الدكتور أمين محمود يتحدث عن مشروع للاستيطان اليهودي في ليبيا بدايات القرن العشرين

انتشار الجماعات الإرهابية وعدم الاستقرار الأمني في ليبيا




مدارات عربية – السبت 2/5/2020 م …
د.أمين محمود … وزير أردني أسبق …

نشر نائب رئيس الوزراء الاسبق ووزير التربية والتعليم الاسبق الباحث الاستراتيجي الدكتور أمين محمود مقالا قال فيه إن اليهود حاولوا الاستيطان في ليبيا مطلع عام ١٩٠٤.

وبحسب مقال محمود الذي عنونه بـ “مشروع الاستيطان اليهودي في ليبيا”، ساعد على نمو الاطماع الصهيونية في ليبيا ازدياد خطر الغزو الايطالي المسلح وتشجيع بريطانيا للوالي العثماني رجب باشا بالسماح لليهود بالتغلغل الاقتصادي والاستيطاني في ليبيا وذلك لإيجاد قوة تستطيع الوقوف في وجه الغزو الايطالي وقد أبدى رجب باشا موافقته خاصة ان الأوضاع الاقتصادية في ليبيا كانت متردية ورأى في النشاط االاقتصادي اليهودي وسيلة لتحسين هذه الأوضاع.

وتاليا مقال محمود:

تعود المحاولات الصهيونية لاستيطان ليبيا الى مطلع عام ١٩٠٤ حين اكتشف هرتزل ما كانت تبيته إيطاليا من نوايا استعمارية تجاه ليبيا ، فتقدم الى الملك الايطالي باقتراح يرمي الى تحويل مسار الهجرات اليهودية من أوروبا الشرقية الى ليبيا ليستوطنها اليهود ويقيموا فيها حكما ذاتيا في ظل القوانين الإيطالية . وكان الرد الذي تلقاه هرتزل من الملك الايطالي يتضمن عدم إمكانية بلاده تقديم الدعم للمنظمة الصهيونية في هذا المجال لان ليبيا لا تزال خارج سيطرته ولا سلطان له عليها . ويبدو ان الملك الايطالي اثر عدم تقديم اَي تعهد ملزم للمنظمة الصهيونية خوفا من افتضاح نوايا إيطاليا الاستعمارية تجاه ليبيا وما يمكن ان يسببه هذا من مشاكل في علاقاتها مع الدول الأوروبية الاخرى وخاصة بريطانيا وفرنسا بالاضافة الى الدولة العثمانية .

تجددت المحاولات الصهيونية لاستيطان ليبيا في أعقاب وفاة هرتزل ، بإشراف المنظمة الصهيونية الإقليمية ، وكانت هذه المنظمة تعرف باسم ITO وهي اختصارلاسمها باللغة الانجليزية International Territorial Organizationوقد انشقت عن المنظمة الصهيونية العالمية عام ١٩٠٥ احتجاجا على رفض الموتمر الصهيوني السابع لمشروع يوغندة ، وقد تزعم المنظمة اسراىيل زانغويل (١٨٦٤- ١٩٢٦) ،. الذي ولد ونشا في لندن وكان من انشط الصهاينة فيها وكانت بدعوته الاستيطانية ترمي الى اختيار اَي منطقة في العالم لتوطين يهود أوروبا الشرقية دون الاصرارعلى الرابطة الأسطورية بين اليهود وفلسطين ) .زعيم المنظمة ان الهدف الأساسي الذي تهدف منظمته لتحقيقه هو الحصول على اَي اقليم لتوطين اليهود الذين لا يستطيعون البقاء في البلاد التي يقيمون فيها وخاصة يهود أوروبا الشرقية شريطة ان تكون بقعة استيطانية مناسبة يتوفر فيها المناخ المعتدل والتربة الصالحة للزراعة وان تكون منطقة ساحلية واقعة بمحاذاة البحر ، وادا ما تم تأمين هده البقعة الاستيطانية فعلى المستوطنين اليهود السعي لإقامة حكم ذاتي موقت في طل الدولة المسيطرة عليها . وقد دعت المنظمة الى ضرورة صهر هؤلاء المستوطنين اليهود في بوتقة واحدة بحيث يتم القضاء على أية فروق او خلافات بينهم من الممكن ان تؤثر على مجرى العمل الاستيطاني . كما دعت المنظمة الى ضرورة إقامة صلات وثيقة مع الحكومات الأوروبية على اختلاف أنواعها ومع شتى المؤسسات العامة والخاصة سواء كانت يهودية او غير يهودية بغية تأمين مصادر كافية تضمن تمويل الإنفاق على عملية الاستيطان .

بدا اهتمام المنظمة الصهيونية الإقليمية بموضوع الاستيطان اليهودي في ليبيا في أعقاب زيارة Nahum Slouschz الذي كان متخصصا بدراسة الشمال الأفريقي . وكان عضوا في اللجنة التي ارسلها زانغويل لدراسة برقة ومعرفة مدى صلاحيتها للاستيطان اليهودي وذلك عام ١٩٠٦ حيث قدم تقريرا الى زانغويل تضمن انطباعاته الإيجابية عن تلك الزيارة واستعداد السلطات العثمانية هناك لقبول فكرة انشاء مستوطنات يهودية في منطقة الجبل الأخضر الواقعة في برقة.

وبالإضافة. الى استعداد الدولةالعثمانية لقبول فكرة انشاء مستوطنات يهودية في منطقة الجبل الأخضر بولاية برقة ، أوعزت الحكومة البريطانية الى قنصلها العام في تونس بان يقترح على زانغويل فكرة انشاء وطن قومي لليهود في منطقة الجبل الاخضر وارسال بعثة بدراسة المنطقة مؤكدا له استعداد والي ليبيا العثماني رجب باشا لتقديم جميع التسهيلات الممكنة لافراد هذه البعثة خاصة يعد تولي جماعة الاتحاد والترقي زمام الأمور في الدولة العثمانية .

قام زانغويل وأعضاء منظمته بدراسة الاقتراح البريطاني ووجدوا في الجبل الأخضر مكانا يصلح للاستيطان اليهودي واتفقوا على إرسال بعثة خاصة من الخبراء الصهاينة لدراسة احوال المنطقة . وقد أعلن زانغويل منذ البداية ان ولاية برقة تتمتع بمزايا ومواصفات تتفق واهداف منظمته . فالمنطقة تقع على الشاطىء الجنوبي للبحر المتوسط مما يسهل عملية جلب المهاجرين اليهودالصهاينة من أوروبا الشرقية . كما ان قرب برقة من فلسطين أدى الى تصور الكثيرين من اليهود ان بمقدورهم الانتقال منها في مرحلة لاحقة الى * ارض الميعاد *.وبالاضافة الى ذلك فان برقة – حسب معتقداتهم – تتمتع بمكانة خاصة في التراث اليهودي القديم حيث كانت المنطقة ماوى لعدد كبير من اليهود ايّام الإسكندر المقدوني والبطالمة ، وبالتالي فهي بالنسبة للكثير من اليهود أوثق اتصالا بالتاريخ اليهودي من قبرص او يوغندة او غيرهما من البلدان التي اقترحت للاستيطان اليهودي، ونظرًا لقلة السكان الأصليين في برقة فقد رأى زانغويل انه من السهل تحقيق غلبة النفوذ اليهودي وضمان تفوقه العددي عن طريق جلب إعداد كبيرة من اليهود الى برقة ودفع السكان الأصليين للهجرة الى الصحراء. وَمِمَّا ساعد على نمو الاطماع الصهيونية في ليبيا ازدياد خطر الغزو الايطالي المسلح وتشجيع بريطانيا للوالي العثماني رجب باشا بالسماح لليهود بالتغلغل الاقتصادي والاستيطاني في ليبيا وذلك لإيجاد قوة تستطيع الوقوف في وجه الغزو الايطالي وقد أبدى رجب باشا موافقته خاصة ان الأوضاع الاقتصادية في ليبيا كانت متردية ورأى في النشاط االاقتصادي اليهودي وسيلة لتحسين هذه الأوضاع .

وفِي منتصف عام١٩٠٨ وصلت بعثة خبراء صهيونين الى مدينة طرابلس الغرب وكان يرأسها البروفيسور جريجوري Prof. G. W. Gregory أستاذ التكنولوجيا بجامعة جلاسجو البريطانية ، وكانت البعثة تضم أيضا كلا من جون تروتر John trotter الزميل بالجمعية الزراعية للأراضي المرتفعة في إسكتلندا، وقد أنيطت به مهمة دراسة الأوضاع الزراعية في برقة ، ووريجنالد مدلتون Reginald Middleton وولتر هنتر Walter Hunter وماثيو دف Mathew B . Duff وشارك هؤلاء في دراسة الموارد الماىية . كما ضمت البعثة أيضا كدر M.M. Order الذي أنيطت به مسؤولية دراسة الأحوال العلمية في برقة ، اما الدكتور ناحوم سلوش فكانت مهمته دراسة الخلفية التاريخية لليهودية واليهود في برقة كأساس لقيام الوطن اليهودي فيها. وقام القنصل البريطاني في طرابلس الغرب جوستين الفاريز Justin Alvarez بمهمة استقبال البعثة وتقديمهم الى الوالي العثماني الذي استقبلهم بمنتهى الود وسمح لهم باصطحاب سكرتيره لتسهيل مهمتهم مع السلطات العثمانية المحلية في برقة، وأمضت البعثة مدة ثلاثة أسابيع في برقة اجرت خلالها غمليات بحث ودراسة في طبيعة المنطقة تركزت على احوالها الزراعية ومواردها الماىية وعادت في نهاية المدة الى لندن لإعداد تقريرها عن مدى صلاحية اقليم برقة للاستيطان اليهودي.

صدر التقرير عام ١٩٠٩ وأطلق عليه اسم الكتاب الأزرق، وكان يحتوي على مجموعة من الخرائط اضافة الى.مقدمة تاريخية سياسية أعدها زانغويل وعدة تقارير تشمل الأحوال الزراعية في برقة وموارد المياه فيها اضافة الى طبيعة المناخ الذي يسود فيها . وفِي تعليق للمورخ الليبي مصطفى بعيو ان مقدمة الكتاب التي أعدها زانغويل نفسه تتضمن معلومات غاية في الأهمية عن الاطماع الصهيونية في ليبيا بشكل عام ومنطقة الجبل الأخضر في برقة بشكل خاص. فقد تحدثت عن المؤامرات التي حاكها الصهاينة ضد السلطان عبد الحميدلمعارضته الاستيطان اليهودي الجماعي في فلسطين وعبرها من الممتلكات العثمانية ، كما اشارت آلى الدور الصهيوني في ثورة الاتحاد والترقي . وقد تضمن التقرير مجموعة من المقترحات كان أهمها
١- العمل على خلق وضع مستقر في المنطقة عن طريق إقامة علاقات وثيقة مع الأتراك العثمانيين ليوفر ا للمستوطنات اليهودية الحماية الكافية في مراحل نشأتها الاولى . كما دعا التقرير
الى إقامة علاقات ودية مع السنوسيين لتأمين عدم مناهضتهم لمشروع الاستيطان اليهودي خاصة في مراحله المبكرة . ٢- التركيز على جلب مستوطنين صغار في السن على شكل جماعات صغيرة تضم عشرة او عشرين أسرة يهودية كل بضعة أسابيع ، بحيث لا تسبب إحراجا للوالي العثماني ولا ردود فعل لدى أهل البلاد . ودعا التقرير الى ضرورة قيام.المستوطنين أنفسهم بالاعمال اللازمة لمستوطناتهمم والامتناع عن.ادخال عناصر غريبة لتعمل بينهم ، والمقصود هنا بالطبع سكان البلار الأصليين
٣- الاستيطان. بالمنطقة الشمالية من اقليم برقة وعلى السهل الساحلي بالذات .نظرا لسقوط امطار كافية في فصل الشتاءوزطوبة الندى في فصل الصيف وتبلغ مساحة هده المنطقة حوالي ٦الاف متر مربع .
٤- تقسيم الارض الزراعية الى مساحات تتراوح بين ٢٠-٣٠ فدانا بحيث تؤمن كل مساحة معينة احتياجات أسرة واحدة . وقد دعا التقرير الى استتخدام طرق زراعية متقدمة ونظام الدورات الزراعية
٥- حماية ثروة الغابات لضمان مورد للأخشاب لاستعماله في الوقود وأغراض اقتصادية اخرى نظرا لارتفاع أسعار الفحم .
٦- ضرورة بناء البيوت بشكل خاص بحيث يتيح تخزين الأمطار في خزانات خاصة لأستعمال الأفراد اليومي . كما دعا التقرير الى بناء الخزانات الكبيرة لجمع مياه الأمطار ومنعها من التسرب الى البحر . وبالإضافة الى ذلك فقد بين التقرير ضرورة القيام بدراسة وافية لمواقع عيون الماء للاستفادة منها والعمل على حفر الآبار الارتوازية اللازمة. ٧- ضرورة شراء عيون الماءالموجودة بحوزة أهل البلاد وهدا يحقق للمستوطنين هدفين ؛ الاول الاستفادة من مياه العيون والتأني حرمان السكان من الماءمما يضطرهم للرحيل بعيدا عن مناطق الاستيطان بحثا عن مصادر مياه اخرى .٧-انشاء طرق مواصلات حديثة .
٨- انشاء شبكة بترك يهودية لشراءاراض واسعة في ليبيا والجبل الأخضر .
الا ان وفاة رجب باشا يوم اختياره وزيرا للحربية في حكومة الاتحاد والترقي ، وانشغال الاتحاديين بالمشاكل الداخلية الحادة ، جعل امر الدعم العثماني للاستيطان اليهودي في ليبيا أمرا غيرر ذي بال. ومما زاد الموضوع تعقيدا تصاعد الاطماع الايطاليةالتي انتهت بالغزو الايطالي لليبيا واحتلالهاعام ١٩١١ رغم احتجاجات بريطانيا والصهاينة. وقبل ان يتاح المجال لمعالجة الموقف كان العالم برمته يندفع في غمار الحرب العالمية الكبرى .وهكذا قضي على
مشروع انشاءالوطن اليهودي في ليبيا وان بقيت الفكرة تختمر في ذهن البعض من الصهاينة لتنطلق من جديد متى يلوح لها المجال وحين يصبح التدهور والتشرذم العربي مواتيا لهيمنة القوى الطامعة

قد يعجبك ايضا