هل سيبقى العالم على هيئته بعد كورونا؟ / جريس سماوي

جريس سماوي* ( الأردن ) – السبت 28/3/2020 م …
* وزير الثقافة الأردني الأسبق



لعل هذه اللحظة التاريخية التي نمرّ بها تضعنا أمام سؤال يتعلق بمستقبل الإنسان ومستقبل الكوكب. فلقد عصفت بالعالم حوادث و تحديات جمّة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية التي شكلت ملامح العالم الجديد بصورته الحالية. ومرّ العالم منذ القنبلة النووية على هورشيما وناغازاكي بأحداث أقتربت قليلا أو كثيرا من نقطة الصفر على تقويم ساعة يوم القيامة الذي وضعه العلماء ليقيسوا من خلاله اقتراب العالم من نقطة الخطر أو إبتعاده عنها. أبتدأ التقويم عام 1947باقتراب العالم من نقطة الصفر أي الخطر بإحدى عشرة دقيقة ثم أصبحت عام 1953دقيقتين فقط لتصبح دقيقتين ونصف في شهر كانون ثاني 2017.
لقد حدثت أخطار عديدة منذ انتهاء الحرب، وعوضا عن أن يصبح العالم عالما متصالحا خاليا من الحروب والأوبئة والتلوث، تسابقت الدول الكبرى نحو التسلح وتقاسم مناطق النفوذ وتخلت الدول التي تقود العالم عن التزاماتها في معاهدات تختص بالحفاظ على المناخ ومنع التلوث وتفوّقت في تطوير الأسلحة والصواريخ والحروب وإثارة النزاعات والتدخل فيها ودعم الإرهاب واستثماره الى أن وصل ميزان العالم الى إختلال أخل بدوران الكوكب وإيقاعه وحركته وإيقاع البشر على سطحه.
الحضارة الإنسانية التي وصلت الى أوجها في الوصول الى الكواكب وتحليل الذرة من أجل سباق التسلح وتفوّق القوة تعجز الآن عن مجابهة فايروس لا يرى بالعين المجردة. وفي خضم صعود الليبرالية الجديدة في صورتها الإقتصادية المتوحشة وفتح العالم كله كمناطق نفوذ لها فيما يعرف بعولمة الإقتصاد وعبور رأس المال متخطيا حدود الدول عبر الشركات عابرة القارات، كان لا بد للعالم أن يعاني من تراجع برامج الأهتمام بالإنسان وبرامج تطوير الرعاية الصحية وحزم الأمان الإجتماعي والمحافظة على البيئة والمناخ أي الحفاظ على الإنسان.
هل سيبقى العالم على نفس هيئته بعد فيروس كورونا؟
لا أعتقد ذلك. سوف تتراجع العولمة لصالح الدول الوطنية وتتراجع الشركات عابرة القارات لصالح الإقتصاد الوطني في كل دولة وسوف تتغير كثير من السلوكيات التي عاشها العالم لأمد طويل.
اتساءل هل سيبقى النقد الورقي مثلا مهيمنا على سوق المال أم يستعاض عنه بالكامل بالنقد الإفتراضي والدفع عن طريق الانترنت؟
وهل سيسمح العالم لتغول الرأسمالية العالمية والليبرالية الجديدة التي عصفت بالعالم بالإستمرار بالسيطرة على مقدرات الدول الأقل حظا في هذا العالم ؟
لا بد أن يفكر العالم من جديد في إعادة إنتاج بعض المفاهيم الإشتراكية وتطبيقها وخصوصا تلك التي تتعلق بالتأمينات الطبية والرعاية الصحية لكافة أفراد المجتمع وحزم الأمان المجتمعي وضمان التقاعد والشيخوخة ومواجهة الكوارث البيئية والأوبئة إذ أن أنظمة الإقتصاد الرأسمالي تبقى عاجزة في هذا الإطار.
لقد أقصت ثقافة السوق المتوحشة الثقافة الأصيلة للأنسان، ومال الناس الى شبق التسوق والإستهلاك، وبات الإتجاه نحو الفنون والثقافة والشعر من الكماليات بعد أن كانت جزءا أصيلا من وجدان الناس فيما مضى، وتراجع دور المثقف المبدع بعد أن كان دوره قياديا وأصيلا فيما مضى.
أعتقد أن الثقافة ستعود لتأخذ موقعها الريادي في المجتمعات. لكن هل ستكون هذه الثقافة هي نفسها تلك الثقافة التقليدية التي عهدناها أم ننتظر ثقافة جديدة تعبر عن المرحلة وتكون بحجم ما هو متوقع من طموح إنساني؟
لا بد أن هذه الأزمة ستضعنا جميعا أمام مسؤوليات جديدة فيما يتعلق ببرامج الرعاية الوطنية والتضامن الإجتماعي لكل دولة والدعم المتبادل بين الدول وتبادل الخبرات والخيرات أيضا.
الان يبحث العالم عن علاج لهذا الفايروس، ولا يهم من يكتشف هذه العلاج فالمسألة هي إنقاذ البشرية وهذا قياس سينسحب في المستقبل على مستقبل العلاقات بين الدول أي أننا أمام مرحلة لا بد من أن تقوم دول العالم بالبحث عن أسس ومواثيق جديدة لصيانة السلام العالمي والمحافظة على الكوكب وأخذ الأخطار المحدقة بالعالم على محمل الجد، وهذا مدعاة أيضا الى أن تبدأ شعوب العالم، ولعلها ستفعل، في أن تفكر جديا وملّيا عندما تذهب الى صناديق الإقتراع لأنها من خلال ذلك ستنتخب من سوف يحميها ويحمي مستقبل أبنائها من خلال وضع القوانين والتشريعات والأتفاقيات العالمية التي تؤمن لها العيش الآمن وتحافظ على السلم العالمي وليس من يؤجج فيها نزاعات الفكر القومي الشوفيني وبالتالي ما يحتاجه العالم في المرحلة القادمة هو الحفاظ على الكوكب وحمايته وإعادة النظر في هذا الصخب من أجل إتاحة مساحة للهدوء وإعادة إنتظام إيقاع دوران الكوكب الذي نحب من أجل أن نبتعد عن ساعة الخطر في تقويم ساعة يوم القيامة.

قد يعجبك ايضا