عن اليسار العالمي والعربي (1 من 2) / عبد الغني سلامة

عن اليسار العالمي والعربي (1 من 2)



عبد الغني سلامة ( الثلاثاء ) 24/9/2019 م …
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تصاعد الحرب الباردة بين القوتين العظميين (أميركا والاتحاد السوفياتي)، كان السوفيات نجحوا في تأسيس وقيادة جبهة عالمية يسارية، فرضت نفسها على ثلاثة أرباع الكوكب، حتى بدا وكأنَّ مستقبل العالم سيكون شيوعياً، أو على الأقل يسارياً.. وكان العالم الثالث حينها مأخوذاً بسحر خطابات ستالين، ووعود اليوتوبيا الشيوعية.. بيد أن هذا الحلم تحطم بعد سبعة عقود من الثورة البلشفية، وعلى أنقاضه تأسس نظام دولي جديد قائم على تفرد أميركا بالهيمنة على العالم.
خلال الحرب الباردة، فردت الولايات المتحدة كامل قواتها ومقدراتها لمواجهة التمدد الأحمر، واستخدمت كل ترسانتها العسكرية والاقتصادية والإعلامية والفكرية لإنهاك السوفيات، وفي نهاية المطاف ظفرت بتلك الحرب.. وكانت أفغانستان القشة التي قصمت ظهر البعير.. كان من بين أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي توسعه الجغرافي الكبير الذي زاد من الضغط على الاقتصاد. وطالما أن الحديث عن العوامل الذاتية التي سرعت من الانهيار، يمكن إضافة “البيروقراطية”، التي حولت الشيوعية إلى “دين”، وتابوهات مقدسة، تحظر أي عملية نقد ذاتي، وبالتالي تمنع أي إمكانية للإصلاح والتطوير أو مكافحة الفساد.
ولم تكن خطيئة السوفيات الوحيدة تورطهم في سباق التسلح، واستنزاف مقدرات البلاد، والتركيز على الجانب السياسي والأيديولوجي على حساب التنمية المحلية، بما في ذلك دعمهم لبعض الدول البعيدة جغرافياً التي تتبنى الفكر الاشتراكي.. بل هي في الأساس تركيزهم على الصناعات العملاقة، وبالذات العسكرية، الأمر الذي خلق فجوة كبيرة بينهم وبين الغرب في مجالات التكنولوجيا وبقية قطاعات الاقتصاد. مع زيادة صادرات المواد الخام وانخفاض صادرات الصناعة، وإهمال البحث العلمي الذي يهتم في تطوير القدرات الإنتاجية… وأدى ذلك كله إلى إنهاك الاقتصاد.
وفي النتيجة، فقدَ الحزب الحاكم ثقة الجماهير به، ليس للأسباب السابقة وحسب، بل وبسبب القمع السلطوي، وتدني المستوى المعيشي وانعدام سبل الرفاهية، مقارنة بالولايات المتحدة.ترافق ذلك مع ظهور نزاعات عقائدية ونزعات انفصال قومية داخل الاتحاد وفي أوروبا الشرقية، التي بدأت تهتم بالانفتاح على دول الغرب.. وقد فشلت كل محاولات الغلاسنوسنت والبيروسترويكا التي قادها غورباتشوف، بل إن هذا الأخير متهم بالتخطيط لانهيار الاتحاد.
وبانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، بدأ نجم اليسار يخبو على مستوى العالم، حتى صار بالكاد يُرى.. ولكن ذلك كله لم يكن سوى مظهر لأزمة اليسار الحقيقية، أو نتيجة أخطاء فادحة في النظرية والممارسات.. وهذا يدعونا لتقديم تعريف مبسط لمفهوم اليسار.مصطلح “اليسار” ظهر أول مرة مع الثورة الفرنسية، وفي ذلك الوقت كان يدل على برنامج اجتماعي يرتكز على قيمتين أساسيتين، هما: الحرية والمساواة (لاحظ شعارات الثورة الفرنسية) وبرز اليسار حينها كمدافع عن المساواة أمام القانون (المواطَنة)، ولكن بشكل أكبر مدافعاً عن العدالة الاجتماعية.
وفيما بعد، اكتسب مفهوم اليسار مضامين جديدة: اجتماعياً: النضال لتحقيق العدالة الاجتماعية، والانحياز للعمال والفلاحين، ونصرة قضايا المرأة، والفئات المهمشة التي تتعرض للظلم الاجتماعي.. سياسياً: النضال ضد الطبقات الرأسمالية المستغلة، وضد الإمبريالية، وضد القوى العنصرية بكافة مسمياتها (النازية والفاشية واليمينية).
صحيح أن اليسار اقترن بالحداثة والتقدم والتنوير، لكنّ تيار التنوير والتقدم والحداثة مثّله أيضاً فلاسفة لا ينتمون لليسار، ومنهم عنصريون (ديكارت، نيتشه، جان جاك روسو.. وهؤلاء رغم أنهم أضافوا للفكر الإنساني عبر نظرية المعرفة، إلا أنهم دعوا إلى تصنيف الأجناس البشرية بحسب المعايير العرقية، وروجوا لفكرة تفوق العرق الأبيض، وأنهم وحدهم القادرون على إنتاج الفلسفة). وفي القرن العشرين، ظهرت تيارات يمينية ترفع راية الحداثة والتنوير، لكنها كانت عنصرية، في مقابل أنظمة يسارية اقترفت مذابح وحملات قمع دكتاتورية لا تقل بشاعة عن الفاشية والنازية.
إذاً، وطالما أن اليسار يحمل كل هذي المعاني الجميلة، والقيم الإنسانية لماذا لم ينجح عالمياً، وبالذات في الدول العربية؟!
في تحليل أسباب خبو صوت اليسار وغيابه عالمياً، سنجد ظهور وتمدد القوى اليمينية، وصعود الإسلام السياسي، ضمن علاقة جدلية تتداخل فيها الأسباب مع النتائج.. في الغرب بدأت القوى اليمينية والشعبوية تظهر بقوة وتتمدد بسرعة، لأسباب لها علاقة باللاجئين والمهاجرين.. وهذا التطرف اليميني الذي نشاهده في الغرب يختفي خلف مزاعم “الإسلام فوبيا”، وهو في الحقيقة تحلُّل الأخلاق من السياسة، فالشعبوية ومعاداة مجموعات من البشر لا تعني مجرد تطرف يميني، بقدر ما هي تغليب البراغماتية السياسية والانتهازية على الأخلاق. ما يعني أن صعود اليمين في جوهره يمثل أزمة أخلاقية، تنعدم فيها الضوابط الإنسانية في الخطاب الإعلامي، من أجل تحقيق مكاسب سياسية وحزبية. في الغرب أيضاً، لم يختفِ اليسار وحسب، أو تحول إلى أحزاب بيئية (الخضر)؛ بل إن الرأسمالية نفسها تراجعت لصالح النيوليبرالية، وصعدت قوى رأسمالية جديدة ذات نفوذ كبير. وهذا يصلح في تشخيص أزمة اليسار عالمياً، لكنه لا يصلح في الحالة العربية، والفلسطينية على وجه الخصوص.
في البلدان العربية، عشية استقلالها، طرأت تغييرات اجتماعية واقتصادية سريعة وحادة، أفرزت فئات وشرائح اجتماعية متضررة، فقدت الميزات الاجتماعية التي امتلكتها سابقاً، ودفعت قسماً كبيراً من سكان الأرياف باتجاه المدينة، مشكّلة بنى طبقية تراوح بأشكال غير مستقرة بين ارتباطاتها السابقة ومواقعها الجديدة، وهذه الكتلة ستشكل الخزان البشري للقوى اليسارية الجديدة.
كان من المتوقع أن يواجه انتشار الفكر اليساري والاشتراكي في الوطن العربي عدداً من الأزمات، منها هلامية الفرز الطبقي، أي عدم وجود طبقة عاملة ولا حتى تصنيع ووسائل إنتاج حقيقية، فما كان موجوداً عبارة عن كتلة كبيرة من الفلاحين والعمّال (بروليتاريا ) مع بقايا إقطاع، ومشيخات، وملاك عقار، وتجار، ورجال دين ودولة، وأيضاً استعمار. ما يعني أن بدايات اليسار العربي لم تكن تشبه النمو الطبيعي في الوسطين الاجتماعي والاقتصادي، مثلما كان الحال عليه في روسيا وبقية الدول الصناعية، بل هي حالة فرض وجود ضمن بيئة غير مؤاتية، ومع ذلك، ناضلت تلك الأحزاب اليسارية للتجذر في وسطها الاجتماعي.
وللحديث بقية…

قد يعجبك ايضا