النظام العربي يُسقطْ ورقة التوت الأخيرة / فايز رشيد




 فايز رشيد ( الخميس ) 13/6/2019 م …

عندما وضع أفلاطون أسس جمهوريته الفاضلة، لم يعتمد المبادئ السياسية فقط، بل الأخلاقية أيضاً، وبذلك تشكلت لدية نظرية المعرفة. نعم، لم تكن السياسة هدف أفلاطون الرئيسي من وراء كتبه العشرة، ولكنه أراد أن يوضح أهمية الاستقامة والعدالة على مستوى السلوك كذلك، ينسب إلى أفلاطون قوله: «بأن السلطة شهية كالمرأة».
هذا الحال ينطبق على عالمنا العربي تماماً، فما أن يصل أحدهم إليها، حتى يتشبث بها حتى الموت، يمدّ اليد للأعداء المغتصبين للأرض العربية طمعا في حمايته وبقائه حاكماً، حتى لأولئك الذين يصفون العرب «بأنهم ليسوا أكثر من أفاع وصراصير». نعم، كشفت القناة الـ12 في التلفزيون العبريّ، عن زيارة قام بها وفد إسرائيلي إلى تونس خلال الأيام الأخيرة. واستغلّ الصحافيون الصهاينة الزيارة، ووثقوا الرحلة، ولفتوا إلى أن «هذه الزيارات الإسرائيليّة إلى تونس، هي جزءٌ من السياسة التونسيّة في الانفتاح على العالم الخارجيّ. والتقوا مع وزير السياحة التونسيّ رونيه طرابلسي، حيث ألقى كلمةً ترحيبية بهم.
يأتي ذلك، في اليوم التالي لتصريح السفير الأمريكي المتصهين ديفيد فريدمان إلى «نيويورك تايمز»،» بأن من حقّ إسرائيل ضمّ أراضي فلسطينية من «يهودا والسامرة»- الضفة الغربية – إليها»، مضيفاً: «أن آخر ما يحتاجه العالم هو دولة فلسطينية فاشلة بجانب إسرائيل»، مؤكداً خطة إدارة ترامب بعقد مؤتمر في البحرين في وقت لاحق هذا الشهر، لعرض جوانب»صفقة القرن» الاقتصادية.
تأتي زيارة الإسرائيليين لتونس، بعد أشهر من الاقتحامات لمئات الجنود الإسرائيليين للمسجد الأقصى المبارك، وهم يحرسون اعتداءات آلاف المستوطنين عليه، ويعتقلون حرّاسه وينكّلون بمئات الآلاف من المصلّين الفلسطينيين، أتت زيارة الإسرائيليين إلى تونس، بعد نشر منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقريرها لعام 2019 حول أحوال الفلسطينيين تحت الاحتلال، وفيه تؤكد على: «مواصلة إسرائيل فرض قيود صارمة وتمييزية على حقوق الفلسطينيين، وتقييد حركة الأشخاص والبضائع من قطاع غزة وإليه، وتسهيل النقل غير القانوني للإسرائيليين إلى المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، واستخدام القوة الفتاكة المفرطة في ردها على مظاهرات الفلسطينيين المطالبة بحقوقهم في غزة. لقد قتلت قوات الاحتلال خلال 4 أشهر 189 متظاهرا فلسطينيا، وأصابت أكثر من 800 شخص.
وفي مايو/أيار أنشأ «مجلس حقوق الإنسان» التابع للأمم المتحدة لجنة تقصّي حقائق للتحقيق في أحداث غزة، لكن إسرائيل منعتها من الدخول. في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية خلال ذات الفترة، قتلت قوات الاحتلال 27 فلسطينيا، وأصابت 444 على الأقل، وحتى 19 نوفمبر/تشرين الثاني، تسببت هجمات المستوطنين في جرح 61 فلسطينيا وتدمير الممتلكات في 147 حادثة. لم يشكّل كل هذا مانعا لاستقبال الصهاينة في تونس، ولا سببا للقائمين على القمة الاقتصادية المنوي عقدها في المنامة (ولا على أسيادهم) لإلغائها، رغم الرفض الفلسطيني العام لها، بما يشكله ذلك من إصرار على تطبيق «صفقة القرن» التصفوية للقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، تصريح فريدمان حول الدولة الفلسطينية الفاشلة، سبب واه تبديه الولايات المتحدة لرفض حلّ الدولتين. ذلك لأن رؤساء أمريكا وإداراتها المتعاقبة، يطرحون دوما هذا السبب، لنأخذ تصريحا لجاريد كوشنر مستشار ترامب، وأحد الذين صاغوا بنود صفقة القرن، ففي إجابته على سؤال لقناة «أتش. بي. أو» التلفزيونية، عما إذا كان للفلسطينيين أن يتوقعوا التحرر من تدخل الجيش والحكومة الإسرائيليين، قال «إن هذا سيكون «طموحا تنقصه الواقعية»، واستطرد إنهم يستحقون تقرير المصير، لكنهم لا يستطيعون حكم أنفسهم.. إنه الأسلوب ذاته الذي تعاملت به واشنطن الرسمية وقادة الكيان الصهيوني، مع المؤتمر الوطني في جنوب إفريقيا، في مرحلة الفصل العنصري، باتهام الحزب المشكّل في غالبيته (95% من السود) بعدم قدرته على حكم جنوب إفريقيا. السبب يحمل في حقيقته جوهرا عنصريا، ونظرة استعلائية فاشية شوفينية استعمارية بغيضة، من خلال اتهام شعب تعداده 15 مليونا من البشر، يشهد له العالم بكفاءته وتميزه في مختلف المجالات، وحاز مناصب مهمة حتى في الولايات المتحدة ذاتها، وغيرها من البلدان.
على صعيدٍ آخر، يستشرس العسكريون السودانيون في المجلس الانتقالي في قمعهم للمعتصمين، الذين يطالبون بتشكيل حكومة مدنية، ارتكب العسكريون مجزرة حصدت أرواح أكثر من مئة مواطن، وأصيب فيها المئات، من حقّنا أن نضع أيادينا على قلوبنا خوفاً على السودان، وأنه قد يذهب إلى حروب أهلية إذا تواصل هذا التشبّث المريض بالسلطة على حساب المصلحة الوطنية. من الواضح أن الشعب السوداني لن يتراجع أمام القمع، وذهب إلى حالة من العصيان المدني، ولكنّ الترهيب متواصل في الشوارع، وتجوب أنحاء الخرطوم ميليشيات النظام، الذي حرم الجماهير من التجمع أمام قيادة الجيش، عبر ممارسة القمع والصرامة التي اتخذت أبعاداً مختلفة من المناورات وحملات التضليل، وفبركة الاخبار، المحمولة على موجة اعتقالات وتنكيل ومحاولات لا تنتهي للتملِّص من مسؤولية المجزرة.

تصريح فريدمان حول الدولة الفلسطينية الفاشلة، سبب واه تبديه الولايات المتحدة لرفض حلّ الدولتين

ويثير الاستغراب هنا موقف حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي، الذي ما يزال حتى اللحظة يُمسِك العصا من منتصفها. دخول رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد على خط الوساطة بين طرفي الازمة المتفاقِمة فصولاً، يُؤشِّر إلى فقدان البُعد العربي دوره في الأحداث السودانية، وإن كان المتابِع يلمح مدى الاستقطاب والعجز والذيلِيّة التي بات عليها الموقف العربي، والذي يعبّر عنه بصلَف، أمين عام الجامعة العربية ابو الغيط، الذي بات والجامعة العربية أسيرا خطّ التبعية، لمحور عربي مُعيّن، عندما دعا في بيان صحافي هزيل أطراف الأزمة السودانية إلى ضبط النفس، وكأنني به مستشرق أو مجرد سياسي أوروبي يساوي بين الضحِية والجلّاد.
أيضاً، شاهد العالم المدرعات التي أرسلتها تركيا مع الأسلحة لحليفها في طرابلس فايز السراج، وقد انخرطت أنقرة مباشرة في الحرب الليبية، التي لا يلوح في الأُفق انها مقبلة على نهاية، بل ربما تأخذ طابعاً أكثر شراسة، بعد أن لم يعد داعمو الطرفين المُتقابِلين يخشون أي حساب أو عقوبات، خاصة أن مجلس الأمن الذي فوّضته جامعة عمرو موسى إسقاط نظام القذافي، واصَل وظيفته المعروفة كـنادٍ للكلام، وباتت عواصم الغرب الاستعماري واشنطن، باريس وروما، تُقرّر قواعد اللعبة، وتأخذ الأطراف الاخرى، خاصة العربية منها، إلى المواقِف التي تريد، لِيقتصِر دورها على التمويل والقيام بأعمال يتعفّف الرجل الأبيض عن القيام بها.
يبدو التدخل التركي إلى جانب قوات السرّاج، التي نجحت في وقف تقدم قوات حفتر، التي تبدو هي الأخرى في مأزق يصعب إنكاره، بعد أن ظن المشير أن هجومه المباغت، سينتهي في سرعة ويدخل طرابلس دخول الفاتحين. الصراع على السلطة والشرعية بين حكومة السراج وتصعيد لهجته وشروطه الرامية إلى استبعاد حفتر تغيّرت، بعد هجومه، على العاصمة، وأن الحوار لن يكون مع حفتر، بل سيكون مع أهالي المنطقة الشرقية. أمّا الشعب الليبي فهو الذي يدفع ثمن الصراع، الذي يَضبُط الغرب الاستعماري إيقاعه كالعادة، فيما لا يتجاوز دور بعض العرب، ما يقوم به الكومبارس.
أيضاً، فإن الخطوة التي أقدمَت عليها جماعة انصار الله الحوثي، بعد انقضاء ستة أشهر على تفاهُمات ستوكهولم، وحظي انسحابها أُحادي الجانب من ثلاثة موانئ في مدينة الحُديدة بترحيب من الأمم المتحدة، خاصة انها كانت ساحة معارك طاحنة، هدأت قليلاً بعد التوصل للاتفاق الذي لم يجد طريقه إلى التنفيذ، في ظل اتهامات مُتبادَلة بالعرقلة وانعدام الثقة بين اطراف الحرب. وإذ أكد بيان الأمم المتحدة أن إعادة انتشار الجيش واللجان الشعبية (أنصار االله) في موانئ الحديدة مستمرة، وفق الخطة الموضوعة، وان فِرقَها راقبت الموانئ الثلاثة لدى انسحابهم منها وتسليمهم إياها إلى قوات خفر السواحل، فإن التشكيك بجدية خطوة الحوثيين ووصف ما أقدموا عليه بأنه مسرحية من قبل الرئيس، مقابِل خطوة أنصار االله التي ستعلن طواقم المراقبة الدولية ما إذا كان انسحابها حقيقياً في الميدان؟ أم انه مُجرد مُناورة، على ما تواصل حكومة هادي اتهامِهم.
من زاوية أخرى، تبقى الأوضاع في الجزائر عمّا هي عليه، وما يزال الفاعلون السياسيون الجزائريون يطالبون، بإجراء حوار مباشر مع المؤسسة العسكرية، بدلا من رئاسة الدولة، على خلفية رفض أغلب الأحزاب الاستجابة إلى الدعوة الجديدة التي أطلقها الرئيس عبد القادر بن صالح، من أجل المشاركة في تشاور وطني، يفضي إلى إيجاد حل للأزمة الراهنة. أكثر من ذلك، يرى ممثلو الأحزاب المعارضة أنه لا حل للوضع الحالي إلا برحيل رئيس الدولة. وتصر المؤسسة العسكرية على ضرورة التمسك بالآليات الدستورية لتجاوز الوضع، اعتمادا على الحوار مع مختلف الهيئات والأحزاب السياسية، لكن بدون أن تكون طرفا مباشرا فيه، وهو الأمر الذي تتحفظ عليه بعض الأطراف. للعلم، يبقى الجيش هو المتحكم الوحيد في خيوط اللعبة السياسية، فيما يجري الآن في الجزائر. جملة القول، أنه لو عاش ابن رشد حاضرنا الحالي، لجاء مؤلفه العظيم «تهافت التهافت» ليس ردّاً على الغزّالي، وإنما وصف لاستشراس أطراف النظام العربي على البقاء في السلطة، حتى لو أبيدت الجماهير عن بكرة أبيها.

قد يعجبك ايضا