سياسات المؤسسات المالية الدولية / زياد حافظ

نتيجة بحث الصور عن زياد حافظ

زياد حافظ* ( لبنان ) – الأحد 5/1/2020 م …




*اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي …

سيف الانهيار المالي والاقتصادي مسلّط على لبنان بفعل فساد الطبقة السياسية الحاكمة المهتمة بمصالحها الخاصة فقظ ولارتباط بعضها بدوائر خارجية لها مصلحة في إضعاف لبنان للسيطرة عليه لأسباب سياسية لا داعي الخوض فيها الآن.  هذا مختصر الحالة التي يمرّ بها لبنان والسؤال المطروح هو هل ستقدم الحكومة المقبلة على “الاستعانة” بالمؤسسات المالية الدولية للخروج من النفق المظلم؟  لا نستطيع هنا إلاّ التكهّن بما ستقدم عليه الحكومة المقبلة لعدم إفصاح الرئيس المكّلف عن أي تصوّر للخروج من المستنقع.  لكن إذا ما سارعت الحكومة للجوء إلى تلك المؤسسات وخاصة مؤسسة صندوق النقد الدولي ومجموعة مؤسسات التابعة للبنك الدولي فإن سيادة لبنان الاقتصادية والمالية قد تصبح قاب قوسين.  وهناك مؤسسات مالية دولية أخرى كمؤسسة مصرف الاستثمار الأوروبي وصندوق التنمية في فرنسا وألمانيا الخ.  سنعالج في هذه المقاربة سياسة مؤسسات اجماع واشنطن التي تلقي بظلّها على معظم المؤسسات المالية الدولية الغربية.  كما أن هناك مؤسسات مالية جديدة في آسيا ما زالت غير موجودة في الساحات العربية ولكنّها مرشّحة لدخولها وذلك لأن شروطها قد تكون أفضل وأقلّ عبئا على الدول التي لا تريد الخضوع للهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص.  وهذه المؤسسات تستحق مقاربة خاصة بها وإن كان سجّلها ما زال حديثا.

الخطورة في اللجوء إلى مؤسسات البنك الدولي والصندوق النقد تعود إلى أن إرشادات أو “توصيات” مجموعة تلك المؤسسات تتلازم مع شروط صارمة تضع قرار السيادة الاقتصادية والسياسية الوطنية تحت الوصاية الخارجية.  وهذه الوصاية من صنع ما يُسمّى بإجماع واشنطن حيث صندوق النقد الدولي ومجموعة مؤسسات البناك الدولي والخزينة الأميركية.  هذا الاجماع له مرتكزات سياسية التي تستند إلى فكر اقتصادي نيو ليبرالي متجذّر أصبح نوعا من العقيدة الدينية.  وهذه السياسة تهدف إلى السيطرة على مقدّرات الدول التي تتدخّل فيها بحجة إعادة التوازن إليها.  فكلمة السر هنا “إعادة التوازن” في المجموعات الكلّية الاقتصادية والمالية كالموازنة، وحجم الدين العام، واللاتوازن في ميزان المدفوعات في معظم الأحيان.  فكل القرارات التي تتخذها هذه المؤسسات هدفها نظريا إعادة التوازن دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة والتي تتأثر سلبا عند تنفيذ “التوصيات”.

هذه الوصف السريع لقرارات تلك المؤسسات يستوجب التوضيح. التوضيح الأول يفرض التمييز بين قرارات صندوق النقد و”إرشادات” البناك الدولي، و”إجراءات الخزينة الأميركية”.   صندوق النقد الدولي يتدخّل في مالية الدولة بينما البنك الدولي يمسك بمفاصل الاقتصاد الوطني.  أما الخزينة الأميركية فهي العصا الغليظ الذي تشهره ضد الدول العصية على “توصيات” الصندوق وأو “إرشادات” البنك الدولي وأو على السياسة الخارجية الأميركية.  وهذا العصا الغليظ هو سلّة العقوبات التي تفرضها على مؤسسات وأشخاص في الدولة العصية على “التوصيات” او “الارشادات” التي تتماهى في كثير من الأحيان مع المصلحة الأميركية في بلد ما.

توصيات صندوق النقد الدولي تهدف إلى ما تُسمّيه إعادة التوازن في المتغيّرات الكّلية للاقتصاد الوطني في أية دولة كانت.  في الماضي كان دور صندوق النقد الدولي دور المصرف المركزي للمصارف المركزية في العالم مهمته توفير السيولة للمدفوعات الدولية لدول تشكو من عجز موقت في تسديد المدفوعات الخارجية.  مع الزمن تطوّر ذلك الدور وخاصة بالنسبة للدول الناشئة المتحرّرة حديثا من الاستعمار الأوروبي لضبط مالية تلك الدول عبر “مساعدات” تعيد “التوازن”.  والمقصود بالتوازن هو ضبط عجز الموازنة وتحرير العملة الوطنية وإخراجها من سياسة تثبيت صرف العملة وتحرير الأسعار عبر رفع الدعم عن سلّة من السلع الأساسية.  وبالنسبة لضبط الموازنة يسعى الصندوق إلى تخفيض النفقات التي تقوم بها الدولة وزيادة الموارد المالية عبر زيادة الضرائب وغالبا ما تكون الضرائب غير المباشرة التي لا تؤثّر في الطبقات الغنية بل فقط في الطبقات الشعبية والفقيرة.

النقطة الأساسية هنا هي تخفيض النفقات والمقصود هنا خروج الدولة من دائرة العجلة الاقتصادية ورفع الدعم عن المواد الأساسية كالمحروقات والطاقة والخبز وعدد من المواد الغذائية. أما خروج الدولة من الدائرة الاقتصادية فهذا يعني أن الدولة ليس من مسؤوليتها تملّك وأو إدارة منشاءات اقتصادية وبالتالي عليها أن “تبيعها” للقطاع الخاص، أي بمعنى أخر خصخصة الاقتصاد.  اما فيما يتعلّق بسعر الصرف فيصرّ الصندوق على جعل سعر الصرف للعملة الوطنية يتحرّك وفقا لمقتضيات العرض والطلب على النقد الأجنبي للحفاظ على شفافية منظومة الأسعار التي لا تخضع لدعم مقنّع من قبل السلطات، لكن في الأساس هو المقياس الذي يحافظ على حرّية حركة الرساميل من وإلى خارج الاقتصاد الوطني وذلك دون أي قيد.  هذه الإجراءات تعني ان الخدمات التي تقدّمها الدولة لمواطنيها ستنخفض وخاصة في قطاعات حيوية كالطبابة والتعليم وتعويضات نهاية الخدمة للموظفين العاملين في القطاع العام أي تفكيك شبكة الأمن الاجتماعي.  هذا يعني أن خصخصة تلك القطاعات تصبح من أولويات الدولة الخاضعة لإملاءات الصندوق.  النتائج الاجتماعية قد تكون وخيمة.

المساهمات المالية التي يمنحها الصندوق متعدّدة.  النوع الأول يتعلّق بقروض يمنحها الصندوق للدول الفقيرة بفوائد مخفّضة وتهدف إلى تخفيض الفقر على حد زعمه.  وهناك قروض تـأخذ طابع تسهيلات مالية تمنحها بفوائد تجارية وعددها خمسة لن نبحثها لضيق المساحة المتاحة.  والدول التي تواجه عدم توازن في ميزان المدفوعات تستطيع سحب ما يوازي 25 بالمائة من مساهمتها في الصندوق من ذهب أو عملات قابلة للتحويل.  وإذا كان ذلك غير كافيا فيمكن أن تقترض ما يوازي ثلاثة أضعاف مساهمتها.  أما شروط القروض فهي محدودة بالزمان وتخضع لشروط قاسية تتعلّق بقصر مدّة الاستحقاق التي لا تتجاوز في بعض الأحيان السنة أو السنتين في الحالات التي تتعلّق ببرامج تركيز الاقتصاد بينما تسهيلات أخرى قد تصل مدّة استحقاقها إلى عشرة سنوات.  كما أن شروط الإفراج عن تلك التسهيلات تعني الرقابة المشدّدة على سلوك الدول والالتزام بالتوصيات كم أكدّته مجموعة المانحين في مؤتمر “سيدر” في باريس.  والأولوية المطلقة هي دفع الاستحقاقات في وقتها دون أي تأخير.  القروض الأخرى التي يمنحها الصندوق هي للدول التي تشكو من ثقل الديون المتراكمة عليها.  وهذه القروض هدفها تخفيف عبء الديون الخارجية وجعل تسديدها ممكنا (وليس بالضرورة اطفائها!). ومن ضمن شروط للاستفادة من القروض الخضوع التام لتوصيات الصندوق من إجراءات.  وأهم هذه الشروط هي إعادة هيكلة المالية الوطنية والسياسة النقدية وتسديد الالتزامات الخارجية قبل الالتزامات الداخلية، أي تسديد الديون للمؤسسات المالية الخارجية.  صندوق النقد يتصرّف وكأنه المدافع عن المصارف الدولية التي تقرض الدول وهي تعلم أنها قد تكون عاجزة عن تسديد الديون.  مثل اليونان هو خير دليل على ذلك. اما الدول التي يمكن ان تستفيد من تلك القروض والتسهيلات المالية فليست كلّها مؤهّلة لذلك.   فهناك قائمة بحوالي 80 دولة مؤهّلة وفقا لمعايير يفرض الصندوق ولبنان ليس منها حتى الآن!

أما مجموعة البنك الدولي فهي تضمّ خمس مؤسسات أولها مؤسسة البنك التي تتعامل فقط مع الدول.  ثانيا، المؤسسة الدولية للتنمية (إيدا) التي تمنح القروض بفوائد مخفّضة جدّا قريبة من الصفر للدول الأكثر فقرا.  ثالثا، المؤسسة المالية الدولية (أي، أف، سي) التي تتعاطى فقط مع القطاع الخاص لتمويل مشاريع متوسطة الأجل. رابعا، مؤسسة متعدّدة الأطراف لضمان الاستثمارات والمعروفة تحت اسم “ميغا” والتي تضمن للمستثمر الخارجي حماية استثماره من إجراءات تعسّفية قد تأخذها الدولة المستضيفة بحق المستثمر الخارجي.  وخامسا، المركز الدولي لفضّ الخلافات حول الاستثمارات أو مؤسسة “إيكسد”.  لن نسترسل في مهام لهذه المؤسسات لضيق المساحة غير أنها تستحق شرحا مفصّلات حول اعمالها.

البنك الدولي له “إرشادات” مختلفة ولكنّها تصبّ في إطار خصخصة الاقتصادات الوطنية وإخراج الدولة من دائرة العجلة الاقتصادية. فبعد حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي التي انصبت جهود مؤسسات البنك الدولي على إعادة هيكلة الاقتصادات التي كانت تتبع التخطيط المركزي وحيث كانت الدولة المحرّك الأساسي للعجلة الاقتصادية تحوّلت في مطلع الألفية الثالثة إلى تمويل برامج تحارب الفقر وتنشر المعرفة التنموية عبر مساعدات تقنية. كما أنها تهدف إلى إيجاد “البيئة الملائمة للاستثمار الخارجي” الذي لولاه لا يمكن أن ينتعش أي اقتصاد.  فمن ثوابت البنك الدولي فرضية أن المدّخرات الوطنية غير كافية لتمويل المشاريع التنموية في القطاع الخاص وبالتالي هناك حاجة إلى دعوة الرساميل الخارجية ضمن بيئة تضمن حماية تلك الاستثمارات الخارجية. والاستثمار الخارجي المباشر يعني تسليم المقدّرات الاقتصادية الاستراتيجية للرساميل الخارجية بعض فرض تشريعات تسمح بذلك.  فقطاعات الطاقة، والمواصلات، وسائر المواد الاستراتيجية، والمرافق الحيوية كالمرافئ والمطارات لا يمكن أن تنهض بالرساميل الوطنية ولذلك لا بد من إيجاد بيئة اقتصادية ومالية مؤاتية لجلب تلك الرساميل.  هذا هو ادّعاء البنك الدولي الذي يصعب الموافقة عليه.  فالأدلّة كثير تنقض ذلك الادعاء كما حصل مؤخرا في مصر في عملية توسيع قناة السويس على سبيل المثال.  استطاعت الحكومة المصرية تمويل المشروع بست مليارات دولار من المدخرات الوطنية.

أما فيما يتعلّق باليد العاملة فعليها أن تستمر في الرخص لتمكين الجدوى الاقتصادية وربحية رأس المال سواء كان وطنيا أو أجنبيا. من هنا الضغط المستمر على خفض الرواتب والأجور!  والجدير بالذكر أن ذلك التوجّه يستوجب مشاركة ما يُسمّى ببعض رموز الراس المالية الوطنية التي تتخذ “شراكة استراتيجية” مع شركات دولية لها القدرة والمعرفة على إدارة المشاريع وتسويق المنتجات.  هناك طبقة محلّية تنتفع من تلك الشراكة الخارجية للحفاظ على “طابع وطني”.  لكن في كثير من الأحيان وخاصة في قطاعات استراتيجية كالنفط والغاز والمعادن “الشراكة الوطنية” غير مستحبّة بل مرفوضة.  التحكّم بالموارد الطبيعية الاستراتيجية من الحق الحصري غير المعلن للشركات الدولية.  سجل البنك الدولي في العديد من الدول حافل على تلك التوصيات خاصة في أميركا اللاتينية.

حرص البنك الدولي على تطهير معالم التخطيط المركزي والمؤسسات التنموية المركزية لصالح المصارف وخاصة المصارف الدولية.  فحقبة الستينات شهدت العديد من الدول التي كانت تحت الاستعمار المباشر الأوروبي الحصول على استقلالها وانتهاج سياسة التخطيط المركزي والعديد منها بعض مظاهر الاشتراكية.  لكن سوء إدارة القطاعات الحكومية لمفاصل الاقتصاد سرعان ما أدّى إلى تراجع في معدّلات النمو فلجأت تلك الدول إلى البنك الدولي الذي فرض إعادة هيكلة الاقتصاد تحت شعار الإصلاحات الاقتصادية.  هذا أدّى أيض إلى نمو طبقة طفيلية تستفيد من العمل في فلك توصيات البنك الدولي وصندوق النقد.

بالمقابل حدث تحوّلا في البيئة الفكرية في الغرب التي روّجت بعد الحرب العالمية الثانية فكرة التخطيط المركزي لإعادة إعمار أوروبا المدمّرة.  فكان ذلك التحوّل نحو تقليص دور القطاع العام والابتعاد عن التخطيط وترك الأمور للسوق لتحديد توزيع الرساميل في المشاريع القابلة للحياة.  وتلازما مع ذلك التوجّه في أواخر السبعينات من القرن الماضي نمت فكرة النيوليبرالية في المملكة المتحدة تحت رعاية مارغاريت ثاتشر وفي الولايات المتحدة تحت رعاية رونالد ريغان وصعود نجم الاقتصاديين المعاديين لأي دور للدولة في الدائرة الاقتصادية كفريدريك فون هايك وميلتون فريدمان.  الاخير روّج لقوّامة السياسة النقدية على السياسة المالية التي تسبّب النمو دون التضخم وفقا لرؤيته.  فكان تنامي الأسواق المالية الذي تلازم مع إعادة توطين القاعدة الإنتاجية في الولايات المتحدة في الخارج والتركيز على نمو المؤسسات المالية كمحرّك أساسي للاقتصاد.  كل ذلك حصل في مناخ ترويج العولمة التي تحوّلت إلى سيطرة الرأس المال المالي الدولي على مقدرات اقتصادات الوطنية.  هذه التطوّرات تبنّتها مؤسسات البنك الدولي التي فرضتها بشكل مباشر على الدول التي كانت تريد أن تستفيد من قدراتها التمويلية.  وما زالت العقيدة النيوليبرالية متحكّمة بقرارات البنك الدولي كما هي متحكّمة بجيلين من الاقتصاديين المتخرّجين من الجامعات الغربية خلال العقود الثلاثة الماضية.

النظام النيوليبرالي الذي يوصّي به البنك الدولي يعطي القوّامة في الاقتصادات الوطنية إلى السياسات النقدية.  وبالتالي تصبح المصارف متحكّمة بمجريات الأمور في تلك الاقتصادات.  الهدف من تلك السياسات تحويل المجتمعات الخاضعة لذلك النظام إلى مجتمعات استهلاكية تنفق مدخولها وتستدين في سبيل الاستهلاك لكن ذلك فقط بين المواطنين.  الدولة أو القطاع عام عليها أن يقلّص نفقاتها إلى أقصى الحدود حرصا على “التوازن” المالي.  النتيجة هي إعادة هندسة للمجتمع وتبعية للخارج بغض النظر عن التوتّر الاجتماعي الذي يرافقه.  وتلازما مع تلك سياسات لإعادة هيكلة الاقتصاد أو لمحاربة الفقر يقوم البنك الدولي ببعض برامج لمساعدات تقنية في العديد من القطاعات وكأن الدول والمجتمعات في عالم معولم إلى أقصى الحدود ما زالت بعيدة عن مراكز المعرفة والتقدّم وبالتالي بحاجة إلى “مساعدة” البنك الدولي.  ولكن هذا حديث آخر.

نكتفي بهذا العرض السريع والمقتضب لأهم مظاهر سياسات الصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.  نعي أن هذه السياسات تستحق نقاشا وتفصيلا أكبر وهذا ما يمكن أن يكون موضوع سلسلة من مقالات مستقبلية إن شاء الله.

 

قد يعجبك ايضا