الصين ، خلال سبعة عقود (1949 – 2019)، أو رأسمالية القرن الواحد والعشرين / الطاهر المعز




نتيجة بحث الصور عن الصين الشيوعية

الطاهر المعز  ( تونس ) الأربعاء ) 16/10/2019 م …

مقدمة:                    

أطلقت قيادات الحزب الشيوعي، قبل سنة 1949، وعدًا “باستعادة الكرامة” و “بتوفير طبق من الأرز”، لكل مواطن صيني…

بعد سبعين سنة، أصبحت الصين تنافس الإمبريالية الأعْظَم، وأصبحت الصين تنافس أهم القوى الإقتصادية في تاريخ الرأسمالية، وتُهدد نفوذ الولايات المتحدة، إحدى أكبر القُوى العسكرية والسياسية على مر التاريخ، وتَذّكّر العالم مقولَةً نُسِبَتْ إلى “نابليون بونابارت” (1769 – 1821 ) وملخصها “إن الصين عملاق نائم، وسوف يرتجُّ العالم، لمّا يستيقظ هذا العملاق من سُباتِهِ”، وتحولت الصين من بلد زراعي فقير، متخلف، تتناهش أطرافه اليابان التي تحتل القسم الأعظم منه، وتتقاسم القوى الإستعمارية الأوروبية المناطق الساحلية منه، إلى ثاني أقوى اقتصاد عالمي، وبالتوازي مع هذا التحول، انتقل الحزب الحاكم في الصين من رائد ومدافع عن النقاوة الثورية وعن “مبادئ الشيوعية الإصيلة”، إلى مُنْتِجٍ وناشرٍ للإنتهازية عبر مقولة “دنغ هسياو بينغ” (ما هم أن يكون لون القط أبيض أم أسود، ما دام قادرًا على اصطياد الفئران)، و”دنغ هسياو بينغ” هو الأب الروحي ومُعلّم القادة الصينيين الحاليين، وأصبحت الحزب الحاكم في الصين (الذي لا يزال يُسمّى “شيوعيًّا”) مدرسة رائدة لرأسمالية القرن الواحد والعشرين…

الصين قوة اقتصادية استثنائية:

كانت الصناعة قطاعًا ضعيفًا، قبل سبعة عقود، مقارنة بأوروبا، مهد الثورة الصناعية، وبعد سبعة عُقُود، انتقلت الصين من التقليد إلى الإبتكار، عبر نهب موارد العديد من بلدان إفريقيا وآسيا، وأيضًا بفضل تطوير قطاعات التعليم والبحث العلمي، والإنفاق على الإبتكار وتخريج ملايين المُهندسين والتّقنِيِّين، من مستوى رفيع، وأصبح القطاع الصناعي الصيني (سنة 2014)، يتجاوز نظيرة الأوروبي، أو الأمريكي، من حيث الحجم، وأصبحت الصين أكبر مُصدِّر للسلع في العالم، ويتجاوز الناتج المحلي الإجمالي الصيني ناتج 154 دولة، مجتمعة، وأصبح التكنولوجيا الصينية تنافس، بل تتجاوز الصناعات الأمريكية والأوروبية واليابانية والكورية الجنوبية، في مجالات الإتصالات، والحواسيب والهواتف المحمولة، والتقنيات الدّقيقة، بالتوازي مع تطوير الأسلحة المتطورة، والصواريخ والطائرات، والأسطول الحربي البحري، بالإعتماد على القدرات المحلية…

لم يحصل التطور الصناعي والتكنولوجي الصيني، كما في أوروبا، عبر رأس المال الخاص والشركات الخاصة (التي شجعتها ورعتها الدول الإمبريالية)، بل أشرفت الدولة على الإقتصاد المُخطّط، وبقيت الدّولة تُسيطر على القطاعات الإقتصادية الإستراتيجية والمصارف، والبحث العلمي والتكنولوجي، وتُحدّد الأهداف العامة، وهو ما أطلقت عليه الدعاية الصينية “اقتصاد السّوق الإجتماعي”، على مستوى داخلي، وتتكفل الدولة بالتوجيه وبالإشراف على التصدير والتجارة الخارجية، في إطار أهداف قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، ضمن استراتيجية حكومية مدروسة ضمن لجان الحزب الحاكم ومختلف أجهزة الدّولة، وبذلك تمكنت الصين من تجنب نتائج الأزمة المالية العالمية (2008 – 2009)، وعمدت الدذولة بسرعة إلى زيادة الرواتب وإقرار برنامج ضخم، بحجم 12,5% من إجمالي الناتج المحلي الصيني، يتضمّنُ حوافز لدفع النمو من خلال زيادة الإستهلاك الداخلي، لتعويض الخسائر الناتجة عن انخفاض حجم وقيمة الصادرات، إلى دول متأزمة (أوروبا وأمريكا الشمالية)، وهو مبدأ “كينزي”، طبقته الدول الرأسمالية، خلال وبعد أزمة 1929، وبذلك أفلتَ الإقتصاد الصيني من الركود، رغم اندماجه في الإقتصاد الرّأسمالي المُعَوْلَم، بفضل هيمنة الدّولة على القطاعات الإقتصادية الرئيسية، وتغيير الإتجاه، بداية من 2012، عبر خفض حصة المناجم، والصناعات الثقيلة المُلوّثة، وزيادة حصة قطاع الخدمات والتكنولوجيا ذات القيمة الزائدة المُرتفعة (كالحواسيب والهواتف المحمولة…)، من الناتج المحلي الإجمالي…

اقتصاد رأسمالي مُوجّه:

من خصائص الإقتصاد المُوَجّه خُضُوعُه لمخططات وأهداف وطنية دورية (كل خمسة أو ثلاثة أو عشر سنوات…)، انخفضت معدلات وفيات الأطفال، وارتفع معدل الأمل في الحياة عند الولادة (أو “مُتوسّط الأَعْمار”) من 35 عاما، سنة 1949، إلى 68 عاما، بعد ثلاثة عقود (1978) وإلى 76 عامًا، بعد سبعة عقود (سنة 2018)، وتخطط الدولة للقضاء على الفقر (وهو مفهوم كمّي ونسبي لأنه لا يراعي الفوارق الطبقية) سنة 2020، بعد خروج نحو 770 مليون نسمة من حالة الفقر (بحسب تعريف البنك العالمي) بين سنتَيْ 1978 و 2018، ووصف الرئيس الأسبق للبنك العالمي (روبرت زوليك) أداء الصين بالإستثنائي، وبالقفزة العظيمة، للقضاء على الفقر، عبر زيادة الأجر الأدنى، وارتفاع الرواتب بمعدل ثلاثة أضعاف خلال عشر سنوات، وهو كما أسلفنا إجْراء يستهدف خفض الإعتماد على التصدير، بزيادة الإستهلاك الداخلي، للمحافظة على نَسَق النّمو، ولا ينفي تعميق الفجوة الطبقية بين عدد متزايد من الأثرياء المُقربين من الحزب الحاكم، ومن أجهزة الدولة، والفلاحين النازحين نحو المدن، بعد استيلاء القيادات المحلية للحزب الحاكم على أراضيهم التي يستغلونها منذ أجيال (الأرض في الصين ملكٌ للدّولة)، وتعمّقت الفجوة بين سكان الأرياف وسكان المُدُن، وبين المناطق الساحلية التي تتركز بها الصناعات، شرق البلاد، والمناطق البعيدة عن السواحل والموانئ، وبين المُقيمين المُعترَف بهم في المدن، ومئات الملايين من النّازحين، غير المُعْتَرَف بإقامتهم، ويُشكلون احتياطي هائل من العمالة الرّخيصة، والمحرومة من الحقوق الإجتماعية، يماثل حالها وَضْعَ العُمال المهاجرين في الدول الرأسمالية الأخرى (أوروبا وأمريكا الشمالية)، ويحاول مُخططو الدولة تجنّب انفجار الوضع، فيتركون مُتنفّسًا لتخفيف الضّغط، عبر إقرار بعض الحوافز المادّية، وعبر إرساء نظام موازي، لتمكين هؤلاء المُهمّشين من السكن والرعاية الصحية وتعليم الأبناء، مقبل بعض الرشاوى، كما أقرّت الدولة معاشات لحوالي 240 مليون مواطن من سُكّان الرّيف، لإخماد بعض التّوتّرات الإجتماعية التي أطْلَقَها فُقراء الأرياف، وبذلك تمكنت الدّولة المركزية في الصين من انتهاج وتطبيق أُسُس النظام الرّأسمالي، مع تَجَنُّب الآثار السلبية على الصعيد الإجتماعي، والإبقاء على حكم الحزب الواحد، ووَصْفِهِ ب”الشيوعي”، وهي خدعة، وسابقة تاريخية، تُشوّه جوهر الفكر الإشتراكي، وأهداف النظام الشيوعي، غير الطّبَقِي، وبمثابة البديل للنظام الرأسمالي الطّبَقِي…

يُمثل الحزب الحاكم، والموصوف ب”الشيوعي”، العمود الفقري للنظام الرأسمالي الصيني، وهو أكبر تنظيم سياسي عالمي، ويضم نحو تسعين مليون عضو، ويلعب الحزب دور مدرسة عُلْيا تنتقي وتُؤَهِّلُ مسؤولين لإدارة المؤسسات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، ولذلك يصعب وصف الحزب (والنظام المنبثق عنه) بالدكتاتوري، وإنما هو نظام انتقائي، يطمح إلى الكمال، وبذلك تَمَكَّنَ من إرساء أُسُسِ نظام قوي، يخضع لقواعد مضبوطة، وعمل الحزب على تحسين أدائه لتكوين أجيال من القادة المُنضَبِطِين، بمنهجية وفاعلية نادرة، فانصَبَّ اهتمام الدّولة الصّينية، خلال ما لا يقل عن ثلاثة عُقُود، على إرساء أُسُس قوة اقتصادية، تنافس الولايات المتحدة، بدل الدخول في سباق تسلّح مُرهق…

موقع الصين في رقعة الإقتصاد العالمي:

انتقلت الصين من الإنكفاء والإكتفاء الذاتي، إلى التصدير وغزو العالم (بدءًا من البلدان الفقيرة) عبر إنتاج السّلع والتجارة، بدل الغزو العسكري، أي في خط مُعاكس لسياسات الولايات المتحدة، ظاهريًّا على الأقل، لأن جيش الصين لم يخُضْ حربًا خارجية، منذ حوالي ثلاثة عقود (منذ المناوشات العسكرية مع فيتنام، سنة 1979)…

يُمثل سكان الصين نحو 18% من سُكّان العالم، ولكن الأراضي الصالحة للزراعة في الصين لا تمثل سوى 7% من الأراضي الزراعية الخصبة في العالم، ولا تُنْتِج الصين سوى حوالي 5% من النفط، وتحاول الصين تعويض هذه النواقص بإنتاج سلع تفوق احتياجاتها بكثير، لتُصدّرَها إلى بقية بلدان العالم، بأسعار منخفضة، نظرًا للإستغلال الفاحش الذي يتعرض له العُمال الصينيون، وخاصة أولئك النازحون من الأرياف، المحرومون من كافة الحقوق، أما مساوئ الإعتماد على التصدير، فهي التبعية للخارج وللظروف الإقتصادية العالمية، وهو ما عملت حكومة الصين على تلافيه، خلال أزمة 2008، لتنتقل من الإعتماد على التصدير إلى النّمو عبر تحفيز الإستهلاك الداخلي، وهو ما ذكرناه في فقرة سابقة، بالإضافة إلى مبادرة “الحزام والطريق”، التي تهدف فك الطوق الأمريكي (العسكري والإقتصادي) الذي بدأ خلال فترة رئاسة بارك أوباما، سنة 2012، وعقدت حكومة الصين، بين 2013 و 2018 اتفاقيات مع 72 دولة، في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وتمثل هذه الدول حوالي 65% من سكان العالم، لتُؤَمّن الصين أسواقًا لسِلعها وتؤمن مصادر المواد الأولية والسّلع التي تحتاجها، والإفلات من الكَمّاشة الأمريكية التي بدأها الرئيس “باراك أوباما”، ووزيرته للخارجية “هيلاري كلينتون”، وحاول إطباقها الرئيس “دونالد ترامب”، عبر إعلان الحرب التجارية…

تمكنت الصين، بفضل مركزية السلطة، وبفضل التخطيط وسُرعة التنفيذ، من تحويل العقوبات الأمريكية إلى حافز للتطور، وإلى تحويل مركز الإقتصاد الرأسمالي العالمي، من أوروبا وأمريكا، إلى آسيا، وربما إلى منطقة “أوراسيا”، أي الرقعة الجغرافية الواقعة بين أقصى شرق أوروبا وأقصى غرب آسيا، مرورًا بآسيا الوسطى وروسيا وأوروبا الشرقية، وأصبحت الصين قادرة على منافسة الولايات المتحدة، بفضل السلع الرخيصة، ولكن بفضل التكنولوجيا أيضًا، والحواسيب والهواتف المحمولة الموصوفة ب”الذّكية”، وأيضًا بالقُروض التي كبّلت دولاً مثل سريلانكا وباكستان وماليزيا، وجعلتها غير قادرة على سداد الدّيون، واضطرت حكوماتها لتوقيع عقود غير متكافئة مع الصين، باستثناء ماليزيا التي رفضت حكومتها الجديدة (بقيادة مهاتير محمد) شروط الصين، وأعادت التفاوض لمُراجعة تلك الشّروط…  

من الحرب الباردة، إلى الحرب الفاترة:

أعلن الكونغرس الأمريكي العُدْوان التجاري والعسكري ضد الصين، واعتبرت الأغلبية الساحقة من اعضائه أن الصين مشكلة رئيسية وجب حلها بكافة الوسائل، وشكّل التطويق العسكري للصين تعلّة لزيادة الإنفاق العسكري الأمريكي الذي بلغ أكثر من 650 مليار دولارا (مُعْلَنة) سنويًّا، أو ما يفوق ثُلُث الإنفاق العسكري العالمي، ويفوق نصيب الفرد الأمريكي من الإنفاق الحربي، نصيب الفرد الصيني بإحدى عشر ضعفًا، وأقامت الولايات المتحدة ما لا يقل عن ثلاثين قاعدة عسكرية حول الصين، حيث نقلت أمريكا نحو 60% من قواتها البحرية، وهي أهم الجيوش الأمريكية، لأنها تضم حاملات الطائرات والأسلحة النووية والقاذفات والصواريخ بعيدة المدى…  

خاتمة:

 قال “فرنسيس فوكوياما”،عدو الفكر التقدمي والإشتراكي، وصاحب مقولة الإنتصار النهائي للرأسمالية، و”نهاية التاريخ”، أي نهاية أي نظريات ونُظُم أخرى، غير المنظومة الرأسمالية، بنسختها الأمريكية الإمبريالية والعُدْوانية: “تتمثل القوة الرئيسية للنظام السياسي الصيني في القدرة على اتخاذ قرارات هامة ومعقدة، بسرعة وبفعالية وجودة نادرة، خصوصًا في الجانب الإقصادي، حيث تتكيف الصين بسرعة وتتخذ قرارات صعبة وتنفذها بفعالية…”

بدأت حكومة الصين (والحزب “الشيوعي” الحاكم) إدماج الصين في المنظومة الرأسمالية، بصورة رسمية ومُعلَنة، منذ سنة 1978، وإن كان ذلك بشكل مركزي ومخطط، أي بإشراف جهاز الدّولة، بدل الرأسمال الخاص، وهو ما أطلقت عليه الحكومة “اقتصاد السوق الإجتماعي”، والواقع أنه اقتصاد سوق، أدّى إلى انتشار الفساد واستخدام السلطة بهدف الإثراء الشخصي، وخلق فئة من برجوازية الدولة والحزب، بعد إقرار قواعد الإستغلال الرأسمالي لقوة العمل (ولو كان ذلك “تحت السّيْطَرة”)، وتعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، رغم انخفاض نسبة الفقر المُدْقَع…

على الصعيد السياسي العالمي، لا تسعى الصين إلى إرساء نظام يختلف عن الرأسمالية، بل يدعو قادتها إلى إرساء “عالم متعدّد الأقطاب”، بدل القُطْب الأمريكي الواحد، أي تقاسم النفوذ في العالم الإقتصادي والسياسي في العالم، مع الولايات المتحدة، وهو دعوة مُخالفة لجوهر الرأسمالية التي تتحول بطبيعتها على امبريالية، تحاول احتكار الأسواق الخارجية، ومصادر المواد الأولية والمسالك التجارية وغيرها…

البيانات من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وموقع صحيفة “الشعب” الرسمية الصينية + موقع صحيفة “فايننشال تايمز” + ملفات نشرها موقع “غلوبال ريزرش” (كندا) وموقع “إنفستيغ أكْسِيُون” (بلجيكا) تشرين الأول/اكتوبر 2019  

 

 

 


قد يعجبك ايضا