المواطنة ضرورة تاريخية / د. عدنان عويّد

    د. عدنان عويّد * ( سورية ) – الخميس 20/2/2020 م …




  • باحث، مفكر، وأكاديمي

     المواطنة في سياقها العام مفهوم يحمل في مضمونه إضافة للدلالة الاجتماعية, دلالات عديدة, سياسية واقتصادية وثقافية, ففي كل دلالاته, هو دعوة إلى الانتقال بالإنسان من حالة ضياعه وغربته واستلابه في مجتمع أو دولة يحكمها التفاوت والتمايز الطبقي والعرقي والديني بكل أشكاله وتجلياته, إلى مجتمع أو دولة الحرية والعدالة والمساوة والحقوق والواجبات, وحق الاختلاف للجميع. وعند تحقيق هذه الدعوة على أرض الواقع, فهذا يعني نقل الإنسان من حالة ( الرعية ) إلى حالة ( المواطنة ), أي إلى الحالة التي ستؤدي في المحصلة إلى فسح المجال واسعاً أمام الجميع في الحصول على العدالة للجميع دون تمييز في الحياة الاقتصادية, والرفاه والتعليم, وكذلك المساواة أمام القانون, وحق الانتخاب والترشيح والوصول إلى مناصب الدولة والمشاركة في القرار السياسي وبناء الحياة السياسية للبلد, مثلما يعني أيضا, تحقيق المساواة بين الجنسين (الذكر والأنثى ), والحد من سلطة المجتمع الذكوري, إضافة إلى تحقيق عدالة إنتاج واستهلاك الثقافة والمعرفة للجميع. هذا ونحب أن نؤكد هنا على مسألة في غاية الأهمية من الناحية المعرفية والإنسانية معاً, وهي, أن تحقيق حالة المواطنة, أي تخليص الإنسان من حالات اغترابه وضياعه واستلابه, لا تنال من وقع عليه فعل الاغتراب والاستلاب والضياع فحسب, بل تنال أيضاً من فرض حالات الاغتراب والاستلاب والقهر على الآخرين بفعل امتلاكه سلطة القهر والاستبداد.

     أمام هذه المعطيات النظرية المتعلقة بمفهوم المواطنة, هناك مجموعة من الأسئلة المشروعة تطرح نفسها علينا وهي : هل الدعوة إلى مجتمع (المواطنة) مجتمع المدينيّة ا هي دعوة مشروعة أو عقلانية في وقتنا الراهن؟. هل شعارات المواطنة التي جئنا عليها أعلاه, أو ما نستطيع تسميته مضامين المواطنة, هي شعارات أو مضامين تتحقق بالإرادة الطبية ؟, أم هي فعل مقاومة مفتوح على كل دلالاته؟. وهل مهام المقاومة وأساليب تحقيقها إرادويّة, أم هي مهام يضعها الإنسان المقاوم (حزب . تجمع . طبقة) وفقاً لظروفه الموضوعية والذاتية التي تتحكم بحركته ونشاطه والمهام التي يضعها لنفسه؟. أي هل مهام المقاومة توضع وفقاً لتصورات ذاتية, أم هي مهام تحدد طبيعتها ودرجتها ونوعها وأساليب تحقيقها معطيات الواقع المادية والفكرية؟, وذلك انطلاقا من مقولة (أن الناس يضعون لأنفسهم المهام التي يستطيعون إنجازها فقط, أو التي تساعد الظروف على تحقيق إنجازها ) .

     إن الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة باعتقادي ستحدد لنا النتيجة التي نرمي إليها من طرحنا لموضوعة المواطنة. لذلك هذا ما يدفعنا للقول : إن أي دارس لطبيعة تكون وتطور المجتمعات البشرية سيجد أن التطور الذي يصيب المجتمعات تتحكم به جملة من الظروف الموضوعية والذاتية, وهذه الظرف لا تفرخ بشكل مجرد, بل هي نتاج الواقع ذاته وآلية عمله, دون أن نغفل مسألة أساسية في هذا الاتجاه وهي, أن الظروف الذاتية, وبخاصة الحوامل الاجتماعية, هي في طبيعتها حرية وضرورة معاً, وبالتالي فإن الحامل الاجتماعي محكوم بضرورة الواقع أولاً, ثم بالضرورة الكامنة فيه هو ذاته أيضاً, من حيث مهاراته وقابلياته واستعداداته النفسية والبيولوجية, ودرجة وعيه لذاته وللآخرين وللمهام المناطة به  .. الخ .

     إذن, ما هو مطروح للتغير في هذا الواقع محكوم بالضرورة بمعطيات الواقع, وأن كل الشعارات والمهام التي تُطرح من أجل تغيير الواقع غالباً ما تعمل على إنتاجها وتحديد مسارها وأساليب عملها الظروف التاريخية المعيوشة. وهذا يذكرني بمقولة عقلانية للمفكر النهضوي “رئيف الخوري” يتكلم فيها عن مفكري الثورة البرجوازية في فرنسا التي أدت إلى كومونة باريس حيث يقول بما معناه: لم تكن أفكار فولتير مونتسيكو وروسو وهلفسيوس وغيرهم, هي التي حركت الثورة البرجوازية, بل كانت أفكار هؤلاء هي نتاج لهذه الثورة ومقدماتها. ولكن هذا القول لا يحجب الحقيقة التي تقول إن أفكار هؤلاء استطاعت فيما بعد أن تلعب دوراً هاماً في التأثير على تفكير النخب المثقفة لشعوب العالم الغربي وثوراته وما لعبته هذه النخب من تأثير على حياة شعوبها, ومنها الشعب العربي منذ الربع الأول للقرن التاسع عشر مع الطهطاوي, وخير الدين التونسي وإبراهيم اليازجي, وبطرس البستاني, وفرح أنطون, ومحمد عبده, والكواكبي, والأفغاني, وأديب اسحق وغيرهم الكثير.    

   على العموم نستطيع القول : إن مسألة طرح مشروع المواطنة هي مسألة نسبية في تطبيقاتها أولاً, وهي تدخل في نطاق التغيرات الكبيرة التي تصيب حياة الشعوب ثانياً, وهي تأتي في مرحلة لاحقة مع تأسيس وسيادة المجتمع المدني ثالثاً.

الدولة والمواطنة:

     مع انتشار أفكار الحرية والعدالة والمساواة بين شعوب العالم, ومع ما تم من تحولات تاريخية هامة في حياة الشعوب, انعكست بالضرورة على طبيعة عمل الدولة ذاتها, في العالم الثالث, حيث راحت تأخذ في حساباتها – أي الدولة – طبيعة أفكار المواطنة وأهميتها بالنسبة لمستقبل الطبقة الحاكمة لهذه الدولة نفسها. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم القائم, وشكل الدولة ذاتها, وطبيعة حاملها الاجتماعي, فإن قيم المواطنة أصبحت من المهام الأساسية والضرورية التي تفرض نفسها على السياسات الداخلية لحكومات هذه الدول, وبخاصة بعد التحولات التي تمت في مضمار النظام العالمي الجديد, حيث فرضت هذه التحولات وعياً لدى المواطن بمواطنتيه أولاً, والسعي لتحقيق هذه المواطنة عبر وسائل عدة, يأتي في مقدمتها الأحزاب السياسية, ومنظمات المجتمع المدني وغيرها. مثلما فرضت على الدولة ذاتها أن تقدم تنازلات تجاه فكرة المواطنة من الناحية العملية والقانونية وبخاصة على المستوى الدستوري. 

     إن قيم المواطنة, أصبح من الواجب على الدولة أولا, ومن ثم على مؤسسات المجتمع المدني, والأحزاب السياسية ثانياً, ترسيخها عملياً وفكرياً لدى الفرد والمجتمع, ويأتي في مقدمتها: الوعي بمهام الدستور, وبالحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للفرد والمجتمع, وبمهام الفرد, ومدى الحريات الممنوحة وأنواعها, وبكيفية تشكيل القرارات السياسية, وكيفية تنفيذها, وبنمط الحكم السائد, وبنظم الحكم العالمية, وبشروط التمثيل النيابي, وبكيفية المشاركة في الانتخابات, وتشكل المجالس النيابية, وغيرها من قضايا المواطنة التي تساهم في رفع سويّة المواطنة ذاتها, وتخليص الفرد والمجتمع والدولة على السواء من عقلية وثقافة الراعي والرعية, وكل ما يعيق تحقيق دولة القانون, هذه الدولة التي إذا ما حققت مشروع المواطنة لأبنائها, ستشكل هذه المواطنة الرافعة العملية والفكرية لاستمرار الدولة وقوتها من جهة, والرفع من القيمة الإنسانية لشعبها ومكانته بين شعوب العالم من جهة ثانية.

ملاحظة: إن أية سلطة في أية دولة تسعى لتغييب المواطنة, أو الالتفاف عليها بشعارات فضفاضة, وعواطف تسويقية, وتسويات انتهازية, ستتحول هذه السلطة إلى عصاية, وعندما تقود الدولة عصابة سينتشر الفساد والظلم والتمايز بين مكونات المجتمع. وانتشار الرذيلة والفاحشة, ويعم الاستبداد, وينتشر ويسود الانتهازية والمطبلين والمزمرين من سفلة المجتمع, وفي النتيجة ستعم الفوضة داخل الدولة والمجتمع, وستنهار الدولة, وسيدفع الثمن الجميع دون استثناء.

كاتب وباحث من سورية

[email protected]

قد يعجبك ايضا