د. بهجت سليمان يكتب … حديث الثلاثاء ” 46 ” الحلقة السادسة والأربعون … عاصفة من تطورات السياسة العالمية الأخيرة : معناها ومدلولاتها السياسية ، المحلية والإقليمية ، المباشرة

Image result for ‫بهجت سليمان‬‎

  د . بهجت سليمان* ( سورية ) الثلاثاء 30/4/2019 م …




* مفكر عربي سوري ، سفير سابق في الأردن …

لم يتأخّر الحدث السّياسيّ العالميّ في التّبلور الصّريح و التّجوهر كأحد أهم نتائج “الحرب السّوريّة” و تداعياتها في الوقائع و النّتائج و الآفاق .

1▪ كانت (سورية) تلك المناسبة التي أحيت شهوة السّياسة الإقليميّة و العالميّة للتّعرّي الصّريح من كلّ بقايا التّحفّظات و التّقيّات السّياسيّة التّقليديّة و المنظّمة و المُحكمة و التي خضع لها العالم قبل احتلال ( العراق ) عام ( 2003 ) ، و ما رافق ذلك من تخبّطات دوليّة و إقليميّة في الإضمار و الإفصاح السّياسيين عن المشاريع السّياسيّة الحالّة و القادمة ، بالنّسبة إلى ترجمات العنف العالميّ في ما يتغذّى عليه من دماء و تدمير .

“ضمّ القدس” و “ضمّ الجولان” و إسقاط “الاتّفاق النّوويّ” الإيرانيّ و “قتل السّوريين” و “قتل الفلسطينيين” و “صفقة العصر” و العمل على “إنقاذ” نتنياهو و “إنقاذ” أردوغان .. وحصار ( إيران ) و العقوبات الفاحشة على ( سورية ) و ( إيران ) .. و الإيحاء بتقسيمات “الأمر الواقع” للأراضي و السّيادة السّوريّة ، و نهب ما تبقّى من الاقتصادات السّوريّة في “الشّمال الشّرقيّ” السّوريّ ؛ هي مجرّد ملامح خارجيّة للمصير المعاصر للمنطقة الإقليميّة و تطوّرات الأحداث فيها ، التي لم تعد صناعتها مجرّد نزاع قوى عالميّة ، بقدر ما هي اتّفاقات أو تناغمات صريحة و فجة بين هذه القوى ، التي لا تقيم اعتباراً لأخلاق أو قيم أو عهود و لو فيما بين أصحاب المصالح المتداخلة ، بقدر ما هي انفراد جيوبوليتيكيّ صارخ و عنيف بأملاك و أرواح أبناء هذا المكان ، و كلّ مكان آخر على وجه المعمورة ؛

و إذن ، دعونا نستعرض الواقع العالميّ في أكثر نقاطه و مفصليّاته إثارة للحفيظة السّياسيّة في الخطاب السّياسيّ العالميّ القائم ؛ إذ أنّنا لن نعدم “المسؤوليّة” و ” الدّور” ، و “الوظيفة” المُتَمِّمَة أيضاً .

● ١ – ” المسؤوليّة ” الأميركيّة :

2▪ لم تزل أميركا تمثّل أقصى تغريبٍ للعالم المعاصر عن ذاته و امتصاص روحه و دمه و مقدّراته بمخلوقاتها العلنيّة و السّرّيّة من المعروفين أو المجهولين ، لحماية طاقتها الحيويّة وخاصة اليهوديّة – الصّهيونيّة ، بدءاً من حكّام أميركا و مخلوقاتها الماليين ، وصولاً إلى تطوير الجيل الجديد من شكل مستعمرة الكيان الصّهيونيّ ، و دفعاً بهذا المكان ليأخذ دوره الأسطوريّ بإشعال حرب العالم التّلموديّة العالميّة ، و إحراق ما أمكن من البشر تمهيداً لإخضاع العالم إخضاعاً شاملاً و نهائيّاً ، ثمّ سحقِهِ و الفوزِ بخرافة نهاية تاريخ هذه الأرض و قد تحوّلت حقيقة مُطْبِقَة .

3▪ إنّ النّبوءة السّياسيّة حول مصير الإمبرياليّة العولميّ ، و سواءٌ كانت نبوءة بريئة أم نبوءة مدبّرة و مبنيّة على حقائق ملموسة و مرغوبة ، تتحقّق بصفاقة الفاعلين يوماً بعد يوم ، فيما العالم يتعاجز و يعجز و هو عاجز عن تغيير هذا المسار .

و هكذا ، فإنّ البعض يرى بأن من” الأفضل ” (!) الانضمام إليه بدلاً من الوقوف في وجه عاصفته الإعصاريّة الممزّقة للآمال الطّيّبة ، مثلما هو الأمر بالنّسبة إلى أعاصير أميركا الطّبيعيّة (المناخيّة) منها و الصّنعيّة الافتعاليّة و التّجريبيّة ، التي تُبقي الشّعب الأميركيّ السّاذج الخائف في زريبة الّلجوء إلى دولته و تأييدها و كسب حنانها الأبويّ ، غير مختار بإرادته مصيره ، و ذلك مثله مثل أيّ شعب آخر من شعوب هذه الأرض ..

و قد استمتعت القوى الماليّة الأميركيّة بهذه التّمثيليّة لتمهّد بها طريقها إلى استزراب خرائط الدّنيا ، جميعها تقريباً ، و مِن ثُمّ التّفاوض على البقيّة القليلة الباقية من الجغرافيا غير المؤهّلة للانضمام إلى الحلم – الوهم الأميركيّ .

 

4▪ من السّذاجة القصوى أن ننظر إلى أميركا بوصفها دولة على الطّريقة السّياسيّة المحفوظة في أذهان المتعلّمين أو المكتوبة في مصادر و مراجع الثّقافة العالميّة و التّعليم العالي ، إذ أنّ أميركا ابتدأت و بدأت كحالة و دولة شاذّتين ، و هي لا يمكنها أن تستمرّ إلّا في أجواء هذا الشّذوذ القائم على القتل ، حيث أنّ تاريخ أميركا هو ليس أكثر من تمرين ساديّ دائم و مستمرّ على كيفيّات استئصال البشر و العالم من أجل الذّهب القديم و المعاصر بكلّ أنواعه و أشكاله ، التي تدخل أو لا تدخل في حسبانات و عداد الأرقام في التّاريخ .

غير أنّ المستحدث ، اليومَ ، في النّهج الإمبرياليّ الأميركيّ ( و الغربيّ ، أو البريطانيّ على الحصر ) بالعموم ، هو هذه الفنّيّة المتراجعة و المتهازلة باستمرار بالقهقرة التي تتدنّى يوماً بعد يوم ، في أسلوب ممارسة قبحها التّاريخيّ بازدهاء ، بعد أن لجأت ردحاً من الزّمن التّاريخيّ إلى ادّعاءات و نفاقات “إنسانيّة” ، بحيث أنّ الثّقافة العالميّة التي تخشّبت في لغة الإنسانويّات ، باتت عبئاً على سياساتها و شهواتها الدّمويّة ، معلنة ذلك أو غير معلنة ذلك ، كما هو الطّقس السّريّ الشّيطانيّ الذى يتزوّد فيه حكّام أميركا و العالم بالطّاقة الورديّة من عصارة دمِ الدورة الشّهرية ، التي تتجوّل في شرايين العذارى لتصبَّ ، أخيراً ، في أمعاء “الأسياد” !

5▪ القرن الأميركيّ ، القرن الواحد و العشرين ، الذي حلّ قبل موعده بعقد كامل ، يترسّخ اليومَ بثبات و “نجاحات” لم تكن لتخطر في بال “مفكّري” العالم و “فلاسفته” السّياسيين ، أولئك الذين لا يقوون على التّفكير إلّا من خلال محفوظاتهم العمياء .

لقد بدأتْ للتّوّ الأشواط الأخيرة لمهزلة العنف في التّاريخ ، و لقد دشّنتها أميركا بنجاح منذ القربان الدّمويّ الأوّل الذي تقرّبت به دوائر المال العالميّ في ( وول ستريت ) في ( 2001 ) ، إلى الشّرّ السّرّيّ و الأكثر سريّة ، من أجل استدعائه في صيغة تحضير الأرواح الشّريرة التي تمتطيها القوّة الأميركيّة تقليديّاً ، و بات من الأنجح و الأفضل أن تمارس أميركا ذلك من خلال السّطوع الصّادم لتغريب البشريّة عن ذاتها و التّسليم بالقدر العالميّ الأميركيّ .

و مثلما يُقالُ على القضاء و القدر في الّلغات الفلسفيّة “المنقرضة” ، فلقد استعادت أميركا الدّور “الإلهيّ” المباشر في تفويضها لإنجازها تقبيح الأرض و نزع كلّ علّة و تعلّة جماليّتين منها ، بحيث لا يكون ممكناً لأحد من البشريّة كلّها أن يستطيع الرّهان على العكس .

 

6▪ إنّ أميركا ، بما هي كذلك ، تكشف اليومَ بوضوح “طقسيّ” ، مادّيّ و رمزيّ ، مكشّرة عن أنيابها ، و متيحة ظهور أو إظهار أكبر مَهمّة حاقدة أوكلت إلى كائناتها السّياسيّة “الدّقيقة” و “الخفيّة” و “السّاطعة” و “الفلكيّة” ، و ذلك من أجل الإسراع في دفع العالم إلى حتفه الإنسانيّ ..

بحيث ينبغي على من سيتحدّث في “السّياسة” ، من الآن فصاعداً ، أن يأخذ في اعتباراته ، أوّلاً ، أنّ ما شهده العالم و ما يشهده الآن و الذي سيشهده دوماً ، و اعتباراً من هذه اللحظات الوهّاجة من تأريخ الكرة الأرضيّة ، و كذلك على من تسوّل له نفسه الاشتغال في حقول السّياسة .. إنّما هو أمر عليه أن يتقبّله في فكرة أنّه يحيا ، في فضاء غريب عن ذاته ، و هو فضاءٌ متداخل ، لازورديّ ، و قرمزيّ ، و خلّاب و ماحق للإرادات الوهميّة – و هي الإرادة الإنسانيّة ، بالتّعريف العامّ – و رمزيّ بلاهوتيّة عناصره و أدواته و أداءاته ..

بينما ستكون أقرب و أبسط مخيالاتِ تخيّلهِ تكمن في تقديم فروض الولاء و الطّاعة لأولئك الذين يعيشون سرّاً في الأماكن الأكثر ظلمة ساطعة من وراء التّحدّي الأميركيّ الصّفيق لجميع ما عرفته البشريّة ، أو الذي ستعرفه ، في الأجيال القليلة المقبلة ، من أفكار و أحلام ؛ و ذلك كلّه أو جميعه ليسَ أكثر أو أقلّ من كونه إرضاءً و تطميناً للوحش الإنسانيّ “المثقّف” ، المُترع بالحميّة و الشّغف و الولع .. و النّاقم على حياة جميع الذين صودف أنّهم عاصروا هذا القرن الأميركيّ ؛ و كلّه و كلّ أيّ شيء آخرَ ممكنٍ ، في مقابل بناء جبل المال و السّطوة و السّيطرة ، الأميركيّ – البريطانيّ – اليهوديّ العالميّ ، و تحويل الجنس البشريّ الباقي ، كلّه ، و بدقّة و إحكام ، إلى جنس طريف هو عبارة عن رعاع و “غوييم” ، بالفعل ، حيث أنّ أسهل ما هم عليه ، إنّما هو تقبّلهم و قبولهم و استعدادهم للبطاقة الذّكيّة التي ستصنعها إمبراطوريّة “غوغل” ( Google ) ، قريباً ، لتستقرّ في أدمغة هؤلاء .

و لا تدّخر أميركا وسعاً ، في سبيل ذلك ، من تهديد العالم تهديداً مأساويّاً بالسّيطرة الاستثماريّة الاستعباديّة للبشر ، أو بمحو الجنس البشريّ ، كلّه ، من الوجود على سطح كوكبنا ، الأرض ؛ و هذا عندما تكون العمليّة التّفاعليّة التّكامليّة قد وصلت إلى مرحلتها الحاسمة لإدراكها نواتج التّفاعلات المختلفة ، إدراكاً يجعل منها تخصيباً لليهوديّة السّياسيّة العالميّة و بيوت المال الاحتكاريّة العسكريّة و مصانع الأوبئة و الجراثيم و الفيروسات و السّلاح ؛ كشكل من أشكال ترويض البشر و إعدادهم للنّهاية التي هي ، في الذّاكرة التّلموديّة التّقليديّة ، لحظة تاريخيّة على البشريّة أن تشهدها ، سواءٌ رغبت في ذلك أم لم ترغب .

 

7▪ إنّ التّبادل الجينيّ السّياسيّ ، من أجل “تخصيب” مجتمع عالميّ واحد و خانع و متشابه ، بين أميركا و الصّهيونيّة اليهوديّة – المسيحيّة – ” الإسلاميّة ” ، قد وصل اليومَ إلى أُولى نتائجه المذهلة تلك المتمثّلة في “تعقيم” العقل البشريّ و بخاصّة ذلك العقل الذي اختار سرّاً أن ينظر بشجاعة إلى مشهد العالم المتجلّد ، الجامد ، في بركان !

وصلت أميركا بدعمها للإرهاب و المشاريع الانفصاليّة البدائيّة سياسيّاً ، في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة ، إلى مستوى مُبهر من المفارقة المدهشة ؛ إذ أنّها لا توفّر عناءً ، و لا تسمح بذلك ، لكلِّ من هو من مُحبّي الأسرار المقولة و الممارسة بعلنيّة مباشرة في صيغتها الأكثر نهائيّة و جاهزيّة ، و ذلك إرضاء للحراشفة “اليهود” ، و أعني بهم أولئك الموزَّعين على مطلق أديان و مذاهب و أعراق و عناصر المكوَّن البشريّ العالميّ .

و بكلمات أخرى ، فإنّ تلك “المفارقة” الصّادمة – و المفارقة ، بالتّعريف الذي نقترحه ، نحن ، هي تَنَاجُزُ الشّيء بالّلاشيء أو تناجز الّلاشيء بالشّيء – هي في أنّ أميركا قادرة ؛ و هي ستبقى كذلك ، مديداً ؛ على أن تُنكِرَ أيّ “آخر” عندما يكون الأمر مرتبطاً بالمصلحة السّياسيّة “القوميّة” التّخيّليّة و المنفردة ، و ذلك مادامَ “الآخر” ليس واحداً من عداد المليون من الأميركيين أو من باقي كائنات العالم ؛ في الوقت الذي لا يمكن لأحد أن يتخيّل أنّ أميركا ، بقوّتها الفاعلة ، قادرة على أن تكون دولة بدلاً من عصابة عالميّة مسيطرة ، و هي الأقوى على مرّ التّاريخ ، حتّى اليوم .

● ٢ – الدّور الأوروبّيّ الغربيّ – بريطانيا ، كمثال :

8▪ في إطار الحديث عن ” المسؤوليّة” الأميركيّة التي أخذتها كعهد على نفسها ، يمكن أن نتحدّث على أدوار أوربّيّة هزيلة ، أو دور أوربّيّ تابع و ذَيليّ للمسؤوليّة “التّاريخيّة” الأميركيّة(!) ؛ و ذلك باستثناء بريطانيا التي تشكّل ، و ما زالت ، ليس بيت الخبرة لأميركا فقط ، بل المرجعيّة اليهوديّة الصّهيونيّة للقرار السّياسيّ المَلَكِيّ الشّامل للعالم ، تقليديّاً ، بما في ذلك جميع أديان الأرض و “أديان السّماء” التي دخلت ، عن طريق الدّور البريطانيّ ، مرحلة التّصَهيُن الاختياريّ منذ ما يزيد على بضع مئات من السّنين في التّاريخ .

يعود الثّقل البريطانيّ – عدا عن أنّ بريطانيا قد كانت ، فعلاً و عملاً ، الإمبراطوريّة الاستعماريّة “التي لا تغيب عنها الشّمس” ، كما قيل – إلى أنّ بريطانيا هي مهد “التّنوير” ، الأوّل ، و السّابق و الموافق و الآمر في “التّنوير” الفرنسيّ ، و العالميّ الغربيّ ، فيما بعد .

9▪ لا يمكن فهم “التّنوير” السّياسيّ الحداثيّ ، عمليّاً ، من دون أن ندرجه في سياقه التّاريخيّ السّياسيّ الطّبيعيّ ، كإنجاز عالميّ موحي و قائد و مرشد ، من جهة أنّه هبة “يهوديّة” – و ماسونيّة – و هديّة للعالم ، في وقت واحد ! له مقرّه السّابق و الحالي و الدّائم في بريطانيا – اسكوتلندا على وجه الحصر .

و إذا اعكفنا على تأمّل هذه “الحقيقة” الثّابتة ، فإنّ علينا أن ننتبه إلى كلّ إطلاق في صورة العولمة الأميركيّة المضارعة ، من أنّه إطلاق تضمّنيّ أو تضمينيّ ؛ و ذلك بسبب الدّور البريطانيّ المستمرّ في الحياة السّياسيّة الأميركيّة و العالميّة ؛ بحيث لا يُضاهي بريطانيا بهذا الدّور سوى الدّور السّياسيّ المكثّف “الإسرائيليّ” الإقليميّ و الغربيّ و الأميركيّ العالميّ ، بوضوح .

● ٣ – الدّور ” الإسرائيليّ” :

10▪ إنّ تبادل المنفعة ، الذي تحكمه – بإتقان – بديهيّات العلاقة الأميركيّة – “الإسرائيليّة” ، هو أمرٌ شائع و معروف . لكن غير المعروف عنه ، هو في أنّه “تبادل” معقّد و غير ثابت و غير نهائيّ و غير قطعيّ ، و ذلك على رغم الصّدمة التي قد تنتاب القارئ جرّاءَ هذا الواقع الذي نشير إليه .

يعود الأمر في “المسؤوليّة” السّياسيّة التّاريخيّة الأميريكيّة ، و تبنّيها للدّور “الإسرائيليّ” ، الإقليميّ و الدّوليّ ، لذلك الوجود المتشابه لكلتا “الدّولتين” ، أميركا و (“إسرائيل”) .

و فيما يكون الانفراد ، و في كلّ مرّة يستقلّ القراران السّياسيّان عن بعضهما في كلتا “الدّولتين” ، فإنّنا نشهد “أزمة” ما ، مؤقّتة و عابرة ، لولا أنّه ما من موقف سياسيّ أو قرار سياسيّ أو ذكرى سياسيّة في علاقات هذه الخيارات الاستراتيجيّة بالنّسبة إلى كلتيهما ، يمكن أن يُمحى أو يُنسَى أو يزول ، و ذلك عندما تستيقظ نزعة “الاستقلاليّة” السّياسيّة التي تتنامى في علاقات الكيان الصّهيونيّ بأميركا .

و على رغم ذلك ، فإنّ طبيعة القرار السّياسيّ الأميركيّ المتبدّل جزئيّاً في سياسات “الرّؤساء” الأميركيين ، يَمنح المناخ السّياسيّ في علاقات “الدّولتين” حساسيّة مركّبة ناجمة عن تباين “المصالح” أحيانا ، هذا مع العلم أنّ ما يجمع مثل هاتين “الدّولتين” في حلف معاصر عميق الأفكار المشتركة ، و مُركّبُ الأدوات ، و معقّد النّوايا المُبيّتة في خلفيّات الاختلاف و الوفاق ؛ إنّما هو خلاف عميق حول التّوقيت الذي يتضارب اختياره بينهما في الرّهان و الأداء على الإطباق على بقيّة العالم ، و ذلك كمثال ما نراه اليوم في اشتمالات جديدة للصّهيونيّة العالميّة الممثّلة بـ (“إسرائيل”) على ما تبقى من الأمل العالميّ بمستقبل للإنسانيّة في الحرّيّة و العدالة و الأمان .

11▪ ما من سياسيّ عاقل أو حصيف ، اليومَ ، إلّا و يدرك طبيعة و مدى الاقتران العضويّ و المصيريّ في علاقات أميركا و (“إسرائيل”) ؛ غير أنّ القلّة من هؤلاء من هم يستطيعون إدراك التّناقض القائم – و التّناقض هو غير التّقابل أو التّضادّ – في طبيعة الجوهريّ من الأفكار و المصالح ، ما بينهما ، و الأهداف النّهائيّة ، و هذا على رغم كلّ ما يظهر من العكس على التّحديد .

على كلّ حال ، فإنّنا نرغب هنا أن نثبّت في الخبرة العامة ، فكرة أنّه يلعب عامل الشّعور بالالتزام المتبادل عالي الشّعور بالواجب المفروض فرضاً على الإدارات الأميركيّة ؛ و هذا من الجانب الأميركيّ ؛ مع ما يتواجه ، وجهاً لوجه ، من الحاجة “الإسرائيليّة” الشّديدة و الوجوديّة إلى أميركا ؛ و هذا من الجانب “الإسرائيليّ” ..

أقول يلعب ذلك الواقع دوراً منفّراً في حقيقته ، و لو بصمت له ضجيج ؛ لا سيّما في الإطار العامّ الذي تمثّل فيه الالتزامات الأميركيّة معاناة سياسيّة تاريخيّة ضاغطة بقوّة “الّلوبي” اليهوديّ الأميركيّ الموزّع في جميع طبقات و مستويات القرار السّياسيّ الأميركيّ .

يخطر في أروقة السّياسة “الإسرائيليّة” استقلاليّة غنوج و مدلّلة إزاء الالتزام الأميركيّ الضّاغط على جميع مستويات القرار الأميركيّ ، في الوقت الذي تتباين فيه التّعاطفات الأميركيّة مع الكيان الصّهيونيّ ، و تتعلّق ، عادة ، بإيمانات و قناعات الرّؤساء الأميركيين الشّخصيّة ، و التي هي قلّما تتطابق مع الوجوديّة و “الوجدان” الإسرائيليين ، إلّا في الوقت الذي تسبق فيه الأهداف الأميركيّة الطّموحات “الإسرائيليّة” و تتجاوزها ، بالنّسبة إلى منطقتنا الإقليميّة ، إلى أهداف أميركيّة خالصة ، و المثال الأقرب إلى هذه الحالة ، هو مثال إدارة الرّئيس الأميركيّ الحاليّ ( دونالد طرامب ) ، و بخاصّة سياسته نحو السّعوديّة و إيران و منطقة الخليج ، على التّحديد .

في الأغلب الأعمّ فإنّها تجري ابتزازات “إسرائيليّة” للسّياسات الأميركيّة ، و ليس العكس ، فيما تتبلور هذه الحالة بوضوح عندما تستغني أميركا مرحليّاً أو جزئيّاً أو نسبيّاً عن خدمات (“إسرائيل”) في المنطقة ، و ذلك عندما تحضر أميركا بالأصالة و الوكالة و النّيابة عن نفسها ، كما تفعل اليوم . و في مثل هذه الحالة فإنّ ضرباً من الارتباك الصّريح يسود السّياسات “الإسرائيليّة” ، بل و ربّما تسبّب لها مثل هذه الحالات حرجاً سياسيّاً داخليّاً في أوساط الرّأي العامّ “الانتخابيّ” ، و في مفاصل سياسيّة و منعطفات “إسرائيليّة” حادّة ، كما هو عليه الأمر ، أيضاً ، اليوم ، و ذلك كما كان الحال في استماتة (نتياهو) من أجل تجنّب إجراء انتخابات نيابيّة مبكّرة ، ومن ثم ضمان النجاح فيها ، و عمله على توسيع دائرته السّياسيّة الاستراتيجيّة لتشمل روسيا ، اليوم !

12▪ في هذا المناخ السّياسيّ ، لاحظنا – كما قد لاحظ الجميع.. – كمّيّات الدّعم الأميركيّ للكيان الصّهيونيّ و لـ (نتنياهو) ، بالتّحديد ؛ و لكنّ المتعمّق في هذه الحالة و المتأمّل فيها جيّداً ، يدرك أنّ الكسب الشّامل الأميركيّ هو أكبر من الكسب السّياسيّ “الإسرائيليّ” ، و ذلك ما يتجوهر من هذا الموقف الأميركيّ من “مصلحة” أميركيّة قوميّة عليا ، في التّواجد الأميركيّ مختلف الأشكال و الأحوال و الأسباب و الأهداف المباشرة ، بالأصالة ، عندما نتذكّر كيف واجه ( طرامب ) العجز الماليّ الأميركيّ بابتزاز محميّات النّفط في منطقة الخليج ( و في العراق ، أيضاً ! ) ، و كيف باشر العداء الأميركيّ لإيران و روسيا و سورية و ( لبنان ! ) ، بعد أن كانت أميركا قد خسرت لها مواقع متقدّمة في المنطقة بسبب التّواجد الرّوسيّ المباشر و الذي حال دون استئثار أميركا بالجغرافيا السّياسيّة للإقليم .

غير أنّ نتنياهو ، هو أيضاً ، عمل مباشرة على استثمار ظهيره الأميركيّ في المكان و شنّ سياسة تحدٍّ مباشرة لإيران و لسورية معاً و الحلفاء في “المقاومة” ، مستثمراً فرصة ضائعة لولا المغامرة الأميركيّة المتطرّفة في المكان ، دعماً للإرهاب و الانفصاليين الأكراد ، كإحدى أهمّ الأوراق التي يتمسّك بها الأميركيّ ضماناً لعدم انفراد روسيا في أجواء “الحرب السّوريّة” مترامية الأحداث و الآفاق و التّوقّعات و الاحتمالات .

و في كلّ حال ، فإنّ ما يهمّنا ، هنا ، الآن ، هو الدّور السّاخن للكيان الصهيونيّ كإحدى تداعيات “الحرب السّوريّة” التي تتفاقم باستمرار نتيجة ظهور مصالح “الجميع” و الإعلان عنها بكلّ وضوح من قبل أصحابها و أطرافها المتعدّدين ، و أحياناً المختلفين ، و في أحيان أخرى المتوافقين أو المتقاطعين أو المتواطئين !

● ٤ – الوظيفة و الدّور ، التّركيّان :

13▪ شكّل ( أردوغان ) ، في تركيا ، أحد أهمّ التّحوّلات المعقّدة في السّياسيّة الإقليميّة ، و ذلك على عكس ما يبدو عليه المشهد في رغبات الرّاغبين .

و على رغم أنّ أردوغان كان أكبر محرّض و مسهّل للإرهاب و الإجرام في (سورية) من قبل عصاباته المدعومة منه مباشرة ، أو تلك العصابات التي كان قد شكّل بالنّسبة إليها مقرّاً تدريبيّاً و ممرّاً لوجيستيّاً و مكاناً آمناً و دعماً غير مباشر أيضاً ..

فيما كان توهّم الأداء السّياسيّ الرّوسيّ المحدود قد توجّه مباشرة إلى مظنّة “ترويض” أردوغان ، و هو ما أنتج العكس في حمايته الدّبلوماسيّة و السّياسيّة في وقت واحد ، و ما شكّل دعماً له ، و بخاصّة منذ زيارة ( بوتين ) الأخيرة إلى تركيا التي جاءت في توقيت ثمين جدّاً بالنّسبة إلى أردوغان في أجواء “تراجع”(!) نسبة شعبيّته في الشّارع التّركيّ و الأوساط الاجتماعيّة و السّياسيّة التّركيّة الأخرى ، اليوم .

يقوم أردوغان ، اليوم ، بأخطر تمثيليّة تظهره أنّه واقع تحت ضغوط مختلفة و تجربة شراكات جديدة في آن معاً ، في الوقت الذي يحصد أردوغان فيه النّجاح وراء النّجاح في كلّ ما يرغبه من “الشّرق” و “الغرب” و “الإقليم” ..

ويسعى أردوغان ليكون الفائز الأكبر في قلب هذه المعمعة ، مضافة إليه (“إسرائيل”) ؟!

14▪ ثبّت الأكراد ، بدعم أميركيّ ، حضورهم الانفصاليّ الأرعن و الرّاهن عن سورية ، و هو ما قُدّم على أنّه ضربة سياسيّة كبيرة لأردوغان ، كعقوبة أميركيّة مقنعة و ناجحة الإخراج موجّهة إليه ، ظاهريّاً ، مباشرة لتسويغ سياساته ذات التّوجّهات التّجريبيّة الأولى مع روسيا ، و استمراراً لعلاقاته المعاصرة المهادنة و المتعاونة مع إيران .

و في هذا المضمار يجري التساؤل : هل أميركا و أردوغان هما من يحتوي روسيا ؟! ، و ليس العكس الذي تتوهّمه روسيا من أنّها تحتوي أردوغان و تبعده عن أميركا ، في الوقت الذي تتفهّم أميركا خطوات أردوغان الجديدة .

و بضمانة كلّ ما قدّم أردوغان للإرهاب الأميركيّ من خدمات ، فإنّ طرامب مرتاح للتّوجّه التّركيّ نحو روسيا ، و هو الأمر الذي حدا بأردوغان إلى أن يمثّل أمام الرّوسيّ أنّه يهرب ، خائفاً ، إلى الأمام ، فيما كانت روسيا المخدوعة به و من قبله ، إلى جانبه بمختلف أنواع الدّعم سواءٌ بالسّلاح الدّفاعيّ المعاصر الجديد أو بالدّعم السّياسيّ و توهّم الاحتضان المباشر له في وجه الاحتضان الأميركيّ الحميم للكيان الصهيونيّ في فلسطين ..

و كان آخر مثال للدّعم الرّوسيّ الموسّع لأردوغان ، تلك الزّيارة الأخيرة التي نفذّها بوتين إلى تركيا مؤخّراً ، فإذا بها إعلان ظاهريّ لدعم أردوغان في وجه السّياسة الأميركيّة التي تمثّل بأنّها ضحّتْ مؤقّتاً بالدّور التّركيّ و حوّلته ، أمام روسيا ، إلى وظيفة سياسيّة مُلحقة لم تنل المباركة الأميركيّة المتوقّعة أو المطلوبة تركيّاً ، و بخاصّة عندما أظهرت أميركا نحو أردوغان العداء السّياسيّ المباشر في مشكلة الأكراد الانفصاليين ، فيما عملت أميركا على استخدام الأكراد السّذّج في هذه المسرحيّة لإبقائهم تحت السّيطرة ، لدفع روسيا إلى الطّمأنينة السّياسيّة الّلازمة لتبنّي أردوغان في وظيفته التي تتظاهر أنّها تضاءلت إلى درجة التّقزيم و المَسخ ..

و هذا ممّا يجعل روسيا – حتّى الآن ! – تخسر موقفاً تاريخيّاً في مناسبة “الحرب السّوريّة” ، مع أميركا و تركيا ، في الوقت الذي تنشأ مواجهة أميركيّة جديدة ، في الميدان السّياسيّ وجهاً لوجه ، و هو ما تحتفي به روسيا بوتين بغفلة – ربّما ! – بعلاقات ذات طبيعة اقتصاديّة حماسيّة مع أردوغان ، بعد أن أنهت “الحرب السّوريّة” العزلة الجليديّة الرّوسيّة إلى الأبد !

15▪ يمثّل أردوغان أنّه يراهن بصراحة على مناخ علاقاته بإيران و روسيا في المنطقة ، ممّا سيترك أثراً إيجابيّاً وهميّاً ، و هو الأمر الذي سيزيد من حضور أردوغان ، و تموضعه تموضعاً ثقيلاً في السّاحة السّياسيّة الدّاخليّة التّركيّة و السّاحة الأوربّيّة و الأميركيّة معاً ، و قريباً جدّاً ، عن طريق دعم روسيا له بلا حدود .

طمح أردوغان إلى دور رئيسيّ في “الحرب السّوريّة” ، و هو ما تهّيّأ للبعض أنّه لم يحرزه بدعم مطلق من قبل أميركا ، حيث بدأ بدور فاعل في الإرهاب الموجّه مباشرة إلى سورية ، ليضيف إليها تحقيقه نصراً في وظيفة مضافة ، و لو أنّه رافقها بعض المخاطر بالنّسبة إلى تصوّراته و رغباته على الإقليم ، و ربّما في الدّاخل التّركيّ السّياسيّ ، أيضاً .

● ٥ – الدّور الإيرانيّ :

16▪ انخرطت إيران مبكّراً في “الحرب السّوريّة” لتقديرها خطورة الموقف و بداية تضعضع الوضع الميدانيّ في سورية أمام حملة جريمة إرهابيّة عالميّة معاصرة بأدواتها ، واسعة التّمويل و التّدريب ، و بمساحة فضائيّة و تَقنيّة فائقة من الدّعم الإعلاميّ المرتزِق .

وأدركت إيران مبكّراً الخطر الدّاهم على سورية و عليها و على “محور المقاومة” كحالة شاملة . و إذ اتّخذت إيران مواقف سريعة و شجاعة و مخلصة ، تنمّ عن مسؤوليّة إقليميّة دفاعيّة ليس منها محيصٌ ؛ فقد كانت ذات دور محوريّ و جوهريّ و إيجابيّ و فاعل في “الحرب السّوريّة” ، لا يقوى التّاريخ على نسيانه أو تجاهله ..

و هو الأمر الذي ظهر في مواقف مختلفة إلى جانب سورية ، عسكريّة و اقتصاديّة و سياسيّة و دبلوماسيّة ، فاعلة ، ما جعل دورها منظوراً من قبل أميركا هذه التي لم تعدم فيه الحيل لمعاقبة إيران بشتّى السّبل ، و بخاصّة منها ذلك الحصار الأميركيّ لإيران بمختلف العقوبات الاقتصاديّة الإرهابيّة السّياسيّة الإمبرياليّة الجبانة و الحاقدة ، و هو الأمر الذي جعل الدّور الإيرانيّ أكثر حضوراً بالنّتائج و لو أنّه شكّل بالنّسبة إليها أخيراً خسارات متوالية و متعاقبة ، لم تأبه لها إيران على رغم أنّها خسارات موجعة في الدّاخل الإيرانيّ ، و كذلك بالنّسبة إلى سورية التي خسرت الكثير في تعاضدها مع التّعاطف الإيرانيّ المباشر و الفاعل و من شتّى الأنواع و الصّنوف .

17▪ و على رغم الموقف الأميركيّ و “الإسرائيليّ” المعادي مباشرة للشّعب و الدّولة في إيران ، فإنّها لم تتنازل عن دورها الإقليميّ الرّئيسيّ ، بصفتها دولة إقليميّة أُولى و وازنة أدركت قيمة و أبعاد الدّور الموضوعيّ المترتّب عليها في صراعات “الحرب السّوريّة” .

و مع ذلك فإنّ لإيران نقطة ضعف سياسيّة صريحة في علاقتها مع تركيا ، في مناسبة انخراط إيران في “محور المقاومة” هذه العلاقة التي ليس لها أيّ ملمح ذي حضور إقليميّ أمام حضور تركيا الذي يستثمر في “الغرب” و “الشّرق” .. ، و في “الشّمال” و “الجنوب” !

18▪ تعاني إيران اليوم من حصارات اقتصاديّة و سياسيّة جدّيّة بسبب السّياسات الأميركيّة العدائيّة نحوها ، و كذلك بسبب السّياسات الرّوسيّة المتناغمة – أو التي تبدو على الأقل ” متناغمة ” – مع الرّغبة الأميركيّة و”الإسرائيليّة” ، ضدّ التّواجد الإيرانيّ العسكريّ في سورية ، و قضايا أخرى مختلفة و متعدّدة أهمّها أنّ أميركا و روسيا قد تتقاطعا بمصلحة عدم تفوّق دولة إقليميّة مثل إيران ، على اعتبارها لا يمكن أن تدخل تحت السّيطرة .

و بسبب هذا الوضع الإيرانيّ المعقّد و الصّعب ، فقد انعكس على سورية ما يُشبه الفراغ الإقليميّ و الدّوليّ ، و هو ما أدّى إلى تأخير حسم المعركة الأخيرة ضدّ الإرهابيين و المجرمين و الانفصاليين ، و دحر آخر عصابات هؤلاء في الشّمال و الشّمال الشّرقيّ السّوريّ ؛ بالإضافة إلى ما انعكس تراجعاً في أثر العلاقة الاقتصاديّة الخاصّة بين سورية و إيران .

● ٦ – الدّور الرّوسيّ :

19▪ بدلاً من استثمار اللحظة السّياسيّة التّاريخيّة النّادرة ، فإنّه يبدو أنّ روسيا قد اكتفت بدور إقليميّ دفاعيّ محدد ، قياساً بالهجوميّة الأميركيّة العلنيّة و العربدة “الإسرائيليّة” العسكريّة الحربيّة المتواصلة و التي تشكّل جزءاً جوهريّاً من العقيدة القتاليّة السّياسيّة “الإسرائيليّة” .

20▪ لم تكن روسيا – أو حتّى الاتّحاد السّوفييتيّ – يوماً ، عدوّة لـ (“إسرائيل”) . و هذا باعتراف كبار المفكّرين السّياسيين الرّوس أنفسهم ، و ذلك بسبب الحضور اليهوديّ الضّاغط ، تاريخيّاً ، في روسيا ؛ و هذا على الأقلّ !

وذلك رغم أن (“إسرائيل”) اعتبرت ، بصراحة العبارة ، روسيا عدوّاً لها ينبغي مواجهته .

ترك سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ المدوّي ، عقدة دونيّة روسيّة أمام (“إسرائيل”) و أميركا ، مع استغرابنا لمن يرى الأمور أبعد أو أقصر من ذلك ..

و هذا في حالة استثنينا ، هنا ، العلاقات الأميركيّة الرّوسيّة “الإسرائيليّة” من نظريّة “المؤامرة” لتوازع العالم المعاصر ..

فيما تنشغل الصّين بمشاكل التّنمية و الهندسة الاجتماعيّة و السّياسيّة لسكانها الذين يطرقون أبواب المليارين من البشر !!؟

من الصّعب حسم قضيّة أنّ الدّور الرّوسيّ قد اكتفى جيوبوليتيكيّاً بإطلالته على البحر الأبيض المتوسّط ، في الوقت الذي تغرينا فيه الوقائع المباشرة – ( و هذا خارج إطار إحاطة السّياسات الدّوليّة و العالميّة بالألغاز و الإلغازات الأسلوبيّة في الأداء ! ) – لكي نقرأ هذه القراءة المغرقة بالواقعيّة ؛ في الوقت الذي أثبتت فيه سياسات الدّول ، “الجيوبوليتيكيّة” ، في القرن العشرين ، المنصرم ، أنّها غالباً ما تُنجز تناقضات حقيقيّة تؤدّي إلى خسارات استراتيجيّة في الهيمنة أو في الفاعليّة العمليّة بالحضور السّياسيّ ، في عالم يتواجه في ما بينه بسياسات القوّة الصّريحة من غير أسرار أو مخاتلات صعبة التّفسير ..

الّلهمّ إلّا في حالة واحدة و وحيدة ، من الاتّفاقات التّواطؤيّة الضّمنيّة المقولة أو المتفاهم عمليّاً عليها ما بين “الأقوياء”(!) على تقاسم ما هو أبعد من النّفوذ العالميّ ، أي إلى الاتّفاقات و الاتّفاقيّات الاعتباريّة الدّوليّة الكبرى على تقاسم استثمار الكرة الأرضية !.. وهذا يبقى احتمالا ياخذه الكثيرون بالحسبان .

21▪ في كلّ حال ، فإنّ علينا أن لا نغفل عن حقيقة أنّ لروسيا “مطامح” جديدة معاصرة ، تواكب “الأطماع” الإمبرياليّة الغربيّة – الأميركيّة التّقليديّة ، وإن كانت تختلف عنها ، في الوقت الذي علينا أن لا ننظر إلى هذا الأمر نظرة سياسيّة تقليديّة ، في أن نعمل على اتّهام روسيا ، على اعتبار أنّ روسيا في حالة مواجهة تاريخيّة و ثقافيّة و حضاريّة مع الغرب الأوروبّيّ و الأميركيّ ، و هذا شأن معروف و مفهوم لدى الجميع .

و لكنّنا في هذه الحالة علينا ، أيضاً ، أن ننظر إلى “الدّور” الرّوسيّ نظرة “متواضعة” ، بالمقارنة مع “المسؤوليّة” الأميركيّة العالميّة التي تنظر فيها أميركا إلى نفسها ، على طريقتها الإمبراطوريّة البربريّة ، و هو الأمر الذي يؤخر و يعقّد على نحو أكبر الخَلاصَات و الخُلاصات النّهائيّة للحرب السّوريّة التي هي اليوم محور العالم المعاصر .

22▪إنّ الاصطفاف الرّوسيّ اليوم في الدّور الذي نتحدّث عليه ، هو ممّا يُضعف الفاعليّة الرّوسيّة الإقليميّة و العالميّة ، و نحن نستطيع تلمّس هذا الواقع إذا قارنّا موقف روسيا من تركيا مع موقف روسيا من إيران و سورية ، في نسيان و تجاهل للدّبلومايسيّة الرّوسيّة التي نشطت في السّنوات القليلة الخالية في “أستانة” و “سوتشي” و ما إلى ذلك من قدرات ضائعة في العلاقات المتوازنة في المنطقة الإقليمية ، بخاصّة ، و التي تحيط بالحرب السّوريّة في الجغرافيا و المكان .

● ٧ – و أخيراً ، سورية :

23▪من الصّعب أن نبدّل أيّ مصطلح سياسيّ أو غير ذلك ، بمصطلح “الحرب السّوريّة” ، الذي أصبح واقعاً عالميّاً لا يخفى على أحد . و يكاد هذا المصطلح أن يضمّ إلى جانب “الحرب على سورية” ما من شأنه أن يكون “الحرب في سورية” و ” الحرب على سورية ” و ” الحرب مع سورية ” و “حرب العالَم” في سورية ، بوضوح .

في هذا الإطار تبدو صورة الواقع المدمّر في سورية ، ضرباً من اختزالات الحرب العالميّة المعاصرة ، و “الأدوار” المتبادلة ، للجميع ، و الوظائف المختلفة ، أيضاً ، و ذلك من دون أن نغفل مطامع و أطماع الآخرين بمصالح تجاوزت و تتجاوز المفهوم الاتّفاقيّ لبحث الدّول على متّسع لها من المصالح و المجالات الحيويّة ؛ في وقت تتّسع فيه الفجوة ما بين مصالح الآخرين ، و بين آلام و فظائع و خرابات و دماء و معاناة السّوريين !

 

24▪ تشكّل سورية اليوم نموذجاً تاريخيّاً فريداً للصّراعات الإقليميّة و الدّوليّة و العالميّة ، ضمن ما عرف بـ “محور المقاومة” في المنطقة ، و الذي كان كافياً ، حتّى الآن ، للحفاظ على بقايا أمل و ضوء مستقبليين ، يمنعان محو الإنسان المشرقيّ – السّوريّ – الإقليميّ ، في “المحور” المذكور .

في المسائل الجديدة و المباغتة ، يحتاج القرار إلى الكثير من الشّجاعة التّاريخيّة التي تختزل العقلانيّة و الموضوعيّة و المعاليم و المجاهيل ؛ و في السّياسة ، فقط ، يغدو هذا المُعامِل ضروريّاً و يكاد يكون مطلقاً ، لما له من معانقة المطلق من جرأة على الإقدام .

و حيث أنّه ليس ثمّة هنالك من لا يخاف ، فإنّ العبرة هي في تعميم “الخوف” الجدّيّ على جميع أطراف العلاقة الحاكمة في التّحدّيات و الصّراعات ، إنْ كان ذلك على مستوى الأفراد أو كان على على مستوى الدّول .

من الطّبيعيّ أنّ الدّعوة إلى الإمعان في الحرب ، ليست دعوة مسؤولة ، في الرّأي ، و لا تنمّ عن الشّجاعة المطلوبة في مثل هذه الأحوال ؛ غير أنّ العكس ليس في الإذعان المجانيّ لنتائج حرب سدّدت فيها سورية و “محور المقاومة” الكثير ممّا تحبّه الذّاكرة أو ممّا تكرهه و تأنفه ..

و على هذا الأساس فإنّ الصّمت السّياسيّ على الحقوق الوجوديّة للشّعوب و الأمم و الدّول ، لا يقدّم و لا يؤخّر في الحلول المطلوبة للمسائل المستعصية ، بقدر ما يُحدث المزيد من الآلام و الهوانات و لو كان ظهورها يأتي تباعاً في التّاريخ .

لقد سدّدت سورية و حلفاؤها أثماناً كثيرة في الدّفاع عن المكان و عن المنطقة و عن العالَم ، لقاء الأمل في انتصار مشرّف و ليس في نهاية بائسة و مؤذية إلى الأبد ..

و لهذا كان على سورية أن تطوّر من أدواتها في النّظر إلى الوقائع و التّحدّيات ، هذا و لو كلّفها الأمر إعادة صياغة لتحالفاتها و شراكاتها أو التّلويح بذلك في وضع جادّ و جِدّيّ .

25▪ و أمّا و قد نشطت الدّبلوماسيّة الإقليميّة الجديدة بعُدّةٍ سياسيّة جديدة ، تركيّة و روسيّة ، فإنّ خطر فرض تصوّرات الآخرين على حلول النّهايات ، تزداد فرصه ، تدريجيّاً ، و هو ما يجعل الموقف السّوريّ ؛ الذي هو – بحكم الواقع – جماع دور و وظيفة و تحدّ وجوديّ تاريخيّ ، في صراع غير متكافئ مع “العالَم” ؛ موقفاً يزداد في التّعقّد و التّأزّم يوماً بعد يوم ، و ذلك بسبب ما طرحته الحرب و مسيرتها المزمنة و القابلة للاستدامة و الدّيمومة ، و يحتاج إلى التّأمّل السّياسيّ الذي لا تخامره العادة و لا يصرعه التّعوّد .

و عندما نكون مقبلين على حالة سوريّة ليست مضمونة و لا محسومة ، بعد ، فإنّ ما يتقدّم كلّ فكر إنّما هو واقعيّة المضمون و حرفيّة الحقائق ، مع العلم أنّ هذا الأمر لا يضرّ بأيّة دبلوماسيّة مفروضة على سورية ، و ذلك ليس بحكم التّقاليد ، فقط ، و لكنْ أيضاً بحكم مراكز القوّة العالميّة و الإقليميّة المباشرة .

26▪ ليس من العدل أن ننظر إلى أنفسنا في سورية على أنّنا ، بواقعيّة و عموميّة شاملة ، على ما يرام .

و لهذا فإنّ عادة إعادة صياغة قيمنا السّياسيّة العمليّة هو شرط حيويّ ، و يقابل بالنّسبة إلى الآخرين جميع ضروب “البراغماتيّات” التي تصلُ إلى حدّ تسويغ الكارثة و تجميل القبح و ترويض الضّمائر و حذف الشّعور و تسخيف ما تبقّى من أهمّيّات نوعيّة حالّة و محقّة ، من أجل تسوية كلّ شيء بكلّ شيء .

لا تعني ، في رأينا ، السّياسة أنّها ترحالٌ دائمٌ في المتغيّرات ، و إنْ كانت ثوابتها شيئا من الأمنيّات .

و على هذا الأساس فقط ، فإنّ ما يبدو لنا في هذا الوضع السّياسيّ الإقليميّ خطِراً ، فإنّه ، أيضاً ، يجب أن لا يستمرئ الكارثة .. ليتحوّل إلى قدر مزيّف للمكان .

قد يعجبك ايضا