منتدى دافوس للأثرياء … على هامش قمة منتدى دافوس 21 – 24 كانون الثاني/يناير 2020 / الطاهر المعزّ

نتيجة بحث الصور عن دافوس 2020

الطاهر المعزّ (تونس ) – الأربعاء 22/1/2020 م …




تقديم:

تزامن انعقاد المنتدى الإقتصادي العالمي، المعروف ب”منتدى دافوس” 2020 مع بداية الحملة الإنتخابية داخل الأحزاب الأمريكية، في الدّولة القائدة للرأسمالية المعولمة (الإمبريالية)، ومن مظاهر هيمنة الإيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية المتطرفة أن يُشارك في الإنتخابات التمهيدية للحزب “الديمقراطي” في أمريكا رأسماليان كبيران من أكبر أثرياء الولايات المتحدة والعالم، هما “توم ستاير”، و”مايكل بلومبرغ”، والثاني أحد أكبر مليارديرات العالم، وهو من أقطاب “منتدى دافوس”…

يُشارك “مايكل بلومبرغ” (77 عاما) في الإنتخابات التمهيدية، لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي للإنتخابات الرئاسية الأمريكية (تشرين الثاني/نوفمبر 2020)، وكان، لمدة عقد كامل، عمدة مدينة نيويورك، ويعد من بين أثرى عشرة رأسماليين في العام، بثروة تُقدّرُ بنحو 54 مليار دولار، وأعلن تخصيص مبلغ 31 مليون دولار، لدعايته الإنتخابية (داخل الحزب الديمقراطي)، على شاشات القنوات التلفزيونية، أي لشراء أصوات الناخبين داخل الحزب. أما برنامجه السياسي، وممارساته عندما كان رئيس بلدية “نيويورك” فلا تختلف في شيء عن الحزب الجمهوري، حزبه الأصلي، قبل أن ينضمّ إلى الحزب الديمقراطي، واتسمت فترة رئاسته بلدية “نيويورك” بالمعاداة للمهاجرين وللمواطنين السود، أو من أصول غير أوروبية، وكان يأمر الشرطة (وهي تحت نفوذه) بتفتيش المشبوهين واعتقالهم، قبل إحالتهم على القضاء، خلافاً للقوانين السارية التي تشترط توفر أمر قضائي لتنفيذ حملة تفتيش…

هذا نموذج “ديمقراطي” للمشاركين في منتدى “دافوس” السّنوي للأثرياء الذين يحكمون العالم، أو ممن يتأهبون لحكمه، وانطلق المنتدى في المنتجع السويسري، الذي يحمل إسمَه، من 22 إلى 25 كانون الثاني/يناير 2020، في ظل تزايد مظاهر عدم المُساواة، وتعميق الفجوة الطّبقية، وتباعد المسافات بين الأثرياء والفُقراء، سواء داخل كل بلد، أو بين بلدان العالم، وارتفاع عدد ضحايا الحُرُوب العدوانية والكوارث البيئية الناتجة عن تدمير الغابات والبحار، وارتفاع وتيرة القمع والإنتهاكات لحقوق البشر، من قِبَل الشركات العابرة للقارات، وتنظيم الإنقلابات، وفَرْض سياسات اقتصادية لا تخدم سوى مصالح أقلية من الأثرياء، مقابل انتهاك حقوق أغلبية المواطنين، بحثًا عن القدر الأعْلى من الرّبح، واحتكرت هذه الشركات التي تُنتظِّمُ وتُدير فعاليات “منتدى دافوس”، الإنتاج العالمي من الغذاء، القادر على تغذية كافة سُكان الأرض، لو تم توزيعه بعدالة، لكن احتكار المال والغذاء أدى إلى زيادة عدد الفُقراء الذين يلجؤون إلى المنظمات الخيرية التي تُعيد توزيع بعْضَ فائض الأغذية على ملايين المُعْدَمين، في البلدان الفقيرة، كما في البلدان الغنية، وفي سويسرا، قِبْلة أثرياء العالم…   

ظروف انعقاد منتدى 2020:

يعود تاريخ تنظيم أول مؤتمر إلى سنة 1971، خلال فترة الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى كُتْلَتَيْن، في حين تُحاول البلدان الخارجة من مرحلة الإستعمار المُباشر تشكل مجموعة “عدم الإنحياز” أو مجموعة “السبع والسبعين”، فيما كان هواري بومدين (وغيره) يدعو إلى تأميم إنتاج النفط، وتأسيس “نظام عالمي جديد”، ويُعتَبَر منتدى دافوس “مُنفتحًا” (نسبيا) على العالم الخارجي، مقارنة بنادي “بيلدربيرغ” المُغْلَق الذي بدأ سنة 1954، وكان الهدف المُعْلَن لمنظمي منتدى دافوس آنذاك “تصدي الدول والشركات ومؤسسات المجتمع المدني، وغيرها، لأهم القضايا التي تواجه العالم”، وتمثلت العلامة الوحيدة للإنفتاح في طول قائمة المَدعُوِّين، وبقي المنتدى، ومكان انعقاده، وطريقة تنظيم فعالياته، رَمْزًا للثراء الفاحش والفوارق الهائلة بين البلدان والطبقات…

ينعقد مؤتمر سنة 2020، في ظل التّهوّر الأمريكي الذي فاق الحُدُود، وارتفاع عدد النزاعات التي أثارتها الإمبريالية الأمريكية، مع العالم، بما في ذلك الحلفاء الأوروبيين، وأصبحت الخلافات، بين القادة الأميركيين والأوروبيين، تشمل ملف التغير المناخي والوضع الدّولي، وتتضمن هذه الخلافات طبيعة المشاكل، وطبيعة الحلول المُقتَرَحَة، سواء مع إيران والإتفاق النّووي المبرم سنة 2015، أو بشأن الحرب التجارية التي أعلنتها الولايات المتحدة ضد الصّين، أو بشأن العقوبات ضد روسيا وتهديد الإتحاد الأوروبي بالويل والثبور، إن واصلت بلدانه شراء الغاز من روسيا، بدَل الغاز الصّخري الأمريكي، الأقل جودة والأغلى ثمنًا، وتزامن تاريخ انعقاد منتدى 2020، مع خطر اندلاع نزاع مُسلّح بين الولايات المتحدة وإيران، بعد الإستفزاز الأمريكي، واغتيال الجنرال “قاسم سليماني”، في مطار بغداد، عاصمة العراق المُحتل منذ 2003، وتمكنت أمريكا من تحويل الإنتباه عن جريمتها، إثر سقوط طائرة ركاب أوكرانية ومقتل 176 شخصا كانوا يستقلونها، بصاروخ إيراني، اُطلق عن طريق الخطأ، كما تتضمن الخلافات بين الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي مسائل التغيير المناخي، والتداعيات السلبية لارتفاع درجات الحرارة، والمسائل المُتفرعة عن ذلك، كالإستثمار في الوقود الأحفوري، وتدمير الغابات، وبالأخص بعد الدمار الهائل الذي أصاب غابات منطقة “أمازون” في البرازيل، والحرائق الضخمة في الولايات المتحدة نفسها وفي أستراليا، وفي بعض بلدان أوروبا، كاليونان والبرتغال…

على الصعيد الرسمي، أصدر “المنتدى الاقتصادي العالمي” (منتدى دافوس)، قبل دورة 2020، تقريرًا يُشير إلى مجموعة “التحديات التي تواجه البشرية، (ومن بينها) انعدام الاستقرار الاقتصادي، والتغيّر المناخي، والتباين في نشر واستخدام الشبكة الإلكترونية، والضغوط التي تواجهها أنظمة الرعاية الصحية، التي تواجه تحديات، مثل تزايد مقاومة الجراثيم للأدوية وللمضادات الحيوية، وانعدام الثقة باللقاحات، ما يجعل أنظمة الرعاية الصحية غير قادرة على تحقيق أهدافها، بعد أن صارت الأمراض القلبية والعقلية، أكبر مُسبب للوفيات، قبل الأمراض المعدية…” (وقع التصرف واختصار الإقتباس)، أما هاجس الرئيس الأمريكي الأول فهو الحملة الإنتخابية الدّاخلية، والرأي العام الداخلي، والناخبين الأمريكيين، في تجسيد لشعاره “أمريكا أوّلاً”، ولذلك يُركّز في أحاديثه على “الأداء الجَيّد للإقتصاد الأمريكي”…

تكاليف وتمويل المنتدى:

يُشير الإعلام الرسمي السويسري إلى “عبء مسؤولية المحافظة على أمن أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي السنوي بدافوس، وعلى المُشاركين من الزعماء وكبار رجال الأعمال والسياسيين في العالم…”، وبَثّت شبكة “سي إن بي سي” الأمريكية، تحقيقًا يُشير إلى التعزيزات الأمنية المُشدّدة، قبل انطلاق أعمال المنتدى، بمشاركة الرئيس الأمريكي والمستشارة الألمانية، ومديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا”، والمديرة السابقة “كريستين لاغارد”، رئيسة المصرف المركزي الأوروبي، وغيرهم من الزعماء السياسيين والأثرياء وممثلي الشركات الكُبرى، ووسائل الإعلام النافذة، وقدر موقع “سويس انفو” نفقات تأمين أعمال المنتدة بنحو 9,3 ملايين دولارا، يتحمل المنتدى نسبة 25% منها بشكل مباشر، وتنشر سويسرا، طيلة فترة المنتدى (من 21 إلى 24 كانون الثاني/يناير 2020) نحو خمسة ىلاف جندي في البلاد، بالإضافة إلى تشديد القيود الأمنية (المُشدَّدَة أصْلاً طيلة أيام السنة) وتشديد المراقبة والتفتيش الذي يتعرض له أي شخص يعتبره الأمن السويسري “مشبوهًا”، تحسبا “لخطر وقوع هجمات إرهابية محتملة”، بحسب الدعاية الحكومية (وغير الحكومية) السويسرية، حيث يسود الوفاق الرجعي بين أغلب التيارات السياسية، و”المَدَنيّة”، وزاد جهاز الأمن الفيدرالي السويسري من “التدابير الوقائية لتأمين مقر إقامة المُشاركين، واستخدام القَنّاصة والكلاب…”

لِذَرّ الرماد على العيون، وتحت ذريعة العمل على “تحسين وضع العالم”، يجمع المنتدى كبار أرباب العمل وأثرياء قطاعات الأعمال والتجارة، ممن لا تَقِلُّ ثروتهم عن نصف مليار دولار، والسياسيين والأكاديميين والباحثين وكبار مديري المنظمات الخيرية المشهورة، ما رَفَعَ قائمة ضيوف المنتدى إلى نحو 2000 اسم من حوالي 100 دولة، بحسب وكالة “بلومبرغ” (وهي ملك للملياردير الأمريكي “مايكل بلومبرغ”، رئيس بلدية نيويورك السابق)، لكن كل هؤلاء يُسدّدون مبلغ الإشتراك (أو العضوية في المنتدى)، أو الرسوم، لغير الأعضاء، وأوْرد موقع المنتدى أن تكلفة العضوية تصل إلى 600 ألف دولار، وتبلغ رسوم المشاركة لغير الأعضاء 28 ألف دولار للشخص من كل شركة مشاركة، بينما يستفيد الأعضاء والشركاء من المشاركة المصممة وفقا لإستراتيجية الشركة، وكلما زادت مشاركة الشركة زادت قدرتها على تشكيل جدول أعمال المنتدى، ويحضر المنتدى 119 ثري ممن تزيد ثروتهم عن نصف مليار دولار، وممثلون عن ألف شركة من كبرى شركات العالم التي تتجاوز إيراداتها خمسة مليارات دولارا… لذا فإن إيرادات الرّسوم ومعلوم العضوية تُغطي المصاريف وزيادة، لأن رأس المال يُؤمن بمبدأ الإستثمار، أي الإنفاق، من أجل جَنْي الأرباح، وذلك في كافة المجالات والنشاطات…

العالم بعيون الأثرياء: 

يلخّص تقرير المخاطر العالمية للألفية الجديدة، الصادر عن منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، يوم 15 كانون الثاني/يناير 2020 الوضع من وجهة نظر الشركات والأثرياء الذين يمثل المنتدى مصالحهم بأنه غير مُسْتَقِرّ، بسبب التغييرات الجيوسياسية، والتغيير الحاصل (وأن بِبُطْءٍ) في موازين القوى، ويخلص مُعِدُّو التّقرير إلى ضُرُورَة “وضع تصورٍ جديد، واعتماد آليات جديدة للتنسيق فيما بين القوى الفاعلة في العالم، من أجل وضع حَدٍّ لعدم الإستقرار… ولخلق فرص لمعالجة الأولويات الرئيسية، وإحلال الوُضُوح مكان ضبابية الرؤية… علينا جميعًا البحث عن سُبُل الخروج من ضبابية المرحلة الراهنة، وعن حلول سريعة لقضايا الإقتصاد والبيئة، بهدف عودة النظام العالمي إلى طبيعته…”، ولا شك أن “عودة النظام العالمي إلى طبيعته” لا تعني سوى إدارة “ماكنة” الإستغلال، بالسرعة القصوى لتحقيق أقصى قَدْرٍ من الأرباح، في ظل الهُدوء التّام، أي في عالم خالٍ من المُقاومة ومن نضالات المُضْطَهَدِين والمُسْتَغَلِّين، والمُتضررين من هذا “النظام العالمي”، ويُحاول رأس المال تحميل العاملين والفُقراء نتائج “الرّكود” الإقتصادي، الذي لا ناقة لهم ولا جَمَل في حُدُوثِهِ، ولهذا السبب، وغيره، ازداد استياء المواطنين واحتاجهم، في كافة أرجاء العالم، ومُطالبتهم بتعزيز التنمية والتطور، وبتأمين الموارد المالية لتقديم الدعم الاجتماعي، والإهتمام بصحة وتعليم وسَكَن المواطنين، بدل ضخ مئات المليارات من الدولارات لفائدة المصارف والشركات الكُبرى، منذ أزمة 2008/2009…

استفادت شركات التكنولوجيا الحديثة من “العولمة” ومن التغييرات الهيكلية في رأس المال العالمي، حيث انتقلت الصناعات المُلوّثة، والتي تتطلب عددًا هامّا من العاملين، كقطاعات النسيج والأحذية، وبعض الصناعات التحويلية وتركيب قطع الأجهزة الإلكترونية والسيارات وغيرها، وهي قطاعات لا تُحقق هوامش مرتفعة من الربح، فيما بقيت الصناعات والقطاعات التكنولوجية التي تتطلب مهارات عالية، في بلدان “المَركز” (أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان…)، وهي قطاعات تُحقق قيمة زائدة، وأرباحًا مُرتفعة، وتُمكِّنُ من زيادة مَرْكَزَة رأس المال واحتكاره للقطاعات التكنولوجية المُتطورة، التي تتطلب مستوى تعليميًّا مرتفعًا ومراكز متطورة للدراسات وللبحث العلمي، ما يزيد من تعميق الهُوّة بين بلدان “المركز” وبلدان “المُحيط” أو “الأطراف”، بحسب النظرة “المَرْكزانية ” للعالم…

نجحت الشركات المُحتكرة للتكنولوجيا في نَشْر شبكات ووسائل الإتصال الحديثة، عبر العالم، وهي غير ضرورية لتعميم التعليم والرعاية الصحية والعمل والسّكن اللائقيْن والنقل العمومي، وغيرها من الضّروريات، ومع ذلك، ارتفعت درجة ارتباط سكان العالم بالشبكة الإلكترونية إلى نحو 50% من سكان العالم، ويمتلك نحو ثُلُثَيْ سكان العالم هواتف محمولة، ورغم كل الإدعاءات فإن هذه التجهيزات مكلفة وغير ضرورية، ولا تُساهم في حل مشاكل الجوع والتفاوت الطبقي، لكن تقرير المنتدى الإقتصادي العالمي يدّعي “إن التكنولوجيا الرقمية تجلب العديد من الفوائد الإقتصادية والإجتماعية الهائلة لكثير من سكان العالم”، ونُشير أن الولايات المتحدة تتحكم في تكنولوجيا الإتصالات، وتحاول عرقلة الشركات الصينية التي تُنافس الشركات الأمريكية، وتتجسس الولايات المتحدة على العالم وعلى قادة الدول، بما فيها “الحليفة”، بواسطة الشبكة الإلكترونية وبواسطة هيمنتها على تقنية غزو الفضاء…

حقائق يتجاهلها أثرياء “المنتدى الإقتصادي العالمي”:

أشرنا في فقرة سابقة إلى مبلغ الإشتراك في “منتدى دافوس”، وإلى المبالغ التي يجمعها المنتدى من المُشاركين، أفرادًا وشركات، لأنه مؤتمر نخبة ثرية جدا، واتهم المؤرخ الهولندي “روتجر بريغمان”، الحاضرين في “دافوس” بعدم تسديد نصيبهم من الضرائب، واتهمت إحدى المنظمات التي تهتم بديون “العالم الثالث”، بأن هذه “للنخبة العالمية”، الحاضرة في “دافوس” تتحمل مسؤولية الأزمات التي يعاني نتائجها الفُقراء والأُجَراء والعاطلون وصغار المُزارعين، فيما وصف رئيس تحرير مجلة “تايم” الأمريكية، أناند غريدهارادس، منتدى دافوس، سنة 2019، بأنه أقرب إلى “لقاء لمّ شمل عائلي للأشخاص الذين تسببوا في إفلاس العالم الحديث، ومجلة “تايم” لا تُدافع عن الفُقراء ولا علاقة لها باليسار أبدًا، ومن جهة أخرى تستخدم شركات عديدة هذا الحدث للدعاية وللكذب، عبر الإدعاء بالدفاع عن سلامة المُحيط وعن استخدام الطاقات النظيفة، وغير ذلك من الإدعاءات

قبل أيام من منتدى دافوس نشر صندوق الدولي “برنامج العمل”، فيما نشرت منظمة “أوكسفام” تقريرًا عن الفجوة الطبقية في العالم.

ركز تقرير صندوق النقد الدولي على بعض “التطورات التي قادت إلى مشكلات ضُعْف النمو منذ بضعة سنوات، وإلى تغيير لبنية السوق، أدى (التغيير) إلى تراجع نمو الإنتاجية، وانخفاض أسعار الفائدة، وزيادة الفوارق في الدّخل، بين البشر…”، ويرى تقرير صندوق النقد الدولي الحل في “فتح الأسواق، وتغيير السياسات بما يتلاءم مع التحديات التي خلقته التغيرات والتطورات العالمية”، وهو كلام فضفاض ولا يراعي حالة البشر، كأفراد أو مجموعات أو شُعُوب، بل إن الوقائع تُثْبِتُ أن شُروط صندوق النقد الدّولي أدّت إلى زيادة حصة الديون وخدمة الدّيون من الناتج المحلي الإجمالي للدول المُقْتَرِضَة منه، ويشترط الصندوق خفض قيمة العُملة المحلية مقابل الدولار، وخَفْضَ الإنفاق الحكومي، وخفض عدد العاملين في القطاع العام، وخصخصة مؤسسات وخدمات القطاع العام والصحة والنقل والتعليم، وخفض الرواتب وزيادة سنوات العمل (رغم البطالة)، وغير ذلك من الشروط التي ترفع أسعار السلع والخدمات الأساسية، التي رُفِعَ عنها الدّعم الحكومي، وتزيد من انتشار البطالة والفقر

أما تقرير منظمة “أوكسفام”، فقد اهتم بالفوارق المُجحفة بين الأثرياء والفُقراء، على مستوى العالم، إذ بلغ عدد أثرى أثرياء العالم 2153، تفوق ثروتهم ما يمتلكه أكثر من 4,6 مليارات شخص، أو أكثر من 60% من سُكّان العالم، واعتمد تقرير “أوكسفام” على البيانات التي تنشرها مجلة “فوربس” الأمريكية المتخصصة في متابعة ثروة الأغنياء، وعلى البيانات التي ينشرها المصرف السويسري العالمي “كريدي سويس”، وبحسب وكالة “بلومبيرغ”، تضاعفت الثروة الإجمالية لأغنى 20 مليارديرًا في العالم، من 672 مليار دولار، سنة 2012، إلى 1397 مليار دولار سنة 2019، ولكن الرواتب لم تتضاعف، كما لم ترتفع حصة الفُقراء والأُجراء من الثروة، بل انخفضت، وأكّد تقرير “أوكسفام” أن “الشركات والأثرياء لا يُسدّدون حصة عادلة من الضرائب”، وتجدر الإشارة أن الأُجَراء يُسدّدون نحو 80% من معدل مبلغ الضرائب على الدّخل التي تجبيها الدّول من دخل المواطنين والشركات والتّجار، وغيرهم، فيما لا يحصل الأُجَراء على أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وبذلك يكون التفاوت في الدّخل ناتج عن برامج حكومية مدروسة، تُخفّض حصة الأثرياء وتزيد من حصة الفقراء من الضرائب المباشرة (الضريبة على الدّخل) والضرائب غير المباشرة، كالضريبة على الإستهلاك، والخدمات، ولو أُضيفت ضريبة بنسبة 0,5% على ثروة أثرى أثرياء العالم، طيلة عقد كامل، لكانت الحصيلة كافية لخلق 117 مليون وظيفة، في مجالات مثل رعاية المسنين والأطفال والتعليم والصحة، بحسب تقديرات منظمة “أوكسفام”، التي يُشير تقريرها أيضًا إلى أن ثروة الـ1% الأكثر ثراء في العالم، تفوق ضِعف مجموع الثروة التي يملكها نحو 6,9 مليارات نسمة هم الأقل ثراء، أي ما يعادل 92% من سكان العالم، وإلى الرجال يستحوذون على ثروات العالم، وعلى سبيل المثال، يملك 22 من أثرى رجال العالم، أكثر مما تمتلكه جميع نساء قارة إفريقيا، بسبب التمييز ضد النساء، وهشاشة وضْعِهِنَّ المهني، فيما لا يعترف النظام الإقتصادي في العالم بالعمل غير المأجور الذي تقوم به النساء، والذي يُعادل 12,5 مليار ساعة عمل سنويًّا، أو ما يعادل 10,8 تريليونات دولارا من الرواتب غير المَدْفُوعة للنساء، ولذلك، ورغم حضور بعض النّساء، من عالم الأثرياء، مثل مديرة صندوق النقد الدّولي وريسة المصرف المركزي الأوروبي، ورئيسة المُفوضية الأوروبية، أو مُستشارة ألمانيا، فإن حظ النساء من الثروة قليل، ولا يتناسب مع عددهن في العالم، ولا مع جُهْدِهِن، وعملهن المَجاني لصالح الأُسَر ولصالح المجتمعات والإنسانية…  

خاتمة:

يهدف “المنتدى الإقتصادي العالمي” (منتدى دافوس) والمؤتمرات المشابهة إلى “إصلاح الرأسمالية” ومواءمتها مع التغيرات التي تحدث في العالم، ويدعو المنتدى بعض الرموز المُعارضة شَكْلاً للرأسمالية (معارضة الشكل وليس معارضة الجوهر) ليدّعي المُشرفون تطبيق الديمقراطية والإستماع إلى رأي الخُصُوم، كما تُركّز الدعاية الإشهارية للمنتدى على قضايا البيئة وتغيرات المناخ وعلى التفاوت وعلى اضطهاد النساء وغير ذلك من المواضيع التي لا تُشكّل جوهر اللقاء، بل هي فُتات يرمي به المُشرفون للخصوم. أما عن جوهر الرأسمالية، فقد أجرت شركة “إيدلمان” للإستشارات مَسْحًا، في شكل استطلاع للآراء في خمسة عشر دولة، وأظْهر الإستطلاع أن 56 % من سكان العالم يعتقدون أن الرأسمالية بشكلها الحالي، تضر العالم أكثر مما تنفعه، حيث يزداد الأغنياء ثراءً بينما يكافح بقية المجتمع من أجل الحصول على الحد الأدنى الضّروري للحياة، وأوضح تقرير الشركة تأكيد 78% من المشاركين في المسح، التناقض بين نمط عيش “نُخَب المجتمع” الذين تزداد ثرواتهم، و”الناس العاديين” الذي يكافحون ويلقون المعاناة من أجل سداد تكاليف الحياة الأساسية، وتعتقد أغلبية (لم يذكر التقرير تفاصيلها) أن الوضع لن يتحسّن خلال خمس سنوات أو أكثر، واتسمت نظرة هذه الأغلبية بالتشاؤم، وخاصة في دول رأسمالية متقدّمة، مثل فرنسا واليابان وألمانيا وإيطاليا، ففي فرنسا، تُشير بيانات من مصادر مختلفة، صدرت سنة 2019، أن سبعة من الأثرياء، أصحاب المليارات، يمتلكون أكثر مما يملكه 30% من السّكّان الأكثر فقرا، في حين يملك الـ10% الأكثر ثراء من بين الفرنسيين نصف ثروات البلاد، وفي اليابان، يعتقد 15% فقط من السكان أنهم سيكونون أفضل حالًا خلال السنوات الخمس المقبلة، لكن هذه النسبة تصل إلى 43 % في الولايات المتحدة…

في سويسرا، موطن “المنتدى الإقتصادي العالمي” في منتجع “دافوس”، ورمز رأس المال المالي، والمُضارَبَة، نشرت صحيفة “زود أوست شفايتس”، يوم السبت 06 تموز/يوليو 2019، ملخص حوار مع  “كلاوس شواب”، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي أثار مسألة ارتفاع الأسعار في منتجع “دافوس”، بينما نشر موقع “سويس انفو” ملخص تقرير عن ارتفاع معدلات الفقر بنسبة 10% خلال سنة واحدة، ليبلغ عدد الفُقراء الذين أحْصَتْهُم مصالح الرعاية الإجتماعية الحكومية نحو 675 ألف شخص سنة 2017، وارتفعت نسبة الفُقراء من 6,7% من السكان سنة 2014 إلى نسبة 8% سنة 2017، وارتفعت نسبة المواطنين الذين يضطرون للإعتماد على المساعدة الاجتماعية، ويشتكي المواطنون من ارتفاع حصة أقساط التأمين (التي يُسددها المواطن) بأكثر من الضعف خلال عقدَيْن، فيما لم ترتفع الرواتب سوى بنسبة 14% خلال نفس الفترة…

تتسم المرحلة بهيمنة الرأسمالية الريعية، حيث أصبحت بعض الشركات والمصارف أقوى من الدّول، وأكّدت أزمة 2008/2009 قُوّة المصارف التي تلقت تمويلات ضخمة من المال العام، كما شكّلت تلك الأزمة فُرصة اغتنمتها شركات التكنولوجيا العملاقة لتتضخم وتُهيمن على قطاع التكنولوجيا الدقيقة والإتصالات في العالم، وزادت هيمنة الشركات والمصارف الضخمة، بعد 2008، على العالم، بفضل المال العام، وليس بفضل تمويل أصحاب الأسهم، ما فاقم من مسألة توزيع الثروة، فبدل استثمار المال العام في المسكن والتعليم والرعاية الصحية والنّقل، منحت المصارف المركزية المال العام (من ضرائب الأجراء والمُستهلكين) إلى الشركات والمصارف، بفائدة رمزية، أو بدون فائدة أصْلاً، وبدل تأميم هذه الشركات، لتصبح ملكًا للمواطنين، الذين سددوا ثمن إنقاذها، تمت إعادتها لأصحاب الأسهم، الذين تسببوا في أزمة النظام المالي، وفي حالة الرّكود الإقتصادي والبطالة وغير ذلك من المشاكل التي يتحمل وزرها المواطن العادي، وارتفعت بذلك حصة رأس المال من إيرادات الشركات، مقابل انخفاض حصة “العَمل”، أي حصة الرواتب ومساهمات الشركات والأُجَراء في نظام التأمين الصّحّي والتقاعد وغير ذلك من فُصُول المظلّة الإجتماعية…

إن ادّعاء إمكانية إصلاح الرأسمالية لا يؤدّي سوى لنشْر وهمٍ يُعيق استفاقة ذوي المصلحة في تغيير نظام الحكم، ويُعيق عملية تغيير موازين القوى لصالح العاملين، لذلك يتمثل الهدف في أن يتمتع الكادحون والمُنْتِجُون والأُجَراء بنتائج عملهم، لكي يتمكنوا من تلبية حاجتهم (سكن وغذاء ونقل ورعاية صحية وتعليم وترفيه…) بدل استئثار طبقة طُفيْلِيّة غير مُنتجة، بنتيجة عمل وعرق الغير…   

قد يعجبك ايضا