وبيئته الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى». فمن خلال الامتداد الزمني تكتسب هذه الجماعة سمات معينة وهوية محددة، تصبح ثابتة أو شبه ثابتة يفترض أنها تميزها عن غيرها.
من هذا المنطلق من الصعوبة بمكان الحديث عن شخصية يهودية واحدة، أو هوية يهودية واحدة، فقد عاشت الجماعات اليهودية في عصور وأماكن وظروف مختلفة، والصحيح أن هناك شخصيات، هوياتهم مرتبطة بالإثنية، ولا يمكن أن يقال إنها هوية. فهناك الشخصية أو الهوية اليمنية ديانة حاملها اليهودية، أو الشخصية الخزرية اليهودية في القرن التاسع، أو الشخصية الإشكنازية في إسرائيل وهكذا دواليك. كانت ولا تزال الإثنيات اليهودية تتناقض مع بعضها بعضا، ولم يكن هناك شيء يمنع تطور بعضها واقعيا باتجاهات لا تتفق مع رؤية الجماعات اليهودية الأخرى، خاصة أنه لم تكن هناك سلطة يهودية مركزية مستقلة تعنى بشأن اليهود واليهودية. وهكذا فقد وقع تنوع هائل في الهويات اليهودية، عبر العيش، أو الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية، ورغم ذلك «استمر اليهود وغير اليهود في الحديث عن اليهود كما لو كانوا كلا واحدا». إن تعريف الشريعة اليهودية لليهودي جمع بين عناصر دينية وعرقية، بدون تعريف حدود كل عنصر، ولملم خليطا من الشعوب تتنازعها منازع مختلفة في اللغة والاعتقاد وغير ذلك. فمنها المتدين والعلماني ومنها المحافظ على أصوله والمبتدع لهويات أخرى. إن إحدى أهم الهويات التي صاغها اليهود الغربيون، هوية يهود أمريكا، ويطلق عليها اسم «الهوية اليهودية الجديدة». فقد تغذت من الحضارة الغربية، وذابت فيها من جهة، وحافظت على بعض التميز من جهة أخرى، لكنه تميز ينتمي في يهوديته إلى المظهر والقشرة لا إلى الجوهر. ودليل ذلك أن العالم الغربي خضع بعد القرن التاسع عشر لعملية ضخمة من العلمنة، وتراجعت فيه العقيدة المسيحية، حتى أصبحت مجتمعاته تدور حول مبدأي المنفعة والانغلاق، وحول الإنسان الطبيعي بكينونته وما يحتاجه من متطلبات اقتصادية.
المتابع للمتغيرات والقرارات الإسرائيلية، يكتشف بلا أدنى شك، أن وراء كل قرار تتخذه الحكومات الإسرائيلية، أهدافا مخفية بعيدة المدى، فما من قرار يؤخذ بحرفيته فقط. نعم، تهدف إسرائيل منذ عقود في محاولات محمومة لتحويل الصراع الفلسطيني العربي ـ الصهيوني من صراع وطني تحرري للضحية المعتدى عليها، ضد المعتدي السارق للأرض الفلسطينية، وللتاريخ والتراث والحضارة الفلسطينية، إلى صراع «يهودي مع كل من الإسلام والمسيحية»، وكأن صراع شعبنا هو مع الديانة اليهودية! هذا تضليل إرهابي وتحوير مقصود لشكل الصراع، لأن الكيان هو المستفيد الأول والأخير من هذا التحوير، ولأننا ندرك حقيقة الصهيونية، فإن اسطوانتها المقبلة ستكون: الكره الإسلامي ـ المسيحي ـ العربي، لليهود كيهود! بمعنى آخر ستلصق بنا تهمة «العداء للسامية»! التهمة الجاهزة إسرائيلياً وصهيونياً لإلصاقها بكل من يتحدث عن حقيقة: عدوانية وعنصرية ومذابح إسرائيل واغتصابها للحقوق الوطنية الفلسطينية والأخرى العربية، وللدليل على صحة ما نقول: فإن مجموعة القوانين والاقتراحات التي تحاول الكنيست الإسرائيلية تشريعها، هي جزء من الهدف الاستراتيجي الساعي لإصرارها على تحقيق «يهودية الدولة». إسرائيل تسعى إلى بسط سيادة الاحتلال على المسجد الأقصى، كما بسطته على الحرم الإبراهيمي في الخليل، وقد صادقت الكنيست على قانون ياريف ليفين، الذي يميز بين المسيحيين والمسلمين من فلسطينيي 48، وإن محاولاتها مستمرة لممارسة التمييز العنصري بين أبناء الشعب الفلسطيني من مسيحيين ومسلمين ودروز .من جهة ثانية، سنّت الكنيست قانون «الدولة القومية»، الذي ينفي حق الشعب الفلسطيني في وطنه، وقانون إسكات آذان المساجد. اليهود يعتقدون بامتياز «التوراة» على الكتب السماوية الأخرى، وأنهم خارج الشعوب وفوق المجتمعات، و»أن كافة الأجناس الأخرى، أقل قدراً عند الله من اليهود، لذلك فهم فوق كل الشعوب». هذا ما يقوله بعض مفكريهم المعروفين.

قد يعجبك ايضا