الجزائر، هوامش الحركة الإجتماعية لسنة 2019 م / الطاهر المعزّ




الطاهر المعز ( تونس ) الأحد 13/10/2019 م …

لا يزال العديد من الأصدقاء العرب، وغير العرب، يعتبرون الجزائر (بلد المليون شهيد) موطنًا للتقدّمية وللنضال ضد الإستعمار، ودولة نصيرة لحركات التحرر في العالم… لكن الجزائر لم تعد كذلك، منذ ما لا يقل عن أربعة عُقُود، وعلى الصعيد الدّاخلي، تعمقت الفجوة الطبقية، وارتفعت حدة البطالة، ما أجبر الشباب على الهجرة غير النظامية، نحو أوروبا، والمخاطرة بحياتهم، في قوارب الموت، التي تعبر البحر الأبيض المتوسط…

تَنْدَرِجُ الفقرات الموالية ضمن قراءة “موضوعية” للوضع الجزائري، بهدف التوصّل إلى فهم ما يحدث، بعيدًا عن العاطفة، وعن الأُمنيات، مع التّذكير بأن الشعب الجزائري، كما بقية الشعوب، قادر على استنباط الحلول الإيجابية، إذا توفّر الإنسجام بين قاعدة عريضة من المواطنين، وقيادة تُخطط وتراعي موارد البلاد وإمكانياتها، لبناء نظام ديمقراطي (تشاوري) وعادل اقتصاديّا، يوفر للمواطنين حاداتهم الأساسية من السلع والخدمات الضرورية…

*****

لمحة عن الإحتجاجات طيلة ثمانية أشهر:

انطلقت الحركة الإحتجاجية الحالية، يوم 22 شباط/فبراير 2019، وكانت بمثابة رد فعل على إعادة ترشيح “عبد العزيز بوتفليقة”، الحاكم منذ عِقْدَيْن من الزمن (1999 – 2019) لفترة رئاسية خامسة، رغم غيابه عن الساحة بسبب الشلل الذي أصابه، منذ أكثر من ست سنوات، وحاولت أجهزة الدولة (الشرطة والإستخبارات الداخلية والجيش) الإلتفاف على الإحتجاجات، ولكن قيادة الجيش مسكت بزمام الأمور، بعد أن فهمت أن هذه الإحتجاجات ليست كسابقاتها، من احتجاجات شبه يومية، محصورة في مناطق معينة، وتقتصر مطالبها على العمل والسكن وغيرها من المطالب المادية البحتة، ولم تهدأ الإحتجاجات رغم إقالة بوتفليقة، واعتقال عدد من الرّموز التي لها صلة بفترة حُكْمِهِ، لكن المطالب غير واضحة، ولم تُفْرِز قيادة شعبية، من خارج الأحزاب التقليدية (الليبرالية أو أحزاب الإسلام السياسي) ومن خارج المنظمات غير الحكومية والمجموعات المدعومة من القوى الإمبريالية، وخصوصًا الفرنسية والأمريكية…

كانت الدولة تستغل إيرادات النفط لشراء الذمم (كما في أي اقتصاد ريعي، وكما في معظم الدول النفطية)، ولترسيخ دعائم السلطة، وهو ما فعله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وحكومته والدّارة التي كانت تتقاسم الحكم، وتستفيد منه، وكان ضُباط الجيش يستفيدون من رُخص التوريد، ومن صفقات الدولة، التي تمر عبرهم، ليجنوا منها عمولات هامة…

لم تتفق الفئات النافذة، في أروقة الحكم، على مرشح، أو على برنامج عملي، قصير المدى، بعد إقالة بوتفليقة، لإخماد الإحتجاجات التي تستمر للشهر الثامن على التوالي، بل زادت حدة الخلافات، في ظل أزمة ناتجة عن انخفاض أسعار النفط، وانخفاض حجم المال المُتاح ليتقاسمه المُنتَفِعُون من موقعهم في السّلطة، وأدّت الخلافات، في هرم السلطة إلى تصفية الحسابات وإقصاء بعض الرموز التي كانت على رأس أجهزة حكمت أو ساهمت في الحكم، طيلة ربع قرن، واعتقل الشق المُنْتَصِر حاليا (شق قائد أركان الجيش) رُمُوزًا، من ذوي النفوذ الهائل، الذين كانوا يتحكمون بدواليب الإقتصاد والسياسة، أو من يُسمِّهِم المتظاهرون وقيادة الجيش “العصابة”، وتتضمن رجال أعمال وأفراد من أُسْرة بوتفليقة وقيادات أجهزة نافذة في الدولة، بعد إقالته في آذار/مارس 2019، ولكن المتظاهرين لا يزالون متمسكين بشعار “فليرحلوا جميعًا”، ولكن مثل هذه الشعارات لم تأت بنتيجة إيجابية في تونس ومصر، إذ لم تَبْرُز قيادة تُقدّم بدائل سياسية واقتصادية لما كان سائدًا، وأصبحت قيادة الجيش هي القوة الوحيدة التي تُقدّم مُقترحات، يرفضها المتظاهرون، لكنهم لا يُقدّمون بديلاً عنها، بسبب غياب قيادة وأهداف وبرامج للحراك الجماهيري، يُمكنه تمثيل مصالح أغلبية شعبية، كنقيض لمصالح أقلّيّة ثرية أو مُنْتَفِعَة من السلطة، ومن علاقاتها بالخارج (أي بالقوى الإمبريالية)…

طبيعة السلطة في الجزائر:

استغلت قيادات جبهة التحرير الوطني وقيادات الجيش والفئات الحاكمة، تاريخ مقاومة الإستعمار، لتَبُثّ الوهم حول طبيعة النظام، حاليا، وتَصْبغه بطابع “وطني” أو مناهض للإمبرياللية، والواقع أنه نظام تحكمه فئة برجوازية، ترتبط مصالحها بالإمبريالية الأوروبية والأمريكية، بشكل خاص، ويملك معظم مسؤولي الدولة والجيش، حسابات مصرفية بالعملة الأجنبية في الخارج، وفق العديد من المواقع المحلية والأجنبية، وأظهرت حملات تصفية الحسابات بين مختلف الأجنحة، ضلوع معظم مسؤولي الدولة والجيش، في قضايا فساد، وتهريب الأموال، والحصول على عمولات سرية أو شبه سرية، من بيع موارد البلاد، والضرب عرض الحائط بمصلحة أغلبية الشعب…

 كان عهبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية بين سنَتَيْ 1965 و 1978، ثم بقي شبه منفي في الإمارات، ويتنقل بين أوروبا (وسويسرا خصوصًا) والخليج، حيث كانت تربطه مصالح وأعمال مع بعض أفراد الأُسَر الحاكمة هناك، إلى أن انطلقت صراعات بين مختلف أجنحة النظام الجزائري، بعد الإطاحة بالرئيس زروال، فجيء ببوتفليقة كرئيس، سنة 1999، في ظروف مشبوهة، لرأب الصدع بين أجنحة منظومة الحُكم، واستغل فرصة الخلافات، لمحاولة الإفلات من وصاية الجيش، لكن بالإعتماد على قوى أجنبية، قادرة على دَعْمِهِ وحمايته، واستغل رحلتَيْن له للولايات المتحدة، في الربع الأخير من سنة 2001، ليخطب ود الرئيس الأمريكي “جورج بوش الإبن” (مباشرة بعد 11 أيلول 2001)، ليعقد صفقة مع جورج بوش الابن، ومع نائبه “ديك تشيني” المدير العام السابق لشركة النفط “هاليبرتون”، لتمكين الشركات الأجنبية، وخصوصًا الشركات الأمريكية، من استغلال النفط والغاز الجزائريّيْن، وتمكين الإستخبارات الأمريكية من الحجم الهائل للمعلومات الذي تمتلكه الجزائر عن تنظيم “القاعدة”، مقابل دعم وحماية واشنطن للنظام الجزائري (بدل تهديده)، وكان بوتفليقة قد عيّن صديقه (منذ الطفولة) شكيب خليل، وزيرًا للطاقة، وكلفه بتغيير قانون المحروقات، ليتماشى مع الشروط الأمريكية، بذريعة “تأهيل قطاع الطاقة”، ولتطويع القانون الجزائري، ليتماشى مع شروط اقتصاد السوق الحر، وقواعد المنافسة، وطلبت الحكومة الجزائرية، عبر “شكيب خليل” مشورة ومساعدة البنك العالمي، وبعض مكاتب الدراسات الأمريكية، لإعادة صياغة قانون الطاقة الجزائري، فأصبح نسخة طبق الأصل، من القانون الأمريكي، ويستنسخ حرفياً أحكام الشروط الأمريكية في قطاع المحروقات، وهي من صياغة “ديك تشيني”، المدير العام السابق لشركة “هاليبرتون” الذي أصبح نائباً للرئيس، وتتمثل الأهداف الأمريكية في تحويل حقوق ملكية حقول النفط والغاز التابعة للشركات الوطنية في البلدان المنتجة (كما حصل في العراق) إلى شركات النفط متعددة الجنسيات وأغلبها أمريكية، وتَكَيَّفَ القانون الجزائري مع هدف الشركات الأمريكية، وتضمنت أحكامه، إلزام الشركات الأجنبية الفائزة برخص التنقيب بأن تقترح على الشركة الوطنية سونتراك المساهمة بنسبة 20% إلى 30%، على أن ترُدّ سونتراك، بالرفض أو الإيجاب، خلال مدة  لا يتجاوز 30 يوماً، وهي مدة قصيرة، لا تكفي الشركة الوطنية لدراسة البيانات التقنية، غير الدقيقة، خلال المرحلة الأولى، وغير كافية لجمع الأموال الضرورية للمساهمة بنسبة الرّبع أو الثّلُث في في أعمال التنقيب، وبذلك تصبح الشركات الأجنبية، تدريجيا، مُسَيْطِرة على حقول النفط والغاز الجزائرِيَّيْن…

تسربت أخبار مشروع القانون الجديد، فعارضته بعض قيادات الجيش، وخاصة “دائرة الاستعلام والأمن”، كمما عارضه، بشدّة، الإتحاد العام للعمال الجزائريين، وهي الإتحاد النقابي التاريخي، الموالي عادةً للسلطة، فاضطر الرئيس “عبد العزيز بوتفليقة” لتجميد القانون (وليس إلغائه)، سنة 2003، والإبقاء على ضرورة ملكية سونتراك لنسبة 51% من منابع النفط، وطلب من صديقه ووزيره شكيب خليل صياغة قانون آخر…

استخدم النظام الجزائري، كما أنظمة الدول النفطية الأخرى، عائدات النفط، لترسيخ دعائم السلطة، ولشراء السلم الاجتماعي عبر دعم أسعار المحروقات والسلع الأساسية والخدمات، وعبر العمولات التي يتقاسمها ضباط الجيش، الذين أصبحوا يفضلون بقاء بوتفليقة رئيسًا، وحاولت “دائرة الإستعلام والأمن” كبح هذه الممارسات في كانون الثاني/يناير 2010، في إطار صراع داخلي، فتمت إحالة المدير العام لمؤسسة “سونتراك” وبعض نوابه ومدراء آخرين إلى القضاء، ثم إلى السجن بسبب تورطهم في فضيحة فساد كبيرة، كما تمت إقالة وزراء الطاقة والداخلية والاستثمار، في إطار نفس القضية...

مظاهر الأزمة:

كانت الجزائر تجتذب المستثمرين، طالما بقيت أسعار النفط (وعائدات الدولة) مرتفعة، لكن تسربت أخبار سنة 2012 (قبل انهيار أسعار النفط منتصف سنة 2014) بشأن تقادم الحقول وانخفاض إنتاج النفط، من 85 مليون طن، سنة 2006 إلى 76 مليون طن، سنة 2012، وانخفاض إنتاج الغاز من 89 مليار متر مكعب سنة 2005 إلى 83 مليار متر مكعب سنة 2011، كما انخفض حجم  الصّادرات من 65 مليار متر مكعب سنة 2005 إلى 49 مليار متر مكعب في 2012، ولم يكن انخفاض حجم الإنتاج ذا أهمية كبيرة، مادامت الأسعار مرتفعة، وما دامت تُساهم في المحافظة على التوازنات المالية للدولة، لكن الجزائر أصبحت تُعاني، مثل بقية مُصَدِّري الغاز الطبيعي، من منافسة الغاز الصّخري الأمريكي، الذي تطور إنتاجه وتصديره، خلال عقد واحد، فيما ارتفع الاستهلاك الداخلي للغاز الطبيعي في الجزائر، ليُخفّض حصة التصدير، بالتزامن مع انخفاض الإنتاج، وقبل أن تنخفض أسعار النفط (والغاز) بنسبة 60% تقريبًا، بداية من منتصف شهر حزيران 2014…

تأثرت الجزائر أيضًا بموقعها الجغرافي، بجوار ليبيا التي استهدفها العدوان الأمريكي الأطلسي، فأصبحت ثكنات الجيش الليبي مركزًا لتسوق المجموعات الإرهابية، وقاعدة لنشر السلاح على جانِبَيْ الصحراء الكبرى، على حدود الجزائر، وزيادة المخاطر التي جسّدها الهجوم الإرهابي على حقل “تيقنتورين” للغاز بمنطقة عين أمناس، جنوب الجزائر، قريبًا من الحدود الليبية (كانون الثاني/يناير سنة 2013)، وقَتْلِ عدد من المهندسين والفنِّيِّين الأجانب، ما خفض من جاذبية حقول النفط والغاز في الجزائر، رغم الحوافز التي أقرّتها وزارة الطاقة، وخفض الضرائب على أرباح شركات النفط، كما أقرّت الحكومة التنقيب عن الغاز الصّخري، رغم معارضة المواطنين في المناطق المُستهدفة…

انخفضت إيرادات الدولة، ولم تعد قادرة على شراء السلم الإجتماعي، بداية من 2014، حيث انخفض احتياطي العملة الأجنبية، من ثرابة 200 مليار دولارا، بنهاية سنة 2014، إلى أقل من سبعين مليار دولارا، متوقعة، بنهاية سنة 2019، بينما واصلت الفئة المستفيدة من الرّيع النفطي نهب المال العام، بنفس المستوى السابق، وبقيت الدولة تستورد معظم السّلع، دون وضع خطة لتنمية الإنتاج، وتسببت هذه السياسة بأضرار كبيرة، أصابت الفئات العاملة والفقيرة، وتسببت بانفجار سنة 2019، وهو ليس الإنفجار الأول، فقد سبقه انفجار 1988، الذي انطلق على إثر انخفاض إيردات الدولة، وخفض الإنفاق الحكومي، جراء انخفاض أسعار النفط…

ظهرت بوادر الغضب الشعبي، بشكل مُحتشم، أثناء انتخابات نيسان/ابريل 2014، وإعادة ترشيح “عبد العزيز بوتفليقة” المُقْعَد والمريض، وغير القادر على قيادة البلاد، وكانت نسبة المشاركة في عملية التّصويت ضعيفة جدّا، ضمن مناخ تميز بتدهور الخدمات الصحية والتعليم وارتفاع نسبة البطالة…

خاتمة:

تُحاول السلطات العسكرية تهدئة الأوضاع، حاليا، من خلال اعتقال أكثر من مائتين من المسؤولين السابقين، ليصبحوا كبش فداء، من خلال اتهامهم بالسرقة والفساد، ونتائج عُقُود من تدهور الأوضاع، وتبذير المال العام، وغير ذلك من التهم، وقد يكون المعتقلون متورّطين بالفعل في ارتكاب الجرائم المنسوبة إليهم، لكن المسألة أعمق من ذلك بكثير، حيث تتطلب البلاد مشاركة واسعة لقطاعات كبيرة من المواطنين، لوضع أُسُس نظام اقتصادي يعتمد على الإنتاج، وليس على الرّيع، ويعتمد على عدالة توزيع الثروة، بدل احتكارها من قِبَلِ فئة طُفيْلِيّة فاسدة، ومحمية من الشركات الأجنبية، ومن القوى الخارجية، ومن بينها فرنسا والولايات المتحدة، وكما أوردنا في المقدمة، فإن الإحتجاجات لم تُفْرِز قيادات قادرة على ترجمة الغضب إلى مقترحات وبرنامج تقدّمي يخدم مصالح الأغلبية من الكادحين والفُقراء والعاطلين عن العمل، ولذلك من الصعب التكهن بتغيير الوضع نحو الأحسن…  

 

 

 

قد يعجبك ايضا