السباق نحو الرئاسة في الانتخابات التونسية / د. زهير الخويلدي




Image result for ‫زهير الخويلدي‬‎

د. زهير الخويلدي ( تونس ) الجمعة 6/9/2019 م …

” السياسة هي مجموع الممارسات المنظمة المتعلقة بتوزيع السلطة السياسية “1[1]

تعيش تونس تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها في الوطن العربي ويظهر ذلك بشكل واضح عند الانتقال السلمي والسلس للسلطة من مؤسسة الرئاسة إلى البرلمان دون تسجيل أي اعتراض بل ترحيب من الكل والتوجه لتنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها وتوسيع دائرة المشاركة لتشمل عددا هاما من المرشحين.

صحيح أن القوى السياسية المساكة بالسلطة والقوى المعارضة قد اتفقت على احترام الدستور التوافقي وعلى تجنب الصراعات والمشاحنات التي وقعت فيها الكثير من الدول العربية المحيطة التي تشهد انتقالا صعبا ولكن الديمقراطية التونسية التي تتراوح بين النزعة التمثيلية والنزعة التشاركية مازلت لم تبلغ الطريق الواثق للدمقرطة ومازالت لم تتجذر بعد وبقي عودها إلى حد الآن طريا وتتربص به جملة من المخاطر.

من البديهي أن عدد من الدول ومن بينها تونس ليست فقيرة ولا متأخرة وإنما تتضمن عددا من الثروات والموارد المادية والبشرية ويمكنها أن تعتمد على معطى الذكاء والمقدرات الذاتية لكي تحقق استفاقتها ولكن الأنظمة السياسية الفاسدة التي تعاقبت على حكمها هي التي جعلتها تراوح مكانها وفي حالة ركود ولا حل لها سوى قيام نظام ناجع يعبر عن تطلعات شبابها وشعبها ويلبي متطلبات الذهاب نحو المستقبل.

في الواقع تختلف انتخابات 2019 كثيرا عن انتخابات 2014 وعن انتخابات المجلس التأسيسي التي وقع تنظيمها في 2011 من جهة السياق العام الذي تجري فيه ومن جهة الفاعلين المتنافسين المشاركين فيها. على هذا الأساس تواجه الانتخابات التونسية مجموعة من التحديات مرتبطة أساسا بالمعطى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والقانوني ويبرز ذلك بشكل ملحوظ في تخوف المواطن من المستقبل. اذ ما تزال تونس في منطقة جذب بين القوى الإقليمية والدول القوية الغربية ولم تتخلص بشكل نهائي من التنظيمات الإرهابية وتتربص بها قوى الشر من الأنظمة التقليدية الرافضة للحراك الشعبي الديمقراطي.

أضف إلى ذلك تزايد الصراع السياسي على السلطة بين المتنافسين حيث وجهت اتهامات بتلقي المال الفاسد وممارسة الرشوة السياسية بتقديم المساعدات للمحتاجين واستغلال وسائل الإعلام الخاصة للدعاية الحزبية ولما تعددت أساليب التسابق إلى القصر التي يعتمدها المتأهلون إلى المنافسة على رتبة الرئاسة.

كما أفسد المناخ الديمقراطي اكتشاف بعض التزكيات المعادة بالنسبة للنواب وجملة من التزكيات الشعبية للمرشحين للرئاسة التي تمت دون علم أصحابها ولقد تابعت الجهة المعنية بالمسألة الموضوع دون قرار.

بيد أن المنطق القانوني السليم يفرض خلو المسار الانتخابي من التجاوزات وينصص على ضرورة سلامة كل الملفات المتعلقة بالمرشحين والمرشحات من أي إخلال بالقوانين وخاصة التهرب من الأداء الضريبي.

كما أن الأزمة الاقتصادية التي انعكست سلبيا على قيمة العملة ونسبة النمو الاقتصادي ومعدل التضخم وتزايد البطالة وتردي الخدمات العمومية وظهور بوادر أزمة اجتماعية شاملة تهدد بانفجار شعبي جديد.

علاوة على ذلك هناك فراغ نسبي على صعيد اتخاذ القرارات وتنفيذها ومتابعتها في القيادة العليا على إثر التفويض الحاصل في رئاسة الحكومة لأحد وزرائها وانشغال معظم الوزراء الآخرين وغالبية المسؤولين بتنظيم حملاتهم الانتخابية الرئاسية وانخراطهم في إعداد القائمات الحزبية التي يتزعمونها في التشريعية.

على الرغم من تجاوز عدد المسجلين السبعة ملايين بعد الملحق الزمني الذي تم إضافته للفئات الشابة فإن التخوف الكبير يظل مسيطرا أمام إمكانية ارتفاع نسبة العازفين وواقع تزايد المقاطعين ومشاعر اللامبالاة.

لكن الدولة تعول على نضج وجاهزية مؤسساتها واستقلالية الهيئة المشرفة على الانتخابات والتي أثبتت في المناسبات الفارطة جديتها ونزاهتها باعتراف المراقبين الدوليين وبشهادة جل المشاركين في العملية. ولقد خيّر الاتحاد العام التونسي للشغل عدم المشاركة في السباق الانتخابي وعدم ترشيح أحد المتنافسين وترك المجال لمنظوريه لكي يختاروا من يحقق مصالح الطبقة العاملة ويحفظ وحدة الوطن وسيادته وفي المقابل بادر إلى تكوين مجموعة هامة من المراقبين والملاحظين لكي يسهروا على حسن تنظيم الاحتفال.

والحق أن الناخب التونسي قد يجد نفسه في حيرة أمام حضور أكثر من مرشح للرئاسة والبرلمان من نفس العائلة السياسية سواء كانت دستورية أو إسلامية أو يسارية بسبب الانقسام داخلها والنزاع على الزعامة.

ربما المرة الأولى التي يتقدم فيها أكثر من مرشح في المعسكر اليساري الذي كان يعول على النقابات وفي المعسكر الدستوري الذي يستميل الدولة العميقة وفي المعسكر الإسلامي الذي يراهن على خطاب الهوية. لكن هناك من ترشح من داخل السيستام ويتمتع بحظوظ وافرة ويركز عمله على أصوات فئة الموظفين ومرشحين آخرين من خارج السيستام وهم أقل حظا ولكنهم يتهمون بالشعوبية واستمالة الفئات المهمشة وفيهم من هو موجود خارج الوطن وملاحق قضائيا وفيهم من أودع السجن ووجهت له تهم تتعلق بقضايا التهرب الضريبي وفيهم من أعلن بصراحة نيته تغيير دستور الثورة وإعلان دستور الجمهورية الثالثة.

لذا يمكن تقسيم المرشحين إلى الرئاسية إلى منافسين جديين ومراهنين رمزيين ويمكن التفريق بين جملة من الأصناف: الصنف الأول يتنزل في المد الثوري والحراك الشعبي واستكمال المسار الانتقالي وتمثله الترويكا ووزرائها، الثاني يندرج في خانة الثورة المضادة وينادي بتغيير الدستور وإعادة النظام الرئاسي والحكم المركزي، الصنف الثالث ينتمي إلى الموجة الديمقراطية ويعبر عن نجاح التجربة الديمقراطية في إزالة الخوف عن الناس وبلوغ عدد من الناشطين مستوى من الوعي السياسي الذي يمكنهم من قيادة البلاد.

لقد ظهر شبه إجماع على نقد مراجع الإسلام السياسي والدولة الدينية وتبنت غالبية الأحزاب خطابا حداثيا يناصر الدولة المدنية ووجدت الأحزاب القريبة من التوجه الإسلامي نفسها مجبرة على الفصل بين العمل الدعوي والعمل السياسي واضطرت للتخلي عن ترسانة كبيرة من المفاهيم التعبوية والارتباطات العالمية. كما تزايدت الدعوات لكي يتم تعديل القانون الانتخابي واستبدال أكبر البواقي ونظام القائمات بنظام آخر أكثر مرونة وتمثيلية وتم طرح على طاولة النقاش البرامج الاقتصادية والثقافية للأحزاب وبقية المستقلين.    من هذا المنطلق يجب أن يكون رئيس تونس القادم قريبا من شعبه ومخلصا للسيادة الوطنية ومناصرا قويا للهوية وحريصا على تجاوز معظم الأزمات السابقة ومحبا للثقافة والتنوير وملما بمختلف القضايا الدولية. لقد سلمت تونس الشعلة الثورية للمنطقة العربية ومثلت الاستثناء الايجابي وتشكل إجماع حول المحافظة على المكاسب الديمقراطية والسير في اتجاه الحكم الرشيد المستقر وما يتطلبه من احترام الدستور وتطبيق القانون على قدر المساواة بين  الجميع وإتباع منوال تنموي أكثر نجاعة ونموذج سياسي أكثر مردودية.  

لقد ظهرت للعيان بعض البرامج الانتخابية وقدم المتسابقون بعض الوعود حول إصلاح المنظومة الجبائية والتقليل من المديونية والتعويل على الاستثمار في الإنتاج الفلاحي واستئناف العلاقات مع سوريا والزيادة في الصلاحيات التي يتمتع بها الرئيس وتفعيل التمييز بين السلطات وتدعيم المؤسسات وتأميم الثروات واعتماد نظام العتبة للوصول إلى البرلمان وتعمير الصحراء بالمناطق الخضراء عبر زراعة الأشجار.

لكن ما يلفت النظر أن الحملة الانتخابية للشخصيات المشاركة لم تقدم الجديد ولم تحفل بقدر من الابتكار في الشعارات والطرائق الدعائية والبرامج السياسية ولم تقم بتطوير مشاريعها واستراتيجيات التغيير. كما تظل هذه الوعود مجرد شعارات ايديولوجية وتطلعات مستقبلية بعيدة عن التحقيق وغير قابلة للتطبيق ما لم تتشكل إرادة سياسية وازنة تعتمد على تفاهم كبير وعلى تعاون مثمر بين البرلمان والقصبة وقرطاج. إن المطلوب من الساهرين على الإعداد إحكام التنظيم وعقلنة المشهد عبر تحييد وسائل الاتصال العمومي وتمكين مختلف المرشحين من الوقت الكافي وتوفير تساوي الفرص والحظوظ بالنسبة للمشاركين دون إقصاء مبرمج أو تصفية حسابات وتفادي المجازفة بمستقبل الحياة الديمقراطية والتداول السلمي للحكم. هكذا ترى الديمقراطية أن “فضيلة العدالة بمعنى المساواة تهدف إلى وضع السيطرة تحت رقابة السلطة المشتركة… وهي مهمة بلا نهاية لأن كل هيئة جديدة للسيطرة تنبثق من هيئة سابقة ذات طبيعة مماثلة”.

ربما الكل في انتظار يوم 15 سبتمبر 2019 وهو اليوم المفصلي بالنسبة لتونس لكي تعبر عملية الانتقال الديمقراطي نحو ترسيخ الديمقراطية المستقرة والجميع يأمل أن تجري العملية الانتخابية في كنف السلم والأمن والتنافس النزيه وأن يختار الشعب الأصلح وأن ينتصر الأجدر والأقدر على تحمل المسؤولية.  ينتظر أن يحقق أحدهم الفوز في الدورة الأولى أو في الدورة الثانية ولكن يجب أن يوفر الشروط الممكنة للتسابق المدني ضمن تمشي يحترم التعددية ويوفر التسامح والسلم الأهلي ويقبل بروح رياضية النتيجة.  لا نظن أن الشخص الذي سيجمع عليه الناخبون عبر آلية الاقتراع سوف يخالف الدستور ويتنصل من تركيز محكمة دستورية ولن يستكمل بناء المؤسسات الديمقراطية أو لن يدعم اللامركزية والحكم المحلي.

من هذا المنطلق ينتظر الثوريون وصول رئيس من خارج النسق السياسي السائد يواصل التغييرات التي طالب بها الحراك الشعبي وفي المقابل يحرص الموالون على الاستقرار واستكمال المسار الانتقالي بأخف الأضرار واقل التكاليف ضمن الحد الأدني من العدالة الانتقالية وفي اتجاه المحافظة على مكاسب الدولة.

لكن ماذا يمكن أن يغير الرئيس المنتخب في نظام انتخابي نسبي وهو لا يتمتع سوى بصلاحيات محدودة؟ وكيف يمكن تخطي التنافس القوي بين قوى الثورة وبناة الدولة ويتم العبور من زمن الثورة الدائمة إلى منطق الدولة القوية؟ أليست السلطة السياسية هي التي ترضى جماعة تاريخية أن تعيش وفقها على قاعدة العيش السوي وإرادة الفعل المشترك؟ وألا يجب تنقية المناخ السياسي من الفساد والباحثين عن الحصانة؟ وكيف تتحول الديمقراطية التونسية إلى عودة حضارية إلى الذات العربية حيث يقع تخلصيها من التبعية؟ ومتى تعود للدولة هيبتها وللشعب إرادته وللأفراد حريتهم وللمواطنين مشاركتهم وللوطن سيادته الكاملة؟ والى أي حد تكون الانتخابات المزمع تنظيمها في خريف 2019 حاسمة ومفصلية للأفق الديمقراطي؟

المرجع:

1- بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، طبعة أولى،2004، ص487.

* كاتب فلسفي



 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا