الأزمة الاقتصادية في المشرق العربي: التشبيك الاقتصادي هو الحلّ / زياد حافظ

زياد حافظ* ( لبنان ) – الثلاثاء 28/1/2020 م …




*اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

عقدت الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي اجتماعا في بيروت في 24 كانون الثاني/يناير 2020.  والاجتماع ناقش ورقة سياسية أعددناها قاربت المستجدّات الدولية والإقليمية والعربية ومدى الترابط بين المتغيّرات وتداعياتها على كافة المستويات.  والخط البياني للورقة كان التأكيد على التقدّم الاستراتيجي لمحور الكتلة الاوراسية ومحور المقاومة وتراجع المحور الذي تقوده الولايات المتحدة دوليا وإقليميا وعربيا.  ورغم التباين في المسارين فهذا لا يعني أن المحور المتراجع لن يقدم على إجراءات تكتيكية هجومية عدوانية توحي بان زمام المبادرة بيده وإن لا تغيّر شيئا على الأرض.  بالمقابل فإن المحور المتقدّم يكتفي بإجراءات تكتيكية دفاعية حتى الآن وقد يتغّير ذلك بعد استشهاد قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس.  فمحور المقاومة اعتبر ان الرد الاستراتيجي على عملية الاغتيال هو إخراج القوّات الأميركية من المنطقة.  هنا نرى التباين بين الفعل التكتيكي الأميركي والرد الاستراتيجي لمحور المقاومة.

إن مناخ التسوية لا يستقيم عند المحور المتقدّم الذي يعتبر أن المحور المعاكس المتراجع وخاصة الولايات المتحدة يغرق في مختلف المستنقعات الذي صنعها بيده وبالتالي لا داعي لإنقاذه عبر تسويات تعيد له الاعتبار.  بالمقابل يسود حالة انكار لدى قادة الولايات المتحدة للتغيير الحاصل في موازين القوّة في العالم وحتى داخل الولايات المتحدة وبالتالي لا يعتبرون أن المصلحة تقضي بتقديم تنازلات تسمح للوصول إلى تسويات تفيد الجميع.  أما قادة الدول الأوروبية فلا يستطيعون الخروج عن الإرادة الأميركية وإن كانت مواقهم تشير إلى تباين متزايد يصدّع العلاقة مع الولايات المتحدة.  فما زالت الولايات المتحدة تعتقد أن بإمكانها فرض سيطرتها على العالم بالقوّة إذا لزم الأمر سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو المالي.  الذهنيتان المتصارعتان تلغيان إمكانية الوصول إلى توافق أو تسوية أو تفاهم حول ملفّات العالقة في العالم بما فيها في المنطقة.  وبالتالي أقصى ما يمكن التوصّل إليه هو تحديد سقوف للمواجهات كي لا تصل إلى مجابهة عسكرية شاملة تُفني الجميع.

بناء على هذه القراءة للواقع الدولي والإقليمي كانت المقاربة للمشهد العربي أن الدول العربية منقسمة إلى محورين: محور المقاومة ومحور المعادي للمقاومة.  محور المقاومة يملك مشروعا تحرّريا بينما المحور المعادي لا يملك إلاّ مشروع الحفاظ على الوضع القائم.  لكن جميع الدول العربية دون استثناء وصلت إلى طريق مسدود في خياراتها السياسية الاقتصادية.  الدولة القطرية أصبحت عاجزة عن مقاربة الملفّات العائدة للتنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني وبالتالي التجدّد الحضاري في ظل موازين القوّة القائمة وفي ظل حال التجزئة القائمة فيما بينها وفي داخلها.  وفكرة الوحدة غائبة عن فكر النخب الحاكمة لأسباب عديدة مرتبطة بهيمنة النفوذ الأميركي والغربي وبسبب المصالح الخاصة للنخب الحاكمة التي ترى فيها تهديدا لمصالحها.

في غياب وجود مشروع الوحدة لا يمكن لأي قطر أن يخرج من الحلقة المفرغة للفقر والجهل والتخلّف والفساد ولا تحقيق العدالة الاجتماعية ولا الوصول إلى السيادة السياسية التي تحصّن الكيان وتحميه.  فالوحدة ليست نقيضة لوجود الكيان بل العكس.  لكن إذا كانت فكرة الوحدة السياسية من المحظورات حاليا فإن بقاء الكيانات العربية التي افرزتها اتفاقية سايكس بيكو في المشرق العربي والوحدات الإدارية للمستعمرات الأوروبية في شمال إفريقيا التي شكّلت كياناتها الوطنية، فإن هذا البقاء مرتبط بشكل عضوي بعملية التشبيك الاقتصادي مع دول المتجاورة.  أي بمعنى آخر، بعيدا عن الاعتبارات العقائدية والسياسية فإن المصلحة الاقتصادية للدول العربية هي مصلحة وجودية لهذه الأنظمة لتفرض مراجعة جذرية لخياراتها وسياساتها الاقتصادية والتوجّه نحو التشبيك.

لازمة التشبيك يجب أن تصبح متن الخطاب المقاوم على الصعيد الاقتصادي.  فالمواجهة مع الكيان الصهيوني دخلت قسرا في البعد الاقتصادي لدول المحور المقاوم.  فالعقوبات الاقتصادية المفروضة على كل من العراق وسورية، والحصار المفروض على لبنان أدخلت البعد الاقتصادي في المواجهة كما جعلت مسألة الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية ومشروع التنمية المستقلّة أكثر تعقيدا، خاصة أن التخلّي عن المقاومة لا يشكّل ضمانة للتنمية كما حصل في مصر والأردن بعد اتفاقيات السلام.  فالترويج للسلام كشرط ضرورة للتنمية بوجود الكيان من ضرب الأوهام.  لكن في نفس الوقت، تشكّل هذه العقوبات فرصة جوهرية لمراجعة الخيارات الاقتصادية السياسية للتحوّل من اقتصادات ريعية تابعة للإرادة الخارجية بشكل عام إلى اقتصادات إنتاجية مبنية على تحقيق في الحد الأقصى الاكتفاء الذاتي في المواد الأساسية كالمواد الغذائية أو في المرافق الاستراتيجية كالطاقة والمواصلات والمياه على صعيد البنى التحتية.

فيما يتعلّق بلبنان لا نخشى أن نقول إننا نتمنّى فشل “سيدر” وأخواتها كما لا نخشى أن نقول إن المال الخليجي ومال المؤسسات الدولية ليسا الحل.  والعقوبات التي يمكن أن تفرض على لبنان في حال سلك طريقا عبر البوّابة الشرقية فهي فرصة لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني، ومعه السوري والعراقي في آن واحد. فالعقوبات تفرض الاتكال على النفس وتحييد التدخّل الأجنبي.  هكذا فعلت الثورة الإيرانية المحاصرة منذ اليوم الأول لاندلاعها لإعادة بناء اقتصادها.  وهكذا فعلت الهند عندما أغلقت باب الاستيراد غداة حصولها على الاستقلال من المملكة المتحدة لتفعيل الصناعة المحلّية بالتمويل المحلّي دون اللجوء إلى “المجتمع الدولي”.  وهكذا فعلت روديسيا الدولة العنصرية قبل الاستقلال وقبل أن تصبح زمبابوي.  فاقتصاد الأخيرة هو إرث روديسيا العنصرية التي استطاعت أن تبني اقتصادا متنوّعا يعتمد استراتيجية الاكتفاء الذاتي.  ولولا الفساد الذي عمّ دولة الاستقلال لكانت حالة زمبابوي أحسن مما هي عليها الآن.

فالحلول التي يمكن أن يأتي بها المال الخليجي ومعه المال “الدولي” يجعل من الصعب اتخاذ قرارات اقتصادية تعيد البنية الإنتاجية للبنان.  فهي حلول بطبيعتها موقّتة ولا تقارب الإصلاحات الجذرية المطلوبة لتمكن السيادة والاستقلال الوطني.  هي حلول تؤجّل استحقاق القرار الجذري الصعب لتحقيق الاستقلال الوطني.  بل العكس، فهي ستكون مرفقة بشروط تُفقد لبنان سيادته على المرافق الاقتصادية وثرواته من نفط وغاز ومياه.  والولايات المتحدة تمارس الضغوط على الشركات الأجنبية النفطية والغازية كي لا تباشر بالتنقيب والاستخراج قبل تحديد الحدود البحرية لصالح الكيان الصهيوني وبالتالي وضع لبنان في حال الضيق الاقتصادي والمالي كي يرضخ للإملاءات الأميركية والصهيونية.   فلبنان بلد غني رغم كل ما يعاني من مشاكل من صنع فساد الطبقة الحاكمة.  هذا لا يعني أيضا أن هذه الأموال مرفوضة تلقائيا ولكن “شروطها” لا تتناسب مع طموحات البلد في تعزيز سيادته واستقلاله الوطني. فلبنان الذي يخضع لمزاج التقلّبات السياسية في دول الخليج لا يستطيع أن يبنى مستقبله بالطريقة التي يراها مناسبة لمصالحه وليست لمصالح الزمر المرتبطة بالخارج.

التشبيك الاقتصادي بالنسبة للبنان هو المنهج الذي يجب أن تتبعه “حكومة الإنقاذ”.  فالتشبيك مع سورية يكون على سبيل المثال في إعادة فتح خطوط الترانزيت البرّي عبر سورية.  كما يكون عبر إعادة تشغيل أنبوب النفط من كركوك حتى مرفأ طرابلس.  كما يكون عبر التفاهم بين المصارف المركزية في لبنان وسورية والعراق على التعامل بالعملات الوطنية بدلا من الدولار.  كما يمكن توريد الفيول من العراق إلى سورية ولبنان لتشغيل معامل الكهرباء.  كما يكون في توحيد شبكات التواصل الجوّالة بين كل من لبنان وسورية والعراق حيث تصبح المكالمات بين هذه الدول مكالمات داخلية.  ويمكن سرد العديد من الخطوات التي تعيد الحياة الاقتصادية إلى لبنان عبر تفعيل صادراته نحو سورية والعراق والأردن ومن بعد ذلك إلى دول الجزيرة العربية.  كما يمكن إعادة تأهيل خطوط السكك الحديدية بين لبنان وسورية للنقل التجاري والبشري.  فكل هذه الخطوات كفيلة بزيادة العمالة وبالتالي تخفيض البطالة وزيادة الواردات وعصر النفقات في الدولار.  مفعول هذه الخطوات سريع ويساهم في إعادة الثقة إلى لبنان.  وجميع هذه الخطوات لا تخضع للمشيئة الخارجية بل لقرار جريء بفتح باب الحوار مع كل من سورية والعراق.  أما فيما يتعلّق بالتشبيك الاستراتيجي مع دول الجوار كتركيا والجمهورية الإسلامية في إيران فيأتي في سياق التشبيك مع الكتلة الاوراسية وخاصة فيما بعد بالطريق والحزام الواحد.  والصين أقدمت على توقيع اتفاق مع الحكومة العراقية لاستثمار ما يوازي 400 مليار دولار في البنى التحتية دون ان يرافق ذلك شروطا سياسية كما تفعله المؤسسات المالية الدولية و”الدول الصديقة” للبنان!

إن التشبيك لحل الأزمة الاقتصادية المزمنة في هذه الأقطار هو الحل لإخفاقات المشاريع التنموية في عدد من الدول العربية.  فكافة التجارب السابقة لإحلال اقتصاد يحمي السيادة الوطنية لم تنجح ليس بسبب يعود إلى يقين الفكرة ولا حتى في تنفيذه بل لأن موازين القوّة كانت لصالح الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع أن يتحمل وجود كيان اقتصادي عربي متين.  ولذلك تمّ إجهاض تجربة الرئيس الخالد الذكر جمال عبد الناصر، وكذلك تجربة نهضة العراق عبر حروب عبثية مع الجمهورية الإسلامية في إيران وفيما بعد مع الكويت.  كم تم اجهاض النزعة التصنيعية في الجزائر بعض القضاء على إنجازات بومدين وحتى في ليبيا تم القضاء على إنجازات ثورة الثامن والعشرين من أيلول 1968 بعد شيطنة قائدها وقتله في ربيع 2011.  وليبيا غارقة اليوم في الفوضى وصراع الفئويات.

ليس في هذا التشبيك مصلحة اقتصادية ومالية مباشرة وفورية للدول المعنية فحسب، وهي دول في محور المقاومة، بل هي أيضا ضرورة استراتيجية في مواجهة الهيمنة الأميركية في المنطقة.  والبعد الاستراتيجي يكمن حتما في ربط ذلك التشبيك بالكتلة الاوراسية من جهة وخاصة بمشروع الطريق والحزام الواحد الذي لم تستطع الولايات المتحدة حتى الآن احباطه.  ومشروع طريق الحرير الجديد هو من سيحقّق الاستقرار الاقتصادي في المنطقة بعد تحرير فلسطين.  ما زال البعض يعتقد أن ذلك التحرير من أبواب الوهم في خضم الإجراءات الأميركية كإعلان خطّتها لإنهاء الصراع.  لسنا في إطار الدخول في ذلك الجدل وإن كانت القناعة محسومة عندنا في تحقيق ذلك التحرير.  المسألة ليست مسألة إذا بل مسألة متى، و “متى” أصبح أقرب مما يتصوّره البعض.

عامل التشبيك هو الرد على عامل التجزئة الذي فرضه الاستعمار والامبريالية بمساعدة الرجعية العربية كما هو الرد الوحيد للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية في لبنان.  ف”حكومة الإنقاذ” مطالبة باتخاذ إجراءات بسيطة وسريعة وفعّالة عبر البوّابة الشرقية التي تبدأ بدمشق وتنتهي في بحر الصين.  فلا إرشادات الصندوق الدولي ولا توصيات “الدول الصديقة” هي الحل.  الحل هو الاعتماد على النفس وعلى مقتضيات الجغرافيا التي تفرض نفسها في عملية التشبيك والإنقاذ.

قد يعجبك ايضا