فورة دم  / العميد ناجي الزعبي




العميد ناجي الزعبي ( الأردن ) – الأحد 8/3/2020 م …
 استقليت ” عزيزة ” سيارتي الفولكس فاجن  بحوالي الساعة الخامسة والنصف صباحاً بطريقي للقيادة العامة من اربد حيث كان دوامي هناك  .
عند مروري بمدينة الحصن وامام المركز الامني شاهدت وكيل شرطة يقف منتظرا مركبة تقله ،
اشار لي بيده فتوقفت، ادى التحية وقال : هل تسمح لي بمرافقتك  الى عمان سيدي؟
  قلت  :  يا هلا تفضل
استقل السيارة الى جانبي .
انطلقت  وفي الاثناء انتظرت منه ان يتحدث وألقيت نظرة عليه فوجدته قد استسلم لاغفاءة قسرية برغم انه استقل سيارتي منذ دقائق قليلة .
ران صمت طويل وانا منشغل بالقيادة وهومستسلم   لاغفاءته  .
اجتزنا مخيم البقعة واصبحنا في اول صعود عين الباشا
حين لمحت طفلة بالعاشرة من عمرها ترتدي الزي المدرسي تقف على يمين الشارع وتحاول اجتياز ضفته اليمنى الى اليسرى بالطبع كنت اسير على يمين الشارع  .
اطلقت زامور سيارتي ، فتنبهت الطفلة وعادت  لتقف يمين الشارع .
تيقنت انها تنبهت لاننا نقترب منها فاستمريت بنفس سرعة مركبتي لكنها فجأة وبعد ان اصبحت على مسافة بضعة امتار قليلة اجتازت الشارع راكضة ،  فاصبحت امام مركبتي .
حاولت تفادي الاصطدام بها وانحرفت يمينا لكنني لم اتمكن من تفاديها تماماً .
اصطدمت بجناح مركبتي اليسار فانكسر ضوئها وسمعت اصوات الزجاج وهي تتساقط على الارض وصوت ارتطام  الطفلة بجناح السيارة الأيسر   مؤلماً  وهي تتدحرج لتستقر على يسار الشارع .
توقفت  على يمين الشارع وترجلت من مركبتي
كانت المنطقة خالية تماماً و الساعة حوالي السادسة وبضعة دقائق ،
قلت للوكيل : ساعدني لنسعف الطفلة اسرع ، ومضيت اليها ،
 القيت نظرة ،
 كانت غائبة عن الوعي او ربما توفيت كما اعتقدت ،
قلت للوكيل : ارجو ان تساعدني في نقلها للسيارة اسرع .
وحين تلفت لم اجده ، تجولت بنظري بالمكان لكنه كان قد   اختفى انشقت الارض وابتلعته !! ولم يكن لدي وقت للتفكير فحزمت فكما تعلمنا في معاهدنا وكلياتنا العسكرية على العسكري ان يكون يقظاً متوقد الذهن حاضراً مبادرا حين يغرق الناس في الذهول ويعجزون عن المبادرة يقوم العسكري بإيقاظ الجميع ، لكني ترددت فربما لو حركت الطفلة أضاعف إصاباتها تلفت حولي كانت المنطقة خالية تماماً ولا امل ان يمر احداً ليساعدني والوقت يمضي سريعاً مما قد يضاعف مخاطر الطفلة
تأملت جسدها الملقى على الارض فأحسست بخنجر ينغرس في جسدي ، لكن ايضاً تذكرت ان على ان أتخذ قرارا فالقرار الخاطئ خير من لا قرار .
 حزمت  امري واتخذت قراري  و حملت الطفلة ومددتها علىج كرسي مركبتي الخلفي ، ثمرعدت وأخذت حقيبتها المدرسية  ،
 وجلست على مقعدي وانطلقت دون انتظار وكيل الشرطة الذي غاب وكان ذلك موضع سخطي فكيف يفعل ذلك وهو واجبه اولاً وهو السبب فلولا تأخري لما كنت صادفت الطفلة وكان من باب الشهامة ورد الجميل ان يمد يد المساعدة .
كان كل همي ان انقل الطفلة المصابة لاقرب مستشفى لاسعافها  برغم اعتقادي بوفاتها. فمسألة انها طفلة وانا من تسبب بإصاباتها كانت موجعة ومؤلمة جدا كنت اشعر بوخز الضمير والإحساس بالذنب والسخط عما تسببته للطفلة التي كان ينبغي ان تكون بصفها المدرسي بين زميلاتها ،كيف سيكون احساس والدتها ووالدها وأسرتها ،  اي وجع هذا   .
 برغم  ان المسافة للمدينة الطبية هي نفسها لمستشفى الجامعة الاردنية الا انني انطلقت لمستشفى الجامعة الاردنية وللآن لست ادري ماذا كان السبب ربما لاعتقادي للوهلة الاولى انه الأقرب والأسهل للوصول اليه برغم انني سألقي عناية اكبر في مستشفى عسكري لكن هذا ما حصل .
كنت اشعر بالألم والاسى لماذا حصل ما حصل ما ذنب هذه الطفلة وما مصيرها وكيف يمكن ان تموت وهي لا زالت بالعاشرة من العمر
وماهو شعور والدتها ووالدها وأسرتها لكن   .
 اثناء  سيري سمعت صراخ الطفلة وتألمها
وهي تقول : يابييي  يا يماااا  …
 كان واضحاً انها تصرخ من الالم ولم تمت وبرغم ان صراخها المني وضاعف أوجاعي الا انتي  ارتحت كثيراً فقد ايقنت انها على قيد الحياة سرعان ما وصلت للمستشفى فقد كانت الطرق شبه خالية والهدؤيعم المكان  .
 استقبل الاسعاف الطفلة  ، ثم أخذوني لغرفة السجل فدونت  المعلومات المطلوبة مني  .
غادرت المستشفى وعدت بسيارتي الى مكتب الشرطة العسكرية بصويلح لاسلم نفسي وادون معلومات  الحادث ،
 كما تقتضي الاجراءات العسكرية ، استقبلني مكتب   الشرطة العسكرية واخذ افادتي .
 واتصلت  بقيادتي اجابني النقيب عواد المعايطة ” اللواء لاحقاً “
قلت له  : لقد قمت بصدم طفلة بسيارتي وسلمت نفسي للشرطة العسكرية بعد اخلاء الطفلة للمستشفى وسابلغ مركز امن البقعة بذلك واقوم بالاجراءات العشائرية المتبعة .
اجاب : لقد قمت بالاجراء الصائب تستطيع فعل ما تراه مناسباً من اجراءات   ، ثم اوعز للشرطة العسكرية باتخاذ الاجراءات المناسبة وبأن يعتروني   ملتحقاً بوحدتي ( بمعنى اطلاق سراحي )  .
غادرت الى مركز  امن البقعة وابلغتهم بارتكابي الحادث مع تفاصيل تتعلق بالطفلة التي حصلت  عليها من حقيبتها المدرسية ،
حصل المركز الامني على عنوان الطفلة واطلعوني عليه .
  قبل ان اغادر اجريت اتصالا مع والدي ابلغته بالحادث وقلت له بانني ساتصل بجدي وساتصرف على ضؤ توجيهاته ، قال لي بكل الاحوال سيبلغ عدد من الوجهاء لتشكيل جاهة لزيارة اهل الطفلة .
اتصلت بجدي الذي قرر بالفعل ان تقوم جاهة بزيارة اهل الطفلة مساء اليوم وسيكون منها وجيه معروف من عشيرة العزة بسبب اصوله الفلسطينية ومكانته المرموقة  ،
اجريت سلسلة اتصالات مع اقاربي وابناء العمومة ،
سالني احدهم : هل توفيت الطفلة ؟
اجبت  : لا
قال :  الحمدلله على سلامتها اتعلم لو انها توفيت لا سمح الله لكانت المسألة اسهل
قلت مستغرباً : كيف !!
اجاب : الم تقل انها من مخيم البقعة اذا هي من اصول فلسطينية
تساءلت  : وماذا يغير ذلك في المسألة ؟
  اجاب الفلسطينيون اكثر تسامحاً وكرماً تأكد .
ستلمس ذلك عند حضورنا
وكرر الفلسطينيون  في مثل هذه الحالات اكثر سماحة ونبلاً وتسامحاً لدرجة تفوق اي شعب آخر ،
باي حال اعتبر ان المسألة محلولة اطمأن
 قلت : لماذا ؟
اجاب : هذا الشعب ضحى كثيرا وتعود اي يقدم الدماء والتضحيات للتحرير وبرغم شراستهم مع الاعداء الا انهم   الاكثر نبلاً في مثل هذه الحالات .  ،  .
 .غادرت المركز الامني لمنزل الطفلة ،  وقد كان قريباً من مكان الحادث في وسط بستان مكون من طابقين  ، صعدت للطابق الثاني الذي كان عبارة عن قاعة كبيرة فوجدته ممتلئاً بالحضور ،
توقف بمدخل القاعة مرتدياً زيي العسكري
القيت تحية الصباح
نهض الحضور جميعا واجلسوني  انا الملازم اصغرهم سناً في  صدر ديوانهم ..!!
قلت لهم انا : من صدم ابنتكم ورويت لهم ما حدث ،  وقد اسعفتها  ونقلتها لمستشفى الجامعة الاردنية
قال  المتحدث باسمهم : وسط دهشتي  نحييك ونشكرك لانك اسعفتها فقد كانت المنطقة خالية وكان بامكانك الفرار
ولولا براءتك لما حضرت الينا بنفسك خلافاً للمعتاد وافصحت  عن نفسك واسمك وعنوانك ومدينتك واسرتك .
قلت : هذا منتهى الكرم ونبل الخلق ، واردفت ستقوم جاهة بزيارتكم مساء اليوم
اجمع الجميع بعدم ضرورة ذلك فالحادث صدفة غير متعمدة ، وابتسام مخطئة .
قلت لقد تم ترتيب الجاهة ولا مجال للعودة عن ذلك لنذهب للمستشفى للاطمئنان علي ابتسام .
توجهنا قافلة من السيارات الى المستشفى واصطحبت والد ابتسام وعمها ، وعند وصولنا قابلني على الباب طبيب شاب اقترب مني وقال :
تعال معي ..
قلت :  الي اين ؟
اجاب :  ستعرف بعد قليل .
مضيت معه بينما انشغل اهل ابتسام  وكان هذا هو اسمها  بالسؤال عنها وعن مدى خطورة اصابتها وقد تبين اصابتها بثلاثة كسور ليست خطرة .
ادخلني الطبيب لغرفة انيقة بها سرير ،وطلب من المراسل احضار افطار مع الشاي
وغادر الغرفة بعد  ان  رجاني الا اغادر الاعند عودته !!
بعد غياب امتد لنصف ساعة تقريبا عاد الى الغرفة
كنت قد ارتحت وتناولت افطاري وبضع اكواب من الشاي .
قال : اتعلم لما طلبتك لغرفتي رجوتك  عدم المغادرة ؟
قلت : بصراحة لا
اجاب  : اتعلم انك ارتكبت خطأً فادحاً حين ذهبت لاهل ابتسام ، وحين حضرت معهم ، ووقفت معهم في باحة المستشفى ؟؟!
قلت مستغرباً : لماذا ؟
اجاب : الا تسمع بشئ اسمه  (فورة الدم ) وانت ابن عشيرة كبيرة عريقة !! ، الا تعلم انه كان من الممكن ان يقوم احد من اقارب ابتسام بقتلك او  ضربك ؟
قلت : صدقني لقدكانوا بمنتهى النبل وكرم الخلق والسماحة .
قال : ولو كان ينبغي الا تفعل ولو من باب مراعاة مشاعرهم .
ادركت الخطأ  وثمنت كثيرا موقف اهل ابتسام النبيل .
 وموقف هذا الطبيب  الشهم الكريم  .
قال : اتعرف من انا ؟
اجبت : اعتذر لانني لا اعرفك .
قال : انا الدكتور احمد الجهماني زوج ابنة عمك هيا  زيد الفواز الزعبي .
قلت وانا اشعر بالحرج الشديد : اعتذر لجهلي بمن تكون واشكرك على نخوتك ونبلك .
   مساء ذلك اليوم قامت الجاهة بزيارة اهل ابتسام ، وتحولت الى مهرجان للوحدة الوطنية وقد اسقط اهل ابتسام حقهم في اي شئ  .
استمر علاجها اربعين يوماً ، غادرت بعدها متعافية بعد ان توطدت العلاقة بين اسرتها واسرتي وبي شخصياً  .
اتمنى ان تكون الان واسرتها بالف خير .
لا ازلت ادين بالفضل لاهلها وللجاهة الكريمة وللدكتور احمد الجهماني  الصديق العزيز .
كما انني اتمنى للاستاذة ابتسام ابراهيم عبيد موفور الصحة والعافية راجيا ان تسامحني بسبب الاذى الذي الحقته بها دون قصد .

قد يعجبك ايضا