عن الأمن الغذائي والمُبيدات والأغذية المُلَوّثة … استهتار رأس المال بصحة البشر والمحيط / الطاهر المعز

نتيجة بحث الصور عن المبيدات والأغذية الملوثة

الطاهر المعز ( تونس ) – الخميس 27/2/2020 م …

مقدمة:




تُعتبر الفلاحة قطاعًا اقتصاديًّا هامًّا في معظم بلدان العالم، وخصوصًا في البلدان الفقيرة، حيث يُمكن، من خلال الإهتمام بالزراعة وتربية المواشي، تحقيق الإكتفاء الذّاتي الغذائي، وإنشاء قطاع صناعات غذائية، لتصنيع ما زاد عن حاجة السّكّان، ولتصدير بعض الإنتاج الزائد، مُصنّعًا، وليس خامًّا، ولذلك تُخصص الدّول الرأسمالية المتقدّمة مبالغ هامة لدعم قطاع الفلاحة، وتَحْظُرُ على الدّول الفقيرة، عبر البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها، دعم الزراعة، أو المواد الغذائية، بل يشترط الدّائنون استيراد المواد الغذائية الأساسية من الدول الرأسمالية المتطورة…

ارتفع الإنتاج العالمي من الغذاء، بحجم يزيد عن حاجة سُكّان العالم، لكن ارتفاع حجم الإنتاج لم يقضِ على الفقر والجوع، لأن الإنتاج الغذائي يخضع للإحتكارات، ولشبكات نقل المواد الزراعية والغذائية، وتخزينها وتسويقها، وتوزيعها، وبيعها بأسعار مُضاعَفة، فيما يصل حجم هَدْر الإنتاج الزراعي إلى حول ثُلُث الكميات المُنْتَجَة، ويعود ارتفاع الإنتاج في بعض أسبابه، إلى استخدام الآلات الزراعية والتطبيقات العلمية، بشأن المناخ أو استخدام المياه بطرق عقلانية، بالإضافة إلى التّعديل الوراثي للنباتات، واستخدام الأسمدة الكيماوية، والمبيدات التي تقتل الحشرات، أو النباتات الطّفَيْلية، وتُساهم المبيدات في زيادة الإنتاج، لكن استخدامها يتضمّن مَخاطر عديدة تُهدّدُ صحة الإنسان وتُهدّد سلامة المُحيط…

لمحة عن المبيدات:

يمكن تعريف المبيدات الحشريّة بأنها مواد كيماويّة سامّة، تستخدم لقتل الحشرات وللقضاء على الآفات التي تصيب النباتات، بهدف تقليل الخسائر وزيادة الإنتاج الزراعي، وعند فحص التركيب الكيميائي لهذه المبيدات يتضح تأثيرها السلبي على جسم وعقل الإنسان، عبر التّسمّم، وتأثيرها على المُحيط والنبات، عبر تلويث مجاري المياه السطحيّة، وكذلك المياه الجوفية، وعبر تهديد حياة الحيوانات والكائنات الحيّة، وبالتالي الإخلال بالنظام البيئي…

يستخدم مزارعو العالم حوالي خمسة ملايين طن من المبيدات، بقيمة أربعين مليار دولارا، سنويا، وحوالي 115 مليون طن من الأسْمدة غير الطبيعية (الأسمدة الكيماوية)، بحسب منظمة الأغذية والزراعة (آذار/مارس 2016)، ويستخدم مزارعو البلدان الفقيرة بعض المبيدات المغشوشة، أو التي لم تَعَدْ صالحة للإستخدام، وعلى سبيل المثال، تقدر وزارة الزراعة المصرية حجم المبيدات المغشوشة بنحو 20% من حجم المبيدات المستهلكة، سنة 2016.

يُقدّر عدد المُتعرضين للإصابات، جراء استخدام المُبيدات، في القطاع الفلاحي، بنحو 26 مليون مزارع في العالم، فيما قُدِّرَ عدد المُتضرّرين، الذين وقع إحصاؤهم، جراء استخدام المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب، بنحو ثلاثة ملايين حالة إصابة بالإختناق، تؤدّي إلى ما يصل إلى 225 ألف حالة وفاة سنويًّا، ناتجة بشكل مباشر عن المبيدات، وبينما تستهلك الدول الفقيرة حوالي 25% من الحجم الإجمالي لهذه المُبيدات، تُسجل نسبة 99% من حالات الوفيات الناتجة عن استخدام هذه المُبيدات السّامة، التي تعتبر منظمة الصحة العالمية ثُلُثَها غير صالح للإستخدام، بسبب خطورته على صحة الإنسان وعلى المُحيط… إلى جانب ذلك قدّرت منظمة الأغذية والزراعة “فاو” (الأمم المتحدة)، زيادة مساحة الزراعات المُعَدّلَة وراثيا، بأكثر من خمسة ملايين هكتار سنويا، وفاقت هذه المساحة 200 مليون هكتارًا، سنة 2018، مزروعة بالإنتاج المُعدّل وراثيا، وتتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول التي تُنتج هذه الأغذية المُعدّلة وراثيا، تليها البرازيل، والأرجنتين وكندا والهند والصين، وقدّرت عدد الفلاحين الذين يستخدمون تقنيات الإنتاج المُعدل وراثيا، بنحو عشرين مليون مُزارع في العالم، سنة 2018.

جرائم شركات إنتاج الموت:

قبل حوالي ثلاثة عُقُود انتشرت بعض أنواع الأمراض الجلدية، وأمراض الجهاز التنفُّسِي وبعض أنواع السّرطان (سرطان الدّم) في مناطق من المكسيك، كان سكانها يُهاجرون إلى الولايات المتحدة، للعمل بشكل مَوْسِمي في القطاع الفلاحي، وأدّى البحث عن أسباب الإصابات وانتشارها في مناطق مُحَدّدة، باستخدام علوم الإحصاء ( statistics ) والإحتمالات ( Probabilities )، إلى اسنتاجات، من بينها أن جميع المُصابين عملوا في الولايات المتحدة، في مزارع تستخدم المُبيدات، خصوصًا من إنتاج شركة “مونسانتو”، وأفاد العُمّال أن رؤساء فِرَق العُمّال (وهم من الأمريكيين، غير المهاجرين) يلبسون قُفّازات وأقنعة، عندما يشرحون لهم طريقة استخدام المبيدات، ثم يبتعدون، ما يدل أنهم يعرفون مُسبقًا مَخاطر المبيدات، وأن المعلومات متوفرة ومعروفة، منذ ما لا يقل عن ثلاثة عُقُود.

نشرت هيئة حقوقية ألمانية، يوم الخامس من أيلول/سبتمبر 2019، تقريرًا عن شركة “مونسانتو” (مُصنّع مبيد “رونداب” الذي يحتوي على مُركّب “غليفوسات”)، التي اشترتها شركة “باير” الألمانية، وأورد التقرير أن شركة “مونسانتو” خصصت سنتيْ 2016 و 2017 (قبل تجديد الإتحاد الأوروبي رخصة بيع “غليفوسات” في أوروبا، خريف 2017) 16 مليون دولارا، للإنفاق على عقود علاقات عامة وحملة دعائية تُمَجّد محاسن السُّمُوم القاتلة التي يتضمنها مُبيد “غليفوسات”، بالإضافة إلى رواتب ومِنَح بقيمة سبعة ملايين دولارا، تَسَلمها عُلماء ومُستشارون وصحافيون وسياسيون، للدفاع عن المبيدات الضّارّة التي تنتجها شركة “مونسانتو”، وأنشأت الشركة قاعدة بيانات لتشويه سمعة نحو 1500 شخص في أوروبا، من ضمنهم 250 طبيب، والتّشهير بهم، لأنهم أعلنوا أن استخدام المُبيدات التي تُنتجها “مونسانتو”، قد يُسبب الإصابة  بعض أمراض الجلد، وبعض أنواع السرطان، وغير ذلك من الأمراض الخطيرة…

بعد أكثر من ثلاث سنوات من تجديد رخصة ترويج أحد المبيدات، نشرت مجلة “إنفرونمنتال هيث” (شهر شباط/فبراير 2020) ملخص تقرير جديد أصدره “المركز الدّولي للبحوث حول السرطان”، يؤكد احتمال الإصابة بالسرطان لمستخدمي هذا المُبيد، وسبق أن أكد المركز الوطني (الأمريكي) لعلوم السُّمُوم (National Toxicology Program ) هذا الإحتمال، واغتنم بعض نواب البرلمان الأوروبي (لا سُلْطَة لأعضاء البرلمان الأوروبي المُنتَخَبِين، مقابل السلطات الواسعة للمُفَوّضِيّة الأوروبية التي تُمثّل الحُكُومات) للمطالبة بمراجعة التراخيص التي تسمح بِبَيْع واستخدام هذه المُبيدات السّامّة والمُضِرّة بصحة الإنسان والمُحيط.

يحدُثُ هذا في الدّول الرأسمالية الغنية، حيث تتوفر المُختبرات ووسائل البحث، والعُلماء، ومنظمات حقوق الإنسان، والدفاع عن البيئة السليمة، وغير ذلك مما لا يتوفر في البلدان الفَقِيرة.

تستورد الدّول الفقيرة كميات هامة من المبيدات الحشرية ذات السّمّيّة الحادة، تفوق استهلاك الدول الرأسمالية المتطورة، التي يسود فيها استهلاك مبيدات الحشائش الضّارّة، وتصل حالات التسمم بالمبيدات، التي وَقَع إحصاؤها في الدول الفقيرة، إلى 13 ضعف الحالات التي وقع الإبلاغ عنها في الدول الرأسمالية المتقدمة، ويعود هذا الإرتفاع إلى إهمال حكومات الدول الفقيرة، وضُعْف التّشْرِيعات وغياب الرّقابة وغياب الإعلام الذي يُحَذّر المُزارعين، وارتفاع سعر أدوات حماية المُزارعين والعُمال الزراعيين، وتستغل بعض الأطراف غياب التشريعات وضُعف العقوبات، أو ضعف الرقابة، وجهل المُزارعين، وارتفاع أسعار الأسمدة والمواد الكيماوية، لترويج مواد سامة ومغشوشة، قد تؤدي بحياة المُزارعين في بلدان عديدة، ويتعرض نحو 26 مليون شخص لمخاطر التسمم بالمبيدات السّامة، يموت منهم نحو 225 ألف شخص سنويا، بسبب التسمم الحاد بالمبيدات، خاصة في البلدان النامية. يمكن أن تسبب المبيدات اضطرابات الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، ويمكن أن تحدث الوفاة بسرعة جراء الاختناق أو السكتة القلبية، كما تتسبب بالإصابة ببعض أنواع السرطان الخطيرة، كسرطان الدّم، وتقوم المبيدات الحشرية بدور “مخفف للدم” (مُضاد للتّخَثُّر)، ما يُمكن أن يُسبّبَ نزيفًا خطيرًا، يؤدي إلى الموت في غضون أسبوع على أقصى تقدير، خاصة عند الأطفال، بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، سنة 2016، واعتبرت منظمة الصحة العالمية، سنة 2013، أكثر من سبعين نوع من المبيدات ضمن المواد الخطيرة التي تُسبب اضطرابات الغدد الصّمّاء، وتتسبب المبيدات في ارتفاع خطر العُقم، لدى الرجال والنساء، بنحو 27 مرة، وارتفاع مخاطر الإصابة بمرض “باركنسون” (الإرتعاش) بنسبة 70%، بالإضافة إلى تلويث الهواء والمُحيط، وتسميم المياه والأرض والنباتات والأشجار، وكافة الكائنات الحَيّة، كالعصافير والنّحل، وغيرها.

نَبّهت بعض الدراسات والتحقيقات الميدانية، منذ ثمانينات القرن العشرين، إلى التأثيرات السّلبية للمبيدات الحشرية على صحة الإنسانية، ودَوْرِها في انتشار بعض أنواع أمراض السرطان والأمراض العصبية والاضطرابات التناسلية، وإلى التأثيرات المُدَمِّرَة على الجنين في رحم أُمّهِ وفي فترات النّمو الأولى للطفل.

تَبْدَأُ أعراض (مَظاهِر) التّسَمُّم التي تُسببها هذه المبيدات بألم في البطن، مع احتمال التقَيُّء وتشنج عضلات الحركة، وشحوب لون الوجه، وصعوبة التّنفّس (عدم القُدْرَة على التّنفّس بشكل طبيعي)، قَدْ تليها برودة و تَعَرُّق، وفقدان الوعي، وقد يتناول الأطفال المبيدات الحشرية التي تتسبب في قتل خلايا الأوكسجين، ما قد يُؤَدّي إلى الوفاة.

المُقاوَمة ورُدُود الفعل:

بعد عُقُود من الجُهود، تمكنت بعض الجمعيات ومراكز البحث المُستقلة، من إثبات العلاقة السَّبَبِيّة بين المبيدات وبعض الأمراض، وحالات الوفيات، ولكن الشركات المُنتجة لهذه السّموم تتمتع بنفوذ كبير، ولها من المال ما يجعلها تستأجر (مقابل مبالغ كبيرة من المال) عددًا هاما من مشاهير الباحثين والأطباء الذين يتمكنون من التشكيك في نتائج البحوث التي ينشرها زملاؤهم المُستقلُّون، والإدّعاء أن الأمراض والوفيات، إن حصلت، تكون نتيجة سوء الإستخدام، وعدم الإنتباه، والإستخفاف بالتحذيرات المكتوبة والمُصاحبة لأي نوع من المبيدات…

نشرت وكالة الصحافة الفرنسية يوم الثلاثين من تشرين الأول/اكتوبر 2019، خبرَ قضية جماعية رفعها 42700 متضرر، في الولايات المتحدة، من مبيد الأعشاب “رونداب”، الذي روجته شركة “مونسانتو” العابرة للقارات، وأكبر شركة تُهيمن على قطاع الزراعة (البُذُور والنباتات المُعدّلة وراثيا، والأسمدة، والمبيدات الخ)، وهي أمريكية المَنْشأ، قبل أن تشتريها شركة “باير” الألمانية، مقابل 63 مليار دولارا، وبعد بضعة أشهر ارتفع عدد المُشْتَكين للقضاء إلى أكثر من 47 ألف، وسَبَقَ أن واجهت “مونسانتو” سابقًا و”باير” حاليا، ثلاثة أوامر قضائية لتعويض المُصابين بالسرطان، جراء استخدام مبيداتها، وخصوصًا مادة “غليفوسات”، في كاليفورنيا، لكن محكمة الدّرجة العُلْيا خَفّضت، بشكل كبير، المبالغ المستحقة على الشركة الرأسمالية، في هذه الحالات الثلاث، وأعلن ناطق باسم المجموعة الكيميائية والصيدلانية الألمانية “باير”، اعتزام الشركة الطعن في مبدأ مسؤولية مُنتجاتها عن الإصابة بالسّرطان، رغم البحوث التي كانت تُشير إلى خُطُورة “غليفوسات”، منذ أكثر من أربعة عُقُود، وبالتّوازي مع ذلك، حاولت الشركة تسوية النزاعات، عبر وساطة، تُجنّبها خوض محاكمات طويلة، وما يمكن أن تلحق بها من أضرار معنوية، قد تنعكس سلبًا على سمعتها وعلى مبيعاتها، وعلى قيمة أسْهُمها في البورصة…

يخضع تصنيف خطورة المُبيدات إلى مراحل عديدة وطويلة، وتُعرقل الشركات المنتجة للمبيدات هذه البحوث والدّراسات، فتزيد من طول مدة الفترة الفاصلة بين إعلان احتمال الخُطُورة والتّأكُّد منها بالحجج الدّامغة. تستند شبكة العمل الدّولية للمبيدات ( PAN ) إلى تقييم الحكومات والوكالات الدّولية، وقارنت منظمة “عَيْن العُموم” ( Public Eye ) بالتعاون مع منظمة ( Unearthed ) التابعة للفرع البريطاني لمنظمة “السلام الأخضر”، هذه الدّراسات، بالبحوث الإستقصائية التي أجراها باحثوها، بالإضافة إلى بيانات شركة الإستشارات (مختصّصّة في جمع تحليل بيانات الأسواق)، وغطّت البيانات قرابة نصف الأسواق العالمية، وأظهرت أن خمس شركات تُسيطر على 65% من السوق العالمية للبذور والأسمدة والمبيدات، بإيرادات تقارب قيمتها ستين مليار دولار، لهذه الشركات الخمس، سنة 2018، وأنه يمكن تصنيف نحو 40% من مبيعات 47 من الأسواق العالمية الرئيسية، للمنتجات الأكثر استخدامًا، في مجال المبيدات والأسمدة ومواد الكيماويات الزراعية، كمنتجات “خطيرة للغاية”…

في مواجهة الحُجَج والدَّلائل القاطعة، أنشأت هذه الشركات العابرة للقارات، في مجالات الكيماويات والزراعة، مجموعة ضغط تُدافع عن مصالحها، أو “لُوبي” تحت مُسمّى “الإتحاد الدّولي للحياة” ( CropLife )، ويدّعي هذا “اللُّوبِي” أن المبيدات تُنقذ ثُلُثَ الإنتاج الزراعي العالمي من الأعشاب الضّارّة والأمراض والأعشاب الطُّفَيْلِيّة الضّارّة بالنباتات، وتستنتج النّصوص الإشهارية لهذه الشركات أن المبيدات “تلعب دورا هاما في حماية الأمن الغذائي والصحة العامة” !!!

أدّت الإحتجاجات، ضد نَشْر هذه السّموم، إلى حظر بيع المُبيدات الأشدّ خطرًا، والتي تحتوي على مُكَوّنات مثل “غليفوسات” أو “ثياكلوبريد” أو “بروبيكونازول” أو “ديميثوات”، بعدَ عُقُود طويلة من بيعها واستخدامها، في الدّول الرأسمالية المُتقدّمة، ولكن نفس هذه الشركات تُحقق نحو 60% من المُبيدات في البلدان الفقيرة، حيث لا تَحْظر الحكومات ترويج هذه السُّمُوم القاتلة، وحيث لا توجد مؤسسات رقابة ناجعة، ولا أي اهتمام للحكومات بالمخاطر على حياة المواطنين، وقدّرت منظمة “بَبْلِيك آي” نسبة المبيدات والمواد الكيماوية المُصنَّفَة “شديدة الخطورة”، والتي تحتوي على مركّب “غليفوسات” مَثَلاً، في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بنحو 45% من المبيعات الإجمالية لأكبر خمس شركات، خاصة في أمريكا الجنوبية وآسيا، ولا تتجاوز هذه النسبة 12 في أوروبا…  

الإنتاج في “الشمال” والإستهلاك في “الجنوب”:

في منتصف شهر نيسان/ابريل 2019، نشرت بعض الصحف السويسرية نتائج تحقيق لمنظمة “عَيْن العُموم” ( Public Eye ) عن دور شركة “سينجنتا” ( Syngenta ) السويسرية للبذور والأسمدة والمبيدات، في تصدير المبيدات المحظورة في سويسرا، إلى الخارج، وتبيعها في مختلف دول العالم، في بلدان “الجنوب”، وخاصة في الدول الزراعية الكبيرة (مساحة وسُكّانًا)، مثل الهند ومصر والبرازيل، وغيرها، وقدّرت منظمات “غير حكومية” صادرات سويسرا من المبيدات المحظورة بمتوسط 145 طنًا سنويًا، وسوف نركز في هذه الفقرة على البرازيل التي تُعتبر أكبر قوة اقتصادية وأكبر بلد، من حيث المساحة (8,5 ملايين كيلومتر مربع) وعدد السّكّان ( أكثر من 200 مليون نسمة، سنة 2014) في أمريكا الجنوبية، حيث تَحُدُّها عشرة دُول، ولكن نسبة الفقر والأمية مرتفعة، رغم انخفاض نسبة الفقر إلى حوالي 10% سنة 2016، بفضل البرامج الإصلاحية لحزب العُمال، بين 2002 و 2017.

تحتل البرازيل المرتبة الأولى عالميا في إنتاج وتصدير البُن والحوامض، وقصب السكر، ومراتب متقدمة في تصدير فول الصُّويا والذّرة والقمح والقُطن والكاكاو، والبرازيل من أهم مُنْتِجِي ومُصدّرِي الإنتاج الحَيَوانِي، كاللحوم (أكبر مُصدّر عالمي للُّحُوم المَوْصُوفة “حلال”)، والحليب ومشتقاته، بفضل تطور قطاع تربية المواشي، وتُشغّل الزراعة نحو 26% من إجمالي العاملين بالبلاد (القُوّة العاملة)، وتضم البرازيل غابات ونهر “آمازون”، حيث سمحت حكومة الرئيس اليميني المتطرف “بولسونارو” لأكبر شركات الإنتاج الزراعي والأخشاب بالقضاء على الغابات وعلى مناطق عيش السّكّان الأصليين، لزيادة المساحات الزراعية وشق الطرقات وتوصيل الكهرباء، في بلد يُعاني فُقراؤه وسكان الأرياف من غياب أو نقص التيار الكهربائي، وسمحت حكومات البرازيل المتعاقبة بإزالة حوالي 1,4 مليون هكتار سنويا، من غابات “آمازون”، طيلة عقدَيْن، لزراعة فول الصويا بشكل مكثف، ما يتطلب استخدام أطنان من الأسمدة الكيماوية ومبيدات الأعشاب والحَشرات، وتعد البرازيل أكبر مستخدم للمبيدات في العالم وهي مُنتجات سامة، وضارّة بالعاملين وبالسكان وبالمُحيط (التُّربة والمياه والمناخ والحيوانات…)، أدّت إلى ارتفاع بعض الأمراض المزمنة، وبعض أنواع السّرطان، والمواليد المُشَوَّهِين، وأقرّ الرئيس اليميني المتطرف “جاير بولسونارو”، منذ توليه السلطة (01/01/2019)، إضافة استخدام 86 مبيد جديد، من المبيدات التي كانت محظورة، وكانت شركة “سينجنتا” السويسرية من أكبر المُستفيدين من زيادة تصدير المُبيدات والبذور والأسمدة إلى البرازيل، ويدّعي موقع هذه الشركة: “إن جميع منتجاتنا آمنة، خضعت بانتظام لعمليات فحص وتفتيش طويلة الأجل، ولذلك ليس هناك موجب لسحب أيٍّ من هذه المنتجات من الأسواق، وكنا أشرنا أن عددًا من هذه “المُنتَجات” (15 من إجمالي 32 صنف من المُبيدات) مَحْظورة في سويسرا وأوروبا، ولكن شركة “سينجنتا” حققت من بيعها، سنة 2017، إيرادات بقيمة قاربت أربعة مليارات دولارا، مُستغلة ضُعف وغُموض التّشريعات، وانتشار الفساد والرشوة وجهل صغار المزارعين والعمال الزراعيين، في دول مثل البرازيل أو الهند أو مصر، وطالبت منظمات الدفاع عن سلامة البيئة، المحلية والعالمية، بحَظْرِ بَيْع واستيراد هذه المُبيدات السّامّة، المَحْظُورَة في أوروبا، والمبيدات التي صنّفَتْها تقارير منظمة الصحة العالمية “عالية الخطورة”…

في العاشر من كانون الثاني/يناير 2020، تأكدت رسْمِيًّا، وبشكل قَطْعِي، صحة الأخبار التي نُشِرت منتصف شهر نيسان/ابريل 2019، ومفادها أن المبيدات الحشرية تشكل خطرا على الصحة ، ومن بينها مبيد “بروفينوفوس” المحظور في سويسرا، وتُصدّر شركة “سينجنتا” منه 37 طُنّا إلى البرازيل، سنة 2018، وتسبب هذا المُبيد السّام في تلويث مياه الشرب في البرازيل، ما قد يتسبب في تَلَف الدّماغ، بحسب محطة الإذاعة التلفزيون السويسري ( “أر تي إس” – قطاع عام)…   

خاتمة:

يعارض السّكّان الأصليون (أو أحفاد من نَجَوْا من الإبادات والمجازر) في أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي أستراليا ونيوزيلندا، وغيرها، كافة القرارات والممارسات التي تَضُرّ بالطبيعة والمُحيط، لأنهم راكموا تجارب أجيال عديدة، على مَرّ القُرون، وأدركوا قيمة الأرض وما تُنْتِجُهُ، عندما يتوفر المناخ السليم، والظروف المُواتية.  

أدّى ضَغْطُ جمعيات الدّفاع عن المستهلكين وجمعيات الدفاع عن سلامة البيئة، في البلدان الصناعية الرأسمالية المتطورة، إلى حَظْر العديد من المُبيدات في أمريكا وأوروبا، فاتّجهت الشركات العابرة للقارات إلى تصدير هذه السّمُوم نحو البلدان الواقعة تحت الهيمنة، والتي يستخف حُكّامها الفاسدون والمُرْتَشُون بصحة البشر والمُحيط، فهم أصْلاً وُكلاء هذه الشركات ويمثلون القوى الإمبريالية في بلادهم، ولا يُمثلون مصالح شُعوبهم.

في أوروبا برّرَ أحد أعضاء المُفوضيّة الأوروبية (السّلطة العُلْيا، غير المُنْتَخَبَة، وهي تُمثل الحكومات )، استخدام المبيدات، والإقتصار على حظر البعض منها فقط (الأكثر خُطورة) ب”إننا سنخسر حوالي 40% من حجم صادراتنا الفلاحية إلى الخارج، ونخسر الأمن الغذائي، إذا أحْجَمْنا عن استخدام المُبيدات، وسوف نضطرّ إلى استيراد المنتوجات الغذائية…”

يتسبب استخدام مبيدات الأعشاب والحشرات، بأمراض الجلد والتهابات في الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي، والإصابة بالسّرطان، وأضرار بالمياه وبالتربة، وما يترتب عن ذلك من أضرار بالمناخ والنباتات والحيوانات، والأسماك (في الأنهار والبُحَيْرات، وفي البحار والمُحيطات)، فيتضرر الإنسان بشكل مباشر، من جراء استنشاق هذه الغازات، أو بعد شرب المياه الملوثة، أو أكل الخضار والفواكه المُعالجة بالمُبيدات، لتَصِلَ أجزاء، ولو صغيرة، من هذه السموم إلى الدم، وإلى الخلايا وباقي أعضاء الجسم، وهو ما قد يتسبب بالإصابة بالسرطان، والعقم، وربما انتقال السّموم من الأم الحامل إلى الجَنين، الذي قد يُصاب بتشوهات دائمة.

أدّى تَوَجُّهُ القطاع الفلاحي في بعض البلدان (المغرب ومصر ) للأسواق الخارجية، إلى زراعة بعض أصنف الخضار والفواكه المرغوبة في أوروبا، وبعضها غريب عن مناخ البلاد، وإلى زيادة الإنتاج الزراعي، ليس من أجل تحقيق الأمن الغذائي، أو من أجل خلق صناعات غذائية، تُضيف قيمة زائدة، بل لتصدير الإنتاج الزراعي الخام، بأسعار منخفضة، وتتطلب زيادة الإنتاج، وتطبيق معايير الدّول المُستَوْرِدَة، استخدام المُبيدات، التي تَضُر بصحة المُزارعين والسّكّان المحلّيّين، وبمحيطهم الطبيعي، وأدّى استخدام المبيدات ووجود صناعات كيماوية ضارّة إلى ظُهور أمراض جديدة، لم تكن موجودة قبل ذلك، إذ لا تَقلُّ فضلات ومُخلّفات ودُخان بعض المصانع التي لا تُطبّق معايير السّلامة، خُطورةً، فيتم نَقْلُ هذه المصانع (المنسوجات والأحذية والمواد الكيماوية وتركيب التجهيزات المنزلية والإلكترونية…) من الدول الصناعية إلى الدول الواقعة تحت الهيمنة، حيث الرواتب مُنخفضة، وحيث تستهتر الحكومات بصحة البشر والمُحيط، وتَتَعَلَّلُ بضرورة خلق وظائف، وبضرورة خفض نسبة البطالة والفَقْر…

يتطلب إنجاز أي مشروع تقدّمي أو ثَوْرِي، دراسة البدائل والحُلُول المُمكنة (أو المُتاحة) لمجمل مشاكل المُجتمع، ومشاغل المواطنين، في كافة المجالات، ويندرج قطاع الفلاحة ضمن الأولويات، خاصة في البلدان الفَقِيرة والواقعة تحت الهيمنة، لأن هذا القطاع يُؤمّن عددًا هاما من الوظائف، ويُحقق الأمن الغذائي، ويفتح باب الصناعة، من خلال تحويل الإنتاج الغذائي الزائد عن الحاجة، إلى منتجات غذائية مُصنعة، ومُصَبَّرَة، قابلة للتخزين وللتصدير، بقيمة أعلى من المواد الخام…  

قد يعجبك ايضا