أمريكا الجنوبية – النص الأول – رأسمالية القرن الواحد والعشرين / الطاهر المعز

الطاهر المعز  ( تونس ) الجمعة 25/10/2019 م …




لم يتمكن اليمين الذي تعتبره الولايات المتحدة “معتدلا”، من الإستقرار ومن فرض خطط رأس المال، عبر صندوق النقد الدولي، في معظم بلدان أمريكا الجنوبية، سواء في البرازيل أو الأرجنتين، حيث تَعَثّر “ماوريسيو ماكري”، في الإنتخابات التمهيدية، كما يلاقي رموز اليمين البرازيلي بعض المصاعب، بعدما اعتبرت مؤسسات “وول ستريت” وصندوق النقد الدّولي، فوز اليمين في البرازيل والأرجنتين وبيرو وتشيلي وكولومبيا وإكوادور، بمثابة “نهاية التاريخ”، وإعلان وفاة اليسار (“المعتدل” أيضًا) في أمريكا الجنوبية، وبعدما شكل انتخاب “بولسونارو” في البرازيل انتصارًا لليمين المتطرف ولأنصار الإنقلابات والدكتاتوريات العسكرية، لكن تطبيق سياسات التقشف وإلغاء دعم أسعار الوقود والمواد الأساسية، أثار غضب الفُقراء والأُجراء ومُتوسِّطِي الدّخل في العديد من بلدان جنوب القارة الأمريكية، في الأرجنتين، وفي البرازيل، وبيرو، وتشيلي، وإكوادور، بالإضافة إلى كولومبيا التي يحكمها اليمين، والتي تعتبر قاعدة أمريكية ثابتة…

اعتبر صندوق النقد الدولي فَوْزَ “ماوريسيو ماكري” بمنصب رئاسة الأرجنتين، بالإضافة إلى 13 مقاطعة، من إجمالي 23، ومن بينها العاصمة “بيونس إيرس”، بمثابة انتصار عظيم للإقتصاد الليبرالي، في أمريكا الجنوبية، وكان رئيس البرازيل السابق “ميشال ثامر” يعتبر “ماكري” نموذجا يحتذى به في مجال “الإصلاحات” الاقتصادية، ووعد الإنقلابي الفنزويلي “خوان غوايدو” بالإقتداء بنهج “ماكري”، الذي لم يتمكن من ترسيخ نفوذه في بلاده، بل مُنِيَ بهزيمة واضحة، في الانتخابات التمهيدية لشهر آب/أغسطس 2019، بسبب تدهور الوضع الإقتصادي، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وبدأ شبح الهزيمة يتهدد اليمين الذي هلّل في السنوات الأخيرة، لانتصار بيدرو بابلو كوتشينسكي في بيرو، وسيباستيان بينيرا في شيلي، وإيفان دوكي في كولومبيا، ولينين مورينو في إكوادور، واليميني المتطرف “جاير بولسونارو” في البرازيل، وكذلك ماوريسيو ماكري في الأرجنتين، والذي أغرق البلاد بالديون من صندوق النقد الدولي…

أدّت السياسات اليمينية الليبرالية إلى احتاجات في عدد من بلدان أمريكا البجنوبية.

في تشيلي، انطلقت الإحتجاجات على ارتفاع الأسعار، منذ السادس من تشرين الأول/اكتوبر 2019، وتظاهر المواطنون في العاصمة “سنتياغو” بشكل مكثف يومي الخميس 17 والجمعة 18 تشرين الأول/اكتوبر 2019، احتجاجًا على ارتفاع أسعار النقل، للمرة الثانية منذ بداية سنة 2019، وارتفاع تكاليف المعيشة، مما أدى إلى صدامات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، واستخدمت الشرطة خراطيم المياه المضغوطة، والقنابل المسيلة للدموع، وألقت القبض على ما لا يقل عن 133 متظاهر، بحسب بلاغ الشرطة، وهاجم المتظاهرون مقرات بعض الشركات والمتاجر الكبرى والمصارف، فأعلن الرئيس اليميني “سيباستيان بينيرا” حالة الطوارئ، ونَشْر قوات الجيش في الشوارع والساحات، وإغلاق جميع محطات قطار النقل الحَضَرِي في العاصمة، وعددها 164 محطّة، تمتد على طول 140 كيلومترأ، ويستخدمها حوالي ثلاثة ملايين مسافر يوميّا، وانتشر الجيش في الشوارع والساحات، وهدّد الرئيس باللجوء إلى القوانين الإستثنائية (قانون أمن الدولة) الذي يسمح بسجن المتظاهرين والمُضربين لمدة تصل إلى عشر سنوات…

في إكوادور، تظاهر المواطنون يوم الإربعاء 16 تشرين الأول/اكتوبر 2019، ضد سياسة التقشف التي فَرضها صندوق النقد الدولي، وتُطبقها حكومة “لينين مورينو”، مقابل قرض بقيمة 4,2 مليار دولار، وتحدّى المتظاهرون قانون الطوارئ وحظر التجوال الذي أقره الرئيس، منذ الثالث من تشرين الأول/اكتوبر 2019، وكان المحتجون قد اقتحموا مقر البرلمان لفترة وجيزة، وادّعى الرئيس اليميني إن هذا الحراك الشعبي يمثل مناورة ومحاولة انقلابية، لزعزعة استقرار البلاد، وشملت ال؛تجاجات قطاع النقل الذي توقف يومي لفترة يومين، وأغلق المتظاهرون من السكان الأصليين للبلاد، الطرقات في جبال سييرا وسييرا نورتي، كما عَمّت الإحتجاجات المراكز الحضرية والمقاطعات الساحلية، بداية من يوم الإثنين، 14 تشرين الأول، ونفذت النقابات إضرابا عامّا يوم الإربعاء 16 تشرين الأول/اكتوبر 2019، ضد برنامج التقشف الذي يُسمّيه صندوق النقد الدولي “برنامج الإصلاح الإقتصادي”، وتمثلت أهم مظاهره في إلغاء دعم الوقود (الذي تنتجه البلاد وتُصدّر جزءًا منه)، وزيادة سعره، بنسبة تصل إلى 123%، ما أدّى إلى زيادة سعر النقل والسلع الأخرى، بنسب تتراوح بين 15%، زيادة على إجراءات سابقة شملت تخفيض الإجازات مدفوعة الأجر، وخصخصة الضمان الاجتماعي، وخفض التحويلات الإجتماعية للأُسَر الفقيرة، ما أثار غضب الفئات الأشد فقرًا، وأعلنت الشرطة اعتقال ما لا يقل عن 700 شخص، وقتل ما لا يقل عن خمسة متظاهرين، واضطر الرئيس الإكوادوري “لينين مورينو” إلى إلغاء زيادة أسعار منتجات الطاقة، لكن تواصلت المظاهرات، بسبب تفاقم الوضع، وزيادة الأسعار، ونسبة التضخم، وتوسع دائرة الفُقْر، وانخفاض مستويات المعيشة ومستوى التعليم، خلال السنوات الأخيرة، وكان الإقتصاد قد انكَمَشَ سنة 2018، كما انخفضت احتياطيات الدولار في المصرف المركزي، بسبب انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية…

جابهت الحكومة اليمينية في إكوادور، احتجاجات المواطنين بإعلان حالة الطوارئ، وتعليق الحقوق المدنية وبنشر الجيش في البلاد للتصدّي للمتظاهرين، لكن هذه الإجراءات القمعية لم تضع حدًّا للإحتجاجات والمظاهرات والإضرابات، بل توسعت الإحتجاجات لتشمل السكان الأصليين والطلاب والمُدرِّسِين والمتقاعدين، والنساء والشيوخ، وبلغ عدد الضحايا، يوم 18 تشرين الأول/اكتوبر نحو سبعة أشخاص، وإصابة المئات بجروح وبلغ العدد الرسمي للمعتَقَلِين أكثر من ألف، بحسب مرصد الحقوق في إكوادور…

في بوليفيا، تجري انتخابات عامة يوم الأحد 20/10/2019، لانتخاب النواب وأعضاء مجلس الشيوخ، ورئيس الجمهورية…

أصبح “إيفو موراليس” أول رئيس للبلاد، من السكان الأصليين، سنة 2006، وشجع الزراعة، وأقر برامج اجتماعية ضخمة انتشلت ملايين المواطنين من الفقر، وخاضت حكومته معارك ضد الشركات متعددة الجنسيات، التي نَهَبت موارد البلاد، على مر العقود، وأصبحت بوليفيا، منذ 2006، نموذجا للتحديث وللنمو القوي، وانخفاض المديونية، لكن الإقتصاد بقي قائمًا على استغلال المواد الأولية، والمناجم والمحروقات (الغاز)، وأعيد انتخاب الرئيس مرتين ( 2009 و 2014)، بعد تغيير بنود الدستور، وعاشت البلاد استقرارًا استثنائيّا لأنها كانت البلد الأكثر اضطرابا وتقلبا في أمريكا الجنوبية، ويخوض الرئيس “موراليس” انتخابات هذا العام انتخابات صعبة، مع زيادة حدة المعارضة التقليدية لرجال الأعمال، خصوصا في شرقي البلاد، ومعارضة بعض الفئات الأخرى من المدافعين عن البيئة، وعلى “التّنوّع البيولوجي”، رغم الدعم الواسع الذي يتمتع به الرئيس “موراليس”، جراء تحسين الظروف المعيشية والحد من معدلات الفقر والبطالة، بفضل تنظيم الاقتصاد وإعادة توزيع الثروة، بعد تأميم المحروقات والغاز، وإقرار الضريبة على الشركات، ما أدّى إلى مضاعفة ميزانية الدولة أربعة مرات بين سنتَيْ 2006 و 2013، وسمح ذلك بتمويل البرامج الاجتماعية، ودعم أسعار الكهرباء والخدمات الأساسية، وتمويل أشغال البنية التحتية، وتمويل مشاريع منتجة في مجال الزراعة، لكن هناك نزاعات بشأن أشغال عبور “المحمية الوطنية”، وبحيرة “بوبو”، بطريق كبير لربط مختلف مناطق بوليفيا، وإنشاء المطارات والطرق وشبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية، التي تسمح بتطوير البلاد، لكنها تُشوه البيئة، خاصة في منطقة “سانتا كروز”، وشرق البلاد، حيث ينتشر إنتاج المحاصيل المعدلة وراثيا، ومن بينها 1,5 مليون هكتار لإنتاج فول الصويا، بالإضافة إلى إنتاج الذرة والبطاطا والأرز والقطن، من قبل كبار المزارعين…

أمريكا الجنوبية – النص الثاني

أمريكا الجنوبية، بين الهيمنة الأمريكية والمقاومة الشعبية:

الطاهر المعز 23/10/2019

في بوليفيا، تستعد الولايات المتحدة للتدخل بعدة أشكال ووَسائل، بعدما زعزعت استقرار فنزويلا، أما المناسبة فكانت الإنتخابات الرئاسية التي جَرَتْ يوم الأحد 20 تشرين الأول/اكتوبر 2019، وتتهم الولايات المتحدة، ومن ورائها المعارضة البوليفية، التي تتشكل من رجال الأعمال والفلاحين الكبار، خصوصًا في شرق البلاد، لجنة الإشراف على الإنتخابات، بتزوير النتائج لصالح الرئيس “إيفو موراليس” الذي فاز بنسبة فاقت 46% من أصوات الناخبين، بفارق يفوق 10% عن منافسه، مما يُمكّنُهُ من الفوز في الدورة الأولى، دون الحاجة إلى دورة ثانية… وانطلقت، منذ إعلان النتائج، يوم الإثنين 21/10/2019، مظاهرات عنيفة، وصدامات بين متظاهرين، كانوا جاهزين، عند إعلان النتائج، وقوات الشرطة، وكان المتظاهرون محتشدين أمام مقر لجنة فرز الإنتخابات، وحال إعلان النتائج الأولية، عمدوا إلى رشق قوات الأمن بالحجارة، فردت عناصر الشرطة بإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع، وأعلنت الولايات المتحدة، بعد ساعة واحدة تأييد مُرشّح المعارضة “كارلوس ميسا”، مُتّهمَةً لجنة الإنتخابات وجهاز القضاء المُشرف على عملية الإنتخابات وفرز الأصوات، بالتّزْوِير، وطَعَنَت المعارضة (المدعومة أمريكيًّا) في هذه النتائج الأولية، أما الرئيس فقد أعلن أن هذه النتيجة سوف تُمكّنُهُ من متابعة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية، ويشمل البرنامج الإنتخابي للرئيس “موراليس” ثلاثة عشر بنْدًا أساسيًّا “لتأمين الأمن الغذائي، وتطوير منظومة الإنتاج، بهدف القضاء على الفقر والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية المجانية وعلى الاتصالات السلكية واللاسلكية…”

تُعْتَبَرُ فترة رئاسة “إيفو موراليس” الممتدة منذ 2006، أطول فترة استقرار في تاريخ البلاد، ويراهن على تحقيق نموذج التنمية الاجتماعية الذي أدى إلى إعادة توزيع الثروة، وانخفاض في مؤشرات الفقر وعدم المساواة الاجتماعية، بحسب تقارير الأمم المتحدة واليونيسيف، التي أشادت بالإنجازات الاجتماعية والاقتصادية للحكومة.

ردّت الولايات المتحدة الفعل بسرعة، على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون أميركا الجنوبية، “مايكل كوزاك”، الذي اتّهم المحكمة العليا البوليفية “بتقويض الديمقراطية”، ودعا إلى “إعادة فرز الأصوات، واتخاذ إجراءات فورية لاستعادة المصداقية لعملية الإنتخابات”، وأطلقت المعارضة اليمينية في بوليفيا، كصدى للتصريحات الأمريكية، التي وردت في قالب تهديد، دعوات إلى الإلتفاف حولها (حول المعارضة اليمينية) وإلى الإضراب العام، دعمًا ل”كارلوس ميسا”، منافس الرئيس “إيفو موراليس”، وفي الحين انطلقت أعمال عنف في مناطق مختلفة من البلاد، وشملت إضرام النيران في مبنى المحكمة العليا للإنتخابات، في العاصمة الدستورية “سوكري”، بتهمة “تواطؤ المحكمة مع الرئيس، وتزوير نتائج الإنتخابات”، وحصلت اشتباكات بين متظاهرين من أنصار “ميسا” والشرطة في كلّ من العاصمة “لاباز” ومدن “بوتوسي” و”سانتا كروز”، وتعرّض مقرّ الحملة الانتخابية للحزب الحاكم في “أورورو” للنهب… من جهتها، أبْدَت بعثة “منظمة الدول الأميركية” لمراقبة الانتخابات “قلقًا عميقًا” من نتيجة الانتخابات الرئاسية…

في إكوادور:

انتفض الشعب في بداية شهر تشرين الأول/اكتوبر 2019، ضد الخطط الإقتصادية التي يُشرف على تنفيذها صندوق النقد الدّولي، والتي أدّت إلى إفقار الأُجراء ومتوسطي الدخل، والعُمال، وصغار المزارعين، وأعلن ائتلاف المنظمات المحلية المعارضة لسياسة الرئيس “لينين مورينو” في السابع من تشرين الأول/اكتوبر 2019، رفض التدابير الاقتصادية، وطالبَ بإلغاء الإتفاق مع صندوق النقد، والتزام الشفافية في تصرفات السلطة التنفيذية، ووضع حدّ لبرنامج خصخصة المؤسسات العمومية، وكان برنامج الحكومة لسنة 2019، يتضمن إعفاء المصارف والشركات الكبرى من ضرائب بقيمة تُقارب 4,3 مليارات دولارا، وتَيْسير تسريح العُمال والأجَراء، وتعميم العمل الهش وبدوام جُزئي، وإلغاء عقود العمل، وتجريد العاملين من كافة الحُقُوق الإجتماعية، وخفض القيمة الحقيقية للرواتب (الهزيلة أصْلاً) بمعدّل 20%، وتخفيض مدة الإجازات القانونية بنسبة 50%، بالتوازي مع زيادة أسعار الوقود الناجمة عن إلغاء الدعم، مما رفع أسعار النقل في البداية، ثم جميع السّلع الأخرى، وأدّى القمع الحكومي للإحتجاجات الشعبية إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص، وإصابة المئات، واعتقال الآلاف، قبل الإفراج عن العديد منهم، وفقدان نحو 100 شخص، لم يُعْرَف مصيرُهُمْ، وانتهاكات عديدة أخرى لحقوق الإنسان…

تراجعت الحكومة عن بعض القرارات، لكن الإتفاق مع صندوق النقد الدولي لا يزال ساري المفعول، مقابل قرض بقيمة 4,2 مليار دولارا، وينتظر النّظام فرصة مواتية لتطبيقه، ربما بأشكال مختلفة، وبدعم من الإمبريالية الأمريكية التي تمكّنت من إقامة قاعدة عسكرية جزر غالاباغوس (وهي محمية دولية، وواحدة من آخر المناطق غير المُلَوّثة في العالم)، وتُساهم حكومة إكوادور (مع حكومة كولومبيا والبرازيل والأرجنتين) في حملة أمريكية، إعلامية وسياسية، مسعورة ضد ما تبقى من حكومات تقدّمية في أمريكا الجنوبية…

في الأرجنتين:

تميّز الوضع بأزمة اقتصادية واجتماعية حادّة، خصوصًا منذ التغيير السياسي، وانتصار اليمين الليبرالي بقيادة الرئيس “ماوريسيو ماكري”، فارتفعت نسبة الفَقْر بسرعة، وانخفضت القيمة الحقيقية للرواتب بنسبة 20%، وارتفع معدل البطالة إلى 12%، كما ارتفعت قيمة الديون الخارجية، إثر اقتراض الحكومة 57 مليار دولارا من صندوق النقد الدولي، للتجاوز الديون الخارجية نسبة 90% من إجمالي الناتج المحلي المتوقع بنهاية سنة 2019، وقدّرت مجلة ( ريسومن لاتينو أمريكانو ) قيمة الأموال التي تم تهريبها إلى الخارج، خلال أربع سنوات من حُكم “ماوريسيو ماكري”، بنحو 72 مليار دولارا، واستفاد الأثرياء والرأسماليون من عدة قرارات وقوانين تسمح لهم بالتهرب القانوني من الضرائب، وقدّرت الجامعة الكاثوليكية الأرجنتينية ارتفاع نسبة الفقر إلى حوالي 40% بنهاية سنة 2019، فيما قَدّر معهد الإحصاء الوطني (مؤسسة رسمية) عدد الفقراء بنحو 16 مليون شخص، أو ما يعادل 35,4% من إجمالي عدد السكان، ونحو 50% من أطفال البلاد يعانون من الفقر، بنهاية الربع الأول من سنة 2019، رغم اعتبار الأرجنتين واحدة من البلدان الزراعية الكبرى، وواحدة من كبار منتجي الحبوب في العالم، ومع ذلك فإن الملايين من سكانها يعانون من الجوع…

حطّمت حكومة ماوريسيو ماكري الأرقام القياسية في سرعة ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدّخل الحقيقي، إذ ارتفعت أسعار الخدمات العامة الأساسية (الكهرباء والغاز والمياه وغيرها) وأنواع الوقود، بنسب متراكمة قاربت 1000%، فيما ارتفعت أسعار السلع الإستهلاكية بنسبة 300% بين سنتَيْ 2015 و 2019، ما لعب دور مُفجّر لغضب الأُجراء، ومتوسطي الدّخل، وكذلك أصحاب المتاجر والشركات الصغيرة، وفي أيلول/سبتمبر 2019 لوحده، قبل انطلاق الإحتجاجات، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 6,2% وثمن النقل بنسبة 5,8% وبلغت نسبة التضخم العام 6%، وبلغت نسبة التضخم السنوي 55,5% من تشرين الأول 2018 إلى نهاية أيلول 2019…

الآفاق:

تميزت هذه الإحتجاجات بالحجم الكبير للحشود، وبعفوية الشعارات وصدق تعبيرها عن الواقع اليومي للكادحين وللفُقراء، فشكّلت الإحتجاجات تمردًا ضد وضع لم يعد يُطاق، وتميزت أمريكا الجنوبية، مقارنة بالوطن العربي أو بالبلدان الإفريقية والآسيوية، بكثافة العمل الجماعي في الأحياء والتجمعات السكنية وفي الأرياف، من أجل تحسين ظروف الحياة، وحاولت الدكتاتوريات العسكرية كَسْرَ هذه الأشكال من التّضامن والتّعاون بين النّاس، لكن الوضع في أمريكا الجنوبية (أو غيرها) جُزْءٌ من وضع عالمي، ومن خطّة رأسمالية امبريالية، تم إرساء خطوطها العريضة في اجتماع ما سُمِّيَ “وفاق واشنطن” (حزيران/يونيو 1989) وملتقيات “دافوس” واللقاءات المُغْلَقَة لمجموعة “بيلدربيرغ”، وغيرها، أي إنها خطط مدروسة، لنهب ثروات العالم، ولاستغلال الكادحين والمُنْتِجِين في العالم، بقيادة الولايات المتحدة، حاليا، والشركات العابرة للقارات، ووجب التصدِّي لهذه الخطط والبرامج في كافة أرجاء العالم، لكن الإحتجاجات الحالية تفتقر إلى التنظيم ووضوح الأهداف، وإلى نظرة استراتيجية، بعيدة المدى، للإطاحة بالنّظُم الحالية، واستبدالها بنُظُمٍ تَضْمَن حقوق العاملين والفُقراء والمواطنين، أي إعادة توزيع الثروة المُنْتَجَة في كل بلد، وفي العالم، وأظْهرت التجارب أن الأنظمة الحاكمة تتراجع أمام المد الجماهيري، لتعود بعد فترات قصيرة أو طويلة إلى تطبيق نفس البرامج والخطط التي ثار ضدّها المواطنون، مع تغيير في الشّكل، أو في تركيبة التحالفات الطّبقية الحاكمة، وأظهرت التجارب هدوء الغضب (ولو مؤقتا) عندما يتراجع نظام تونس (بورقيبة 1984) أو السادات (1977) أو الحسن الثاني (1982) أو غيرها من الأنظمة، عن الزيادات المُشِطّة في أسعار المواد الغذائية أو الخدمات الأساسية، وتقتنص الحكومات الفُرْصَة لزيادة الأسعار، ولتدارك ما فات، وذلك بسبب غياب بديل واعي وشامل، يعمل على إسقاط النظام أو منظومة الحكم ككل، ولا يستهدف فقط تغييرًا شكليا، أو جُزْئيًّا ومؤقّتًا…

إن تجربة الشعوب العربية، منذ عُقُود، وخصوصًا منذ 2010 في تونس و 2011 في مصر، تُظهر خطورة غياب بديل في خدمة الكادحين والفُقراء، وخطورة غياب تنظيمات تمثل فئات المُنْتَفِضِين من الفُقراء والعاطلين عن العمل، وسكان المناطق النائية، والبعيدة عن السواحل، سواحل البحر الأبيض المتوسط، أو البحر الأحمر أو ضفاف النيل، أو سواحل المحيط الأطلسي في المغرب، فكل هزيمة تُشكل انتكاسة وانكسارات، تدوم سنوات أو عُقودًا، بسبب الخسائر المرتفعة في الأرواح، وبسبب التضحيات “المَجانية”، وبسبب امتطاء القوى الرجعية والمنظّمة واستغلالها تضحيات الآخرين لتحتل سدة الحكم، وتمارس نفس السياسات القديمة التي أثارت غضب المُتَضَرِّرِين منها…

إن طرح هذه القضايا والبحث عن حلول لمسائل الفقر والإستغلال والإستثمار المُنْتِج وتقاسم الثروات، أهم بكثير من تبديد الجهود في انتخابات حدّدَ صندوق النقد الدّولي والإتحاد الأوروبي، وغيرهما، حُدُودَها وآفاقها الضّيّقَة…

البيانات مقتطفة من موقع “رِبلْيُون” (النص الأصلي باللغة الإسبانية) + محطة “تيليسور” + أ.ف.ب + رويترز + من 16 إلى 23/10/2019

قد يعجبك ايضا