هونغ كونغ، ورقة ضغط أُخْرَى ضد الصّين / الطاهر المُعز

هونغ كونغ تواجه أخطر أزمة سياسية منذ أعادتها بريطانيا إلى الصين في 1997 (رويترز)

الطاهر المُعز  ( تونس ) الثلاثاء 3/9/2019 م …

تقديم:




يمكن إدراج سياق “أحداث هونغ كونغ 2019″ ضمن استراتيجية أمريكية، بدأت بإعادة هيكلة الإنتشار أو التّموْضُع الأمريكي في منطقة تمتد بين أستراليا جنوبًا والهند غربًا واليابان شرقًا، منذ 2012، وتشكل اليابان (الإمبراطورية التي استعمرت جنوب وشرق آسيا، وحتى الحرب العالمية الثانية) بشكل خاص، و”تستضيف” اليابان قواعد أمريكية هامة، وهي قيادة مقرّ الأسطول الأميركي السابع، أكبر الأساطيل العسكرية الأمريكية، وأقرّت الولايات المتحدة بعض التّحويرات في سياستها الإمبريالية، وأقرت دورًا جديدًا عدوانيا لليابان، ضد الصين، وساعدت “شيزو آبي” (شديد الولاء للإمبريالية الأمريكية) ليصبح رئيسًا لوزراء اليابان، منذ 2012، ويستفز الصين وروسيا وكوريا الجنوبية، وشعوب جنوب شرقي آسيا التي احتلتها اليابان طويلاً، بالتزامن مع إعلان الأهداف التي أعلنتها “هيلاري كلينتون” و “باراك أوباما”، من محاصرة الصين، ومحاولة خنقها، بالحصار العسكري، والإقتصادي، والإعلامي، عبر تمويل منظمات “غير حكومية”، وعبر افتعال أزمات في جنوب الصين (أقلية الإيغور) إلى غاية افتعال أزمة هونغ كونغ، بالتزامن مع دعم السياسة اليمينية المتطرفة في الهند، المساندة لأمريكا وللكيان الصهيوني، وتمثلت مُؤخّرًا في استفزاز باكستان والصين في منطقة “كشمير”، حيث يُفترَضُ عبور “طريق الحرير الجديدة” (الحزام والطريق)…

استعمرت بريطانيا جزيرة “هونغ كونغ”، سنة 1840، خلال العدوان الإستعماري الغربي (والياباني، بشكل مُستقل ) الذي استهدف إخضاع الصين، وسُمِّيَتْ بعض هذه الحروب “حرب الأفيون”، ولم تستعد الصين هذا الجزء من أراضيها، سوى سنة 1997، إثر مفاوضات مع بريطانيا، التي اشترطت أن تبقى الجزيرة تتمتع بحكم ذاتي طيلة نصف قرن، ويُقدّرُ عدد سكانها، حاليا بحوالي 7,5 ملايين، يعيشون على مساحة 2755 كليومتر مربّع، كما استرجعت الصين جزيرة “ماكاو” التي كانت تحتلها البرتغال، وتحولت “هونغ كونغ” خلال فترة الإستعمار البريطاني إلى مركز مالي، لا يزال يُنافس الأسواق العالمية، وهي أيضًا منطقة صناعية وزراعية، وتأثرت الفئات الميسورة والبرجوازية الصغيرة باللغة والثقافة الإستعمارية البريطانية، خلافًا للصين (الوطن الأم) وللعديد من الشعوب المجاورة، التي “تأَمْرَكَتْ”، لكنها حافظتْ على اللغة والتُّراث والثقافات المحلّيّة، ولا يزال تأثير الإمبريالية البريطانية قَوِيًّا في “هونغ كونغ”…    

أحداث 2019:

انطلقت احتجاجات قوية، بنهاية شهر نيسان/ابريل 2019، ضد مشروع قانون تسليم المجرمين الفَارِّين  إلى السّلطات الصينية المركزية في “البرّ الرّئِيسِي”، ورغم سحْب مشروع القانون، تواصلت المُظاهرات والإضرابات، وتعطيل المواصلات (البرّيّة والجَوِّيّة) وقطاعات عديدة من اقتصاد الجزيرة، ونالت هذه المظاهرات دَعْمًا كبيرًا من وسائل الإعلام، والحُكُومات والأحزاب، في البلدان الرأسمالية المتطورة، وخصصت بعض وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية، حيزًا هامًّا وافتتاحيات وعناوين عريضة لهذه المظاهرات، التي تزامنت مع مظاهرات أخرى في روسيا “بمحض الصدفة؟” (وكالات رويترز وبلومبرغ، ومحطات تلفزيون بي بي سي وسي إن إن وسكاي نيوز وفوكس، وصحف غارديان ونيويورك تايمز، وغيرها)، فيما لم تهتم بمسيرات العودة في غزة، على سبيل الذّكر، رغم العدد المرتفع للضحايا والمُصابين، وتحوّلت “هونغ كونغ” إلى قطعة (أو بَيْدق) في استراتيجية الولايات المتحدة لمحاصرة الصين، وتضم هذه الإستراتيجية جوانب عسكرة، كالقواعد العسكرية في البلدان المحيطة بالصين، والحرب التجارية والعقوبات والحَظْر، وغير ذلك، وتندرج “هونغ كونغ” وتايوان ومناطق غربي الصين وجنوبها في إطار الجانب السياسي لزعزعة نظام الحُكْم في الصين، الذي يُعدُّ خَصْمًا أو منافس اقتصادي وتجاري…

تزامنت مظاهرات “هونغ كونغ” مع قمع شديد للمتظاهرين (المُسالمين) في فرنسا، من أجل قضايا ذات صبغة اجتماعية واقتصادية، وتزامنت مع غرق عشرات المُهاجرين في البحر الأبيض المتوسط، واتهام المنظمات “الإنسانية” التي تُحاول إنقاذهم ب”الإرهاب” وب”تشجيع الهجرة غير النّظامية”، في إيطاليا واليونان ومالطا وغيرها، وقمعت الشرطة الفرنسية متظاهرين، على بعد كيلومترات من المنتجع الذي اجتمعت فيه وفود “مجموعة السّبع”، وقمعت الشرطة البريطانية متظاهرين ضد رئيس الوزراء الجديد (اليميني والصهيوني) بوريس جونسون، كانوا على بعد مئات الأمتار من مقر رئاسة الوزراء أو من مقر البرلمان، وفي المقابل دعمت نفس الحُكومات ونفس وسائل الإعلام التي ساندت وعَلَّلَتْ وبَرّرَت عمليات القمع والإصابات والإعتقالات في أوروبا، (دَعمت) احتلال المتظاهرين برلمان ومطار ومؤسسات رسمية في هونغ كونغ، وعرقلت حركة النقل الخارجي (المطار) والداخلي (قطار الأنفاق، والطرقات)، ولم تتدخل الشرطة ولم تعتقل زُعماءَ المتظاهرين الذين يدلون بأحاديث لمراسلي وسائل الإعلام المُعادية للصين…

رغم سَحْبِ مشروع القانون، قرر زُعماء الإحتجاج مواصلة التصعيد، والمُطالبة بإسقاط حكومة إقليم “هونغ كونغ”، وتمثل التصعيد في تعطيل افتتاح السنة الدّراسية، والدعوة إلى إضراب عام مفتوح، مع مَنْعِ وصول الركاب إلى محطات قطار الأنفاق، وهو ما يعتبره حكام أوروبا وأمريكا خطيئة عُظْمى، وتعطيل لدواليب الإقتصاد، وأصبحت الإحتجاجات، شبه يومية، وأصبح أصحاب المتاجر والمطاعم والمقاهي يتذمرون من تعطيل حركة التجارة، وأصبحت شعارات المُتظاهرين تُنَدِّدُ “بتراجع الحريات والتدخل المتزايد مِن قِبل حكومة بكين في شؤون هذه هونغ كونغ، في عملية قَضْم للحكم الذاتي…”، وأحرَقَ المتظاهرون (يوم السبت 31 آب/أغسطس 2019) حواجز أمنية وألْقَوا القنابل الحارقة على عناصر الشرطة، التي اعتقلت ثلاثة متظاهرين، وألغت الغازات المسيلة للدموع، واستخدمت خراطيم المياه المضْغَوطَة، وفق محطة “بي بي سي” البريطانية، وأقام المتظاهرون حواجز في المنافذ المُؤَدِّيَة إلى المطار (بعد إنهاء احتلال المطار الذي دام يومَيْن)، ما أدى إلى إلغاء نحو 15 رحلة…  

التضليل الإعلامي:

خلال فترة انهيار الإتحاد السوفييتي، كان الإعلام الأوروبي والأمريكي يَصِفُ الزعماء السياسيين الموالين لأمريكا ب”المُوالين للديمقراطية”، أو ب”التّقدّمِيِّين”، ويَصِفُ خُصُومَهم ب”المُحافِظِين”، مما يُوحي للقارئ أو السامع أو المُشاهد، إن الرجعيين والصهاينة “تقدّميّون”، والشيوعيين واليساريين “مُحافظين” (مثل احزبَيْ المحافظين في بريطانيا وأمريكا؟)، وعادت هذه النُّعُوت، وخاصة “الموالين للديمقراطية”، في هونغ كونغ وروسيا، حيث تجري مظاهرات احتجاجية، بشكل متزامن، وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة “لوفيغارو”‘ الفرنسية (ملك أسرة “داسو”، صاحبة المصانع الحربية التي تُنتج طائرة “رافال”) عدة مقالات متعاطفة مع “أنصار الديمقرطية” في “هونغ كونغ” (كما في روسيا) وتصف الصحيفةُ هذه المظاهرات “بالسلمية، والمُطالِبَة بالحرية وبالديمقراطية”، وتنشر نفس الصحيفة، وفي نفس الأعداد، مقالات تقطر حِقْدًا وسُمًّا ضد العمل النقابي وضد الإحتجاجات السلمية بالفعل في فرنسا، والتي قمعتها الشرطة (الديمقراطية؟) الفرنسية بعنف لا يُوصف، واعتبرت هذه الصحيفة وأمثالها في اليابان وأستراليا وأوروبا وكندا والولايات المتحدة، هذه الحركة ب”الديمقراطية ضد الدكتاتورية”، وضد “الشيوعية” (الصينية !!! ) أي م”عركة الخير ضد الشّرّ”…

بالمقابل، نشرت وسائل الإعلام الصينية صورًا لأربعة من قادة حركة الاحتجاج في الجزيرة مع رئيسة الدائرة السياسية في القنصلية الأمريكية، في هونغ كونغ، وحصل نفس الأمر في موسكو، حيث يجتمع قادة الإحتجاجات مع رئيس القسم السياسي في سفارة الولايات المتحدة بموسكو، قبل وبعدَ المظاهرات، ومن المعروف (بحسب وثائق الكونغرس) أن العديد من المؤسسات الأمريكية تُخصِّصُ منحًا مالية سنوية لمنظمات “حقوقية” أو “ديمقراطية” في العديد من الدول، ومنها روسيا والصين، حيث يرفع متظاهرو هونغ كونغ أعْلام بريطانيا وأمريكا، وللتذكير فإن جزيرة “هونغ كونغ” الصينية، تبعد حوالي 15 ألف كيلومتر عن حدود الولايات المتحدة، على أرض صينية (مثل بكين أو شنغهاي)، كانت مُسْتعمرة بريطانية، لفترةٍ فاقت قرنًا ونصف القرن…

تدعم معظم وسائل الإعلام “الغربية” (ومن بينها صحف “وول ستريت جورنال” و “واشنطن بوست”، التي دافعت عن عناصر الشرطة الأمريكية الذين قتلوا مواطنين سود) المحتجّين دون تحفظ، مع تبرير رفع الأعلام البريطانية والأمريكية،  وتبرير أعمال العنف في البرلمان وفي المطار ومحطات قطار الأنفاق، ومهاجمة حواجز الشرطة بالمواد الكيماوية الحارقة والخطيرة، وتمكّن مؤيدو الحكومة الصينية من جَمْع أكثر من سبعمائة ألف توقيع، تأييدّا لمشروع قانون تسليم المُجْرِمين، بحسب مواقع التواصل الإجتماعي، المُعبِّرة عن آرائهم وتوجُّهاتهم…

مع تَواصُلِ الأزمة، اضطرت وسائل الإعلام “الغربية” إلى ذكر الخسائر التي لحقت بسكان “هونغ كونغ”، جراء هذه الحركة الإحتجاجية، التي لم تتوقف، رغم انتفاء أسباب انطلاقها، وأصبح الإزدهار الذي حققه اقتصاد الجزيرة (بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عشرة أضْعاف نصيب الفرد في “البر الرئيسي)، مُهدّدًا، وقد تخسر الجزيرة موقعها كسوق جاذبة للإستثمارات وللمصارف…

الخَلْفِيّات والرهانات:

أظْهرت الولايات المتحدة قُدْرَتها عن التّخلِّي على المنظمات التي أنفقت على إنشائها، وأشرفت على نشاطاتها السياسية والعسكرية، وهي قادرة على التضحية بحكومات، إذا اقتضت مصالح رأس المال والشركات الأمريكية ذلك، أو إذا أدخلت الولايات المتحدة تغييرات على تكتيكاتها أو استراتيجياتها، أما الصين فإنها تعتبر “هونغ كونغ” جُزْءًا منها وليست أراضي “مُحتلّة” أو “متنازع عليها”، أو خاضعة لإدارة خارجية، ولذلك تعتبر الحكومة الصينية ما يجري في “هونغ كونغ” شأنًا داخليا صينيًّا، وأن من يستنجد بالسفارات الأجنبية يُريد إضْفاءَ “الشّرْعِيّة” على التّدخّلات الأجنبية في شؤون الصّين، مما تعتبره حكومة الصين “خَرْقًا للقوانين والأعراف الدّولية” (وردت عبارات مماثلة، في افتتاحيات صحيفة “الشعب” اليومية الصينية، عديد المرات)، وذكرت وكالة “شينخوا” الرسمية الصينية إن الولايات المتحدة تتدخل في شؤون الصين وروسيا وإيران وكوبا وفنزويلا، وغيرها، وتقتل شُرطَتُها المواطنين السّود، وترتكب جرائم، بقيت بدون عقاب، أو بدون محاكمة أحيانًا، كما ذكّرت مواقع أخرى بالطريقة العنيفة التي تعاملت بها الحكومة الفرنسية مع حركة “السترات الصفراء”، ونُذَكِّرُ إن السّلطات الفرنسية اعتقلت (حتى منتصف شهر آب/أغسطس 2019)، أي خلال أقلّ من عام واحد، نحو عشرة آلاف مُتظاهر، وأصدر القضاء 1800 إدانة للمتظاهرين، خلال ثمانية أشهر، فيما تسببت أسلحة الشرطة والدّرك بأكثر من 200 إصابة بالغة (وقع التبليغ عنها) للمتظاهرين، وتسببت بإعاقات دائمة لما لا يقل عن 25 متظاهر…

استفادت الصين من موقع “هونغ كونغ”، منذ ما قبل استعادتها، واستخدمت سوقَها المالية، لاجتذاب أموال التّجّار الصينيين المُنتشرين في العالم، واجتذاب الإستثمارات الأجنبية التي كانت تحتاجها الصين، منذ 1949، مقابل ترك هامش عريض للحكم الذاتي تحت شعار “دولة واحدة ونِظامان سياسيان”، وللحكومة المركزية الصينية حُضُور قَوِي، ومُؤيِّدُون تظاهروا أيضًا، لكن تجاهلت وسائل الإعلام السائد تظاهُراتهم، لأن بعض شعاراتهم تُندّد ب”إثارة الفتْنَة بين هونغ كونغ والبر الرئيسي”، وأشارت الصحف الصينية إن “هونغ كونغ” ورثت من الإستعمار البريطاني المُباشر للجزيرة، اتفاقيات تسليم المجرمين مع عشرين دولة، وليس لها مثل هذه الإتفاقيات مع أي من أجزاء الصين، البر الرئيسي وتايوان وجزيرة ماكاو، وهو خَلَلٌ وجب تصحيحُهُ، لأن مشروع القانون الصيني انطلق من حدوث جريمة حقيقية (جريمة قَتْل رجل لامرأة)، ورغم اعتراف مرتكبها، لا يمكن تسلميه لا إلى تايوان، حيث حدثت الجريمة، ولا إلى حكومة الصين، التي يحمل القاتل والمَقْتُولَة جنسيتها، بسبب غياب مثل هذه الإتفاقية لتسليم المُجْرِمين، وقضت محكمة “هونغ كونغ” بسجنه بضعة أشهر، لأن عملية القتل حصلت في بلد آخر (تايوان)، وأعلن قادة المتظاهرين (وسفارات الدول “الغربية”) تخوفهم من تسليم المُعارِضين لنظام الحكم الصيني…

مجموعات اليمين المتطرف، والتدريب والتمويل الأمريكي:

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” بتاريخ الثلاثين من حزيران 2019، فحوى لقاء مع أحد زُعماء مجموعة “القُمْصان السّود” (نفس الإسم لمليشيات الفاشية الإيطالية، التي أسسها “بنيتو موسلّيني”)، بعنوان: “تكتيك المحتجين في هونغ كونغ، استفز الشرطة لكي ترد بالعنف”، وتستخدم هذه المجموعة (كما حدَثَ في أوكرانيا) كافة أنواع “الأسلحة” والمبادرة برَمْي الشرطة بالحجارة ومهجمتها بعصي الخيزران وقنابل المولوتوف وقاذفات القنابل، وغيرها من الأسلحة والأدوات، لإجبار الشرطة على الرّد بعنف، وتصوير مشاهد استخدام الشرطة للقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، “كدليل على عنف الشرطة”، وأعلنت صحيفة “غلوبال تايمز” استخدام هذه المجموعة العنف الشديد، ضد ثلاثة مواطنِين، من بينهم صحافي، في مطار “هونغ كونغ”، إلى أن فقدوا الوعي، ونقلوا إلى المستشفى، بتهمة احتمال ولائهم لحكومة الصين، ونشرت الصحيفة شريط فيديو يُوثّقُ بعض هذه الأعمال، وتعليقًا على شريط الفيديو، اتهمت صحيفة “لوباريزيان” الفرنسية (14/08/2019) الشرطة الصينية “بتزييف الحقائق وفَبْرَكَة الشريط، لتبرير الإعتداء على المتظاهرين المُسالِمين، ولتبرير تدخل عسكري مُحْتَمَل في مستقبل قريب”…

درّبت المخابرات الأمريكية مجموعات متنوعة، بهدف زعزعة استقرار بعض البلدان، وكانت تجربة تفتيت يوغسلافيا، أول مناسبة تظهر فيها هذه المجموعات، علنًا، خاصة في “كوسوفو” و”البوسنة”، وسبق للمخابرات الأمريكية نَشْرُ “وثائق” سمعية بصرية عن أحداث لم تقع أصْلاً في رومانيا وفي يوغسلافيا والعراق وليبيا، وغيرها، ثم تطور العمل في “أوكرانيا”، حيث استخدمت المخابرات الأمريكية مُبَشِّرِين “إنجيليين” في الأحياء الفقيرة من العاصمة “كييف”، ليحولوا حوالي مليونَيْ مواطن أوكراني من الأرثدوكسية إلى الإنجيلية، ثم طالبوا الدولة ببناء معابد لهم، واستخدمت هذه المجموعات جوع الفقراء (بعد الإنفصال وانهيار الإتحاد السوفييتي) توزيع الغذاء والملابس واللوازم المدرسية والفحوص الطبية المَجانية، لربط الصلة بهؤلاء المواطنين الأوكرانيين لاستخدامهم فيما بعد، ضد حكومة أرادت الولايات المتحدة الإطاحة بها، ونشرت الصحف الأمريكية آنذاك إن هذه الجمعيات الأمريكية أنفقت ملايين الدولارات لنقْل المتظاهرين من المدن إلى “كييف” وإطعامهم، أيام المُظاهرات… وبعد سنوات ظهرت في ساحة “المَيْدان” مليشيات فاشية (تُعلن فاشيتها، دون موارَبَة)، تحمل أسلحة صهيونية، ودربتها فرق المخابرات الأمريكية والصهيونية، لإزاحة رئيس منتخب ونواب منتخَبِين، واستبدالهم، بالقوة، برئيس وحكومة تُرضِي الولايات المتحدة…

استخدمت الولايات المتحدة وبريطانيا نفس التكتيك في روسيا وفي الصّين، لإثارة النزاعات الدّاخلية، ودفع الحكومات نحو الرّد العنيف للتنديد بها، باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان…

ورد في تقرير بتاريخ 20/01/2019 أعدّته منظمة “أوكسفام” (وهي منظمة مسيحية، بريطانية المنشأ، غير موالية للصين)، إن “هونغ كونغ” تُجسّد نموذجً لاتساع الفجوة الطبقية العميقة بين الأثرياء والفُقراء، في العالم، وقدَّرَ التّقرير عددَ من يعيشون تحت خط الفقر، بنحو 1,3 مليون مواطن، أو ما يعادل 20% من سكان هونغ كونغ التي وصفها التقرير ب”جَنّة الأثرياء التي نَشَأتْ على جحيم الفُقراء”…

يتهم أنصار الحكومة الصينية هؤلاء الأثرياء بتدريب وتجهيز مليشيات “القُمْصان السّود” الذين يُطالبون بعَوْدَة الإستعمار البريطاني للجزيرة، ويرفعون أعلام بريطانيا وأمريكا، وتجمع أكثر من مائة ألف متظاهر يوم 20 تموز/يوليو 2019، في هونغ كونغ، للتنديد بأصحاب القمصان السوداء، وبالأثرياء الذي يرعونهم، ويُجهِّزونهم (زي موحد وخوذات وأقنعة واقِيَة من الغاز وأسلحة ليزر…)، بمساندة المخابرات والقنصليات البريطانية والأمريكية، وغيرها…

تُشير العديد من الوقائع إلى تشابه غريب بين مظاهرات بولندا وجورجيا وأوكرانيا، وغيرها، قبل أكثر من عقدَيْن، والمظاهرات التي تجري في روسيا وفي هونغ كونغ، وفنزويلا، وبعض المحاولات الفاشلة في إيران، وسُمِّيت هذه الحَركات “المُضادة للثورة”، آنذاك ب”الثورات الملونة” (زرقاء وبرتقالية وبنفسجية، وصفراء في الفلبين، ولكن لا توجد بينها “ثورة” وُصِفَت بالحمراء)…

خاتمة:

تستخدم الإمبريالية الأمريكية كافة الوسائل لتقويض استقرار أي دولة تختلف معها، والغريب في الأمر إنها تفعل ذلك باسم “الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والنساء والأطفال…”، لكن ما يكون رد الفعل الفرنسي أو الأمريكي، لو التقى دبلوماسيون من روسيا أو الصين بوفد من قادة حركة “السّترات الصفراء”، أو بوفد من عائلات السُّود الأمريكيين الذين اغتالتهم الشرطة الأمريكية بالرصاص؟ نُذَكِّرُ أن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” التقى وفدًا من قادة الإحتجاجات ومن وسائل الإعلام “المُؤيّدة للديمقراطية”، ومن منظمات يمولها وقف الصندوق القومي للديمقراطية (“نيد”)، ولها ارتباطات بالمخابرات الأمريكية، وفق صحيفة “لوسوار ” البلجيكية، بتاريخ 09/08/2019…

سبق لي أن كَتَبْتُ، في مناسبات عديدة، عن النظام الرأسمالي في الصين، وعن الإستغلال الفاحش وعن طرد المُزارعين الفُقراء من الأراضي التي يستغلونها منذ عقود، وكتبتُ عن انتهازية حكومة الصين، وعن العلاقات الوطيدة مع الكيان الصهيوني، والإستثمار المُكَبِّل لعدد من دول إفريقيا، ولبلدان آسيوية، مثل سريلانكا وباكستان وغيرها، ضمن “طريق الحرير الجديدة” (أو “الطريق والحزام”)، لكن موضوع احتجاجات “هونغ كونغ”، يُثِير عددًا من الأسئلة حول أساليب الإمبراليات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لخلق بُؤَر النزاعات وعدم الإستقرار، في الدول التي لا تخضع لها، وهي حال الصين وروسيا حاليّا، حتى بعد تحولهما رسميًّا إلى تَبنِّي وانتهاج النظام الرأسمالي.

قد يعجبك ايضا