حديث الثلاثاء – الحلقة الأربعون ” 40 ” …  في صراع الرمزيات .. والمركزيات  .. هوية التأويل .. أم هوية التفسير / د. بهجت سليمان

Image result for ‫بهجت سليمان‬‎

 د . بهجت سليمان* ( سورية ) الثلاثاء 19/3/2019 م …




1▪ يتراوح صراع الأيديولوجّيات ما بين الجريمة و الصّمت ، في سلسلة خيارات غير محدّدة أو منصوص عليها في ”أخلاقّيات” السّياسة هذه ، التي تختلف بالأصل عن الكثير من الّثوابت الأخلاقّية المبحوثة في العلوم النّوعيّة ، التي تتناول قواعد التّناقضات المختلفة و المغايرة و طبيعتها و درجة عنفها و شموليّاتها في الفعل و في النّتيجة و في الأثر .

و لا يقف الأمر ، هنا ، عند أزمة الفكر الّنظريّ و مدوّنات السّياسة ، بل يتعدّاه ، عمليّاً ، إلى ميدان الصّراعات المادّيّة التي تنشأ في ظروف التّحدّيات الاجتماعّية – السّياسيّة في مراحل التّحوّلات الدّراماتيكيّة التي يشكل فيها العنف الرّاديكاليّ أساساً و جوهراً للخلاف .

2▪ لا مانع دائماً من أن نعود إلى ( ماركس ) بوصفه منظّراً سياسيّاً حول الصّراع و العنف الطّبقيين ( أي : في الاجتماعيّ – السّياسيّ ) ، من جهة أنّ التّناقضات الحادّة التي تصل ذروتها في العنف الاقتصاديّ و السّياسيّ ، هي ليست أكثر من تطوّر تاريخيّ لتقسيم العمل الذي بدأ جوهريّاً – كما يقول (ماركس) – في ”الأيديولوجيا الألمانّية” (و في مخطوطات 1844 ، أيضاً ) – ”من تقسيم العمل في عمليّة النّكاح” ..

بمعنى أنّ العنف في الصّراعات المختلفة و النّاشئ أصلاً عن ”تقسيم العمل” بمفهومه الواسع ، إنّما هو شيء ، علاوة على كونه طبيعيّاً ، هو ضروريّ أيضاً ، بمعنى أنّه يبقى منتمياً إلى عمق حركة التّاريخ ..

و في هذا السّياق ، بالضّبط ، نحن علينا التّمييز ما بين مركزيّات المفاهيم في ”الممارسة” ( البراكسيس ، على ما نعرّفه ، عادة ) ، و بين رمزيّاتها المتخفيّة في مظاهر أو ظواهر لا توحي مباشرة بحقيقتها المكوّنة للوقائع الشّارطة ..

و في هذا ، حصراً ، تُصبح إعادة إنتاج المؤثّرات التّوتّريّة أساساً في الصّراعات التّاريخيّة ، ممّا يعني حاجتها ، هي نفسها ، إلى سلوك آخر يعزّز قناعات الصّراع ، و يكون ذلك ، عادة ، بأحد شكلين : إمّا التّأويل .. و إمّا التّفسير .

و نحن علينا ألّا ننسى دوماً أنّ الصّراعات ، و مهما اتّخذت لها أشكالاً اقتصاديّة أو سياسيّة أو ثقافيّة ، إنّما هي صراعات على أساس العوامل الطّبيعيّة التي غالباً ما تجهلها أو تهملها النّظريّة السّياسيّة ، و هي القابعة في مبدأ السّلوك و دوالّ الأفعال ، و أعني منها تلك العوامل و الأسباب الأكثر ”طبيعّية” في حياة البشر ، التي تعود في أصلها إلى عمليّة ”الإخضاع الجنسيّ” التي تغلّفت بشدّة في أشكال أخرى هي جوهريّة أيضاً و مطابقة في الوقت نفسه ، و هي العوامل المتعلّقة بالملكيّة .

3▪على هذا الأساس تصبح استعادة الميكانيزمات و الدّيناميّات المسؤولة عن توجيه الصّراعات و حدّة زخمها ، غير ممكنة ، إلّا عن طريقيّ ”التّفسيير” أو ”التّأويل” .

و في هذا التّحديد ، حصراً ، يمكننا أن نميّز ما بين الرّمزيّ .. و المركزيّ الأكثر إثارة ، في الّتعليل الذي يتراوح بين ”التّأويل” و ”التّفسير” .

في الحقيقة ، فإنّ كلا شكليّ ”التّعليل” و الدّفع و التّحفيز في ”الصّراع” ، في التّأويل و التّفسير ، هما شكلان متداخلان إلى حدّ بعيد ، غير أنّه لا يمكننا الّنظر إليهما في وَحدة تحليليّة و إنّما يبقيان خاضعين للقراءة المتمايزة ، إن لم نقل المنفصلة، و من هنا كان علينا التّنظير في هُويّة كلّ منهما في محاولة للوقوف على المركزيّة و الرّمزيّة في ميادين السّياسة ، التي اتّخذت لها شكل الصّراع و دخلت في العنف المباشر في اختباريّة موضوعيّة فرضتها تطوّرات البنى المتناقضة أو غير المتكافئة في الدّولة كطبقة سياسيّة و في علاقتها أو في حقيقة أو زيف ”تعبيرها” عن المجتمع .

● أوّلاً – في الرّمزيّة و التّأويل :

4▪ يُطابق ”التّأويل” ، في الدّوافع ، ”الرّمزيّة” السّياسيّة في تعليل ”العنف” الذي هو مدار حديثنا العام .

العنف بقصدنا منه ما يتظاهر فينومينولوجيّاً في الصّراع على ”الهُويّة” السّياسيّة ، لقوى جوهريّةِ التّناقضاتِ القصوى ، التي لا يمكن أن تُسوّى أو تظهر على الملأ ، إلّا بوصفها صراعاً في ما بين تلك ”القوى” التّاريخيّة التي دخلت مرحلة المواجهة المباشرة في ”العنف” .

و يُفسح ”التّأويل” ( الهيرمينوطيقا ) المجال واسعاً جدّاً ، أمام تعليل رمزيّة الحضّ على العنف ، ذلك لأنّ الّلغة تسمح بذلك وفقاً لاتّساع الدّلالة و استرسال الخطاب..

و لا يُمكننا هنا تصفية حسابنا ببساطة مع الخطاب النّسقيّ المباشر المعبّر عنه في ما يوازي الّلغة ، و لكنّنا مضطرون إلى التّعامل مع إسقاطاته التّأويليّة التي تتكاثر ، عندما يكون الوضع المعبّر عنه كثيفاً و إشكاليّاً ، كما – مثلاً – في حالة الصّراع و الخلاف حول السّلطة و الشّرعيّة ..

و لعلّ الصّورة تتّضحُ عندما نُغرِقُ التّوسّع أو الاختصار الّتأويليين في القسر المُمارَس على النّصّ أو على الخطاب ، لتقويله المضامين الاختلاقّية التي تعمل على ابتزاز الفهم ، هذا مع أنّ للتّأويل حالاتٍ ضروريّةً لا يستقيم المدلول إلّا بواسطتها ..

و لكنْ عندما يكون التّأويل نفسه هو الطّريق الوحيد الفاضل في تفاضلات الدّلالة و اشتقاقات الواقعات .

إنّ التّأويل ، كخيار منهجيّ ، هو ما يجعل العنف طاغياً على القراءة و على الإيصال و التّوصيل ..

و من هنا تبدو مخاطر ”المنهج” التّأويليّ الذي يُعتبر كخيار بدئيّ و أوّليّ في قائمة الاستنارة التي ترافق الفهم في الإدراك .

5▪ إنّ التّشارط بين التّأويل و الرّمزيّة و تطلّب أحدهما للآخر ، يضعنا أمام هُويّة مزوّرة و ناقصة و مشوّهَة للواقع لأّنه يُحيلنا إلى واقع إنشائيّ أو افتراضيّ ، يجعل من ”الحقائق” نسخة اعتباطيّة عن فرضيّات تحتاج في أصلها إلى إثبات ..

وفي التّأويل تتضاعف الرّمزيّة إلى درجة تُخرِجُ معها الأفكارَ من واقعيّتها إلى مجالات غير مطروقة ، و ليست قابلة للاكتشاف بسبب الّتغليف المزدوَج المتعدّد للمسألة الواحدة ، حيث تخرج هذه المسألة من إطارعمليّانيّتها إلى عماء الفكر ، الذي بالغ في التّكوّر في المزيد و المزيد من التّجريد .

6▪و إذا كان التّأويل يتناسب مع قراءة الماضي الذي تكاثرت حوله المفاهيم المشرّدة و التّصنّع و المزاجيّة الأيديولوجّية ، بل وحتّى الكذب في لَيِّ عنق الوقائع و تقديمها التّسجيليّ في سرديّة مختلقة و منحرفة خارج سياق الأحداث الّتاريخيّة المحيطة بالوقائع ، ممّا يجعلها معرّضة للانهيار أمام أوّل قراءة اختباريّة مفهوميّة أو معرفيّة ..

فإنّ الرّمزيّة تتدخّل ، هنا ، كتملّق للكتابة و ممالأة للكلام ، أمام جملة الاعتبارات و العبارات و الحقائق المسكوت عليها ، لأسباب تتعّلق بالسّلطة و الشّرعيّة ، و تزوير السّرديّة الموضوعيّة التي تميّزها مركزيّة الاعتبارات و المؤشّرات .

و من هنا يُمكننا تفهّم و تقدير الاختلافات و الخلافات الواسعة المدى و الأدوات حول قراءة ”التّراث” ، حيث يكون لا بدّ لهذه التّناقضات من المثول أمام إعادة صياغة الأحداث بمفاهيم معاصرة ، و حتّى إلى الامتثال إلى نتائج تناقضاتها العقيمة بواسطة عنف متجدّد باستمرار ..

و لهذا بالضّبط تتعاظم المحاذير و المحظورات التي ينبغي أن نشترطها على أنفسنا ، بعدم تطبيق ”التّأويل” و ”ممارسة” الرّمزيّة” على قراءة الحاضر و جعلهما استراتيجيّة اختياريّة في صياغة العالم في مفاهيم و مصطلحات ، إذ سوف يبدو الحاضر و كأنّه حكم علينا فيه باستعادة الماضي و تكرار المنقضي ، في تفتيتٍ للجمعيّ لصالح الجماعات و الأفراد والقراءات التّعسّفيّة النّاجمة عن هذا و ذاك .

ليست التّأويليّة بالرّمزيّة ، استراتيجيّة سياسيّة مقبولة في تحليل الواقع ، و إنّما هي “مكمّل” استراتيجيّ لخوض قضايا ”التّراث” ، و لو أنّها – كما هو واضح و مفهوم – ليست الاستراتيجّية الوحيدة لاستعادة السّرديّات المنقضية مع الزّمان في التّاريخ .

7▪ من أهمّ و أخطر مساوئ الرّمزيّة و التّأويل ، أنّهما يطرحان ”الماضي” و ”التّراث” على أنّهما الثّروة الأثمن بالنّسبة إلينا ، أبناء الواقع الحاضر ، و في هذا احتقار و تسخيف للمشكلات الواقعّية و حدودها الزّمنيّة و امتلاءاتها في المكان .

و عندما يؤمن مجتمع من المجتمعات ، بواسطة عقول أفراده ، أو نخبة تلك العقول ، يؤمن إيماناً صادقاً بأنّ الماضي ، بما هو تراث أو غير ذلك ، هو أغنى و أهمّ من الحاضر (الواقع) فهذا فخّ نكون قد نصبناه لأنفسنا بأنفسنا ، و هو ليس أكثر من وهم يقودنا إلى اجترار الحوادث التّاريخيّة بعِبَرِها المزعومة ، بواسطة النّاطقين بإسمها في الحاضر ، أولئك المستفيدين من شدّ العالم إلى الخلف و إيقاف حركة التّاريخ و عبور و انقضاء الزّمان .

يعرف المشتغلون بالشّأن العامّ ، كيف تتبدّى صعوبات التّحليل في قراءة الوقائع و الظّواهر المعاصرة ، في انثناءاتها و طيّاتها الخفيّة التي تحمل فيها ، على الأغلب ، مدلولاتها التّعليليّة ، و بخاصّة عندما تلامس هذه الأمور مصالح الدّولة و المجتمع الأكثر إلحاحاً و تحدّياً للإدراك ..

فيما تغيب مفردات الماضي غياباً أبديّاً عن عين الملاحظة و إعادة الملاحظة و عزل الجوهريّ منها عن العَرَضيّ ، و هو ما يُطلق الحرّيّة السّالبة في إنشاءات طوباويّة ( يوتوبيّة ) يجري تفصيلها و تزيينها على قدّ الميول و الرّغبات الجماعيّة ، في مجتمع يغصّ بكثرته و تنوّعه الأنثروبولوجيّ و السّيكولوجيّ و الأيديولوجيّ ، إلى الدّرجة التي يصبح فيها التّأويل الرّمزيّ اعتداءً على الموصوف الواقعيّ المتنوّع ، بلغة أخرى لا يحتاج إليها الضّروريّ أو الوطنيّ أو العالميّ ..

و ذلك إلى الحدّ الذي يخرج فيه الوعي من عالمه إلى عوالم فانية أخرى لا تنتمي إليه .

إنّ مفهوم الانتماء إلى الهُويّة لا يقف عند الانتماء إلى مكوّنات الهويّة التّاريخيّة ، وحسب ، و إنّما يتجاوز ذلك بجوهريّة حقيقيّة و هي الانتماء إلى العالم ، بما هو واقع معاش بالجوارح التي تحتاج إلى تطمين .

8▪ يمكننا ببساطة أن نتفهّم قيمة التّأويل الرّمزيّ المحفوف بالأوهام و اختراع الفرضيّات المجوّفة بالنّسبة إلى”“المنهج التّاريخيّ” ، و في هذا الخيار الاستراتيجيّ الوحيد أمام ”نقد التّاريخ” ؛ على أنّ ذلك التّفهّم لا يمنعنا ، حيث لا يستطيع ، من النّظر إلى نتائجه بعين الرّيبة والشّك و ربّما الاستهتار والاحتقار ؛ غير أنّ الأمر لا يقف عند موقفنا نحن من نتائج التّحليل السّياسيّ بالمنهج التّاريخيّ ، بل يتعدّاه إلى القيمة العمليّة التي يمكن أن تكون محلّ اعتباريّات مثلى أو أفضل ، من أجل وضع الاستراتيجّيات العامّة ( مع اعتبارنا بأنّ كلّ استراتيجيّة هي ذات بعد عسكريّ ، و هذا ما يكمن في أصل ”المصطلح” ) و هو الأمر الذي يتعذّر ، بطبيعته ، بواسطة ”الرّمزيّة” و ”التّأويل” .

9▪ عمليّاً ، فإنّ كلّ استبيانٍ واقعيّ غير نموذجيّ هو ضرب من عمليّة التّأويل الرّمزيّة للواقع ، حيث يجري فيه تغييب الواقع عن عمد لمصلحة فكرة ما ، يُراد لها أن تتصدّر القناعات و الإقناعات السّياسيّة في معطيات القرار السّياسيّ أو الاقتصاديّ أو الاستراتيجيّ .

وغالباً ما تُتّخذ ”القرارات” المصيريّة بناء على مثل هذه الإحصائّيات أو الاستبيانات المختّصة ، مع أنّها تحمل مضامين ملفّقة بل و كاذبة و مشوِّهةٍ للواقع الذي يجب أن يكون مداراً للقرار .

و في ما عدا ذلك ، تقترن عادة التّأويل بالفكرة العقائديّة حول العالم بكل ما تنطوي عليه هذه الفكرة من عسف و تعسّف و تقرير ، يحتاج إلى إثبات أوّلاًو أخيراً قبل المباشرة من اعتماده كدليل في نظام المفاهيم ، و ذلك حتّى في المنظومات الرّمزيّة التي تعمل على اختزال الدّوال و اختزال المدلولات و أنظمة الإشارة و العبارة و الكتابة و التّثبيت .

إنّ البعد العَقَديّ لرمزيّة منهج ”التّأويل” تجعل منه نظاماً مغلقاً للتّفكير ، هذا مع أنّ انفتاح الواقع على العالم يتطلّب ، في الحدّ الأدنى ، استراتيجّية منفتحة من أطرافها المتعدّدة لتكون صالحة للتّعبير عن معطيات مستجدّة باستمرار ، و لو عبر نظام خاصّ و داخليّ لهذه الاستراتيجّية التي تميل إلى الاستقرار و الثّبات . و هذا أمر لا يتناقض ، بداهة ، مع مرونة عناصر الاستجابة إلى متغيّرات الواقع و مستجدّات العالم في الوعي الحيّ الحرّ و المسؤول .

و على أنّ الدّراسات ”الّلسانيّة” و ”السّيمانتيّة” المعاصرة تأخذ ”الهيرمينوطيقا” على أنّها تأويليّة ”بنيويّة” أو ”لفظيّة” الأدوات ، إلّا أنّ هذا لا يمنع ”التّأويليّة” من الانحدار نحو البعد الدّلاليّ المفهوميّ العامّ و الذي يقبع في أفق ”الهيرمينوطيقا” ، كتأويليّة بنيويّة و رمزيّة بوصفها وسيلة منهجيّة ، إن لم تكن قد شكّلت منهج التّقويم متجاوزة في ذلك الآلّيات المعتمدة كمساعدات في المنهج المتّبع في تقرير المدلول و المضمون و المفهوم .

10▪ في هذا الحدّ نكون وجهاً لوجه مع مبدأ ”الهُويّة” ، و لا أعني ذلك وفق المنطق الأرسطيّ للهويّة ، و ، إنّما أقارب المفهوم السّياسيّ للهويّة و كيفيّات إنتاجاته المعاصرة و أدوات و وسائل هذه الإنتاجات .

إنّ التّعيين الرّمزيّ للشّخصيّة الوطنيّة بواسطة ”التّأويليّة”، سواءٌ بوصفها ”هيرمينوطيقا” دلالّية أو وسيلة منهجيّة ، أم منهجاً متكاملاً في التّحليل ، على أنّ تلك ”الشّخصيّة” هي شيءٌ اتّفاقيّ ، هو ما يجعلنا أمام مخاطر التّأويليّة الرّمزيّة لمعطيات الواقع و التّاريخ التي تشكل قواعد الانتماء في الّتشكّل التّاريخيّ للهويّة السّياسيّة ؛ و هو ما يجعل من الشّخصيّة الوطنيّة محلّ تجاذب محلّي و ، إقليميّ و دوليّ ، كما يجعل منها موضوعاً للتّفاوض ، و هو الأمر الذي يجب أن يكون ممتنَعاً امتناعاً مطلقاً في عالم تزداد فيه التّحدّيات المفروضة على الشّخصيّة السّياسيّة و الانتماء .

فالانتماء ليس مجرّد شعار أو خطبة سياسيّة أو تقريراً إحصائيّاً يُقرأ و يُتلى في مناسبة سياسيّة عامّة ، وحسب ، بل يتعدّاه الأمر إلى الّطريقة التي ينظر إليها المرء إلى نفسه في مرآة ذاته ، و كيف أنّ هذا الأمر يتعدّى الشّخص الفرد أو الجماعة المعاصرة ، إلى الأجيال المتعاقبة التي على أساس وعيها و إيمانها تستمرّ الأوطان و تؤبّد في الخلود من خلال تطوّر مطّرد الإيجابّية و التّراكم و التّركيز .

● ثانياً – في المركزيّة و التَّفسير :

11▪ هنالك صراع تاريخيّ مستتر – و بخاصّة في الأمم قيد الّتشكّل القوميّ – على استراتيجيّات الاستقلال و القرار الاقتصاديّ و السّياسيّ ، ما بين ”التّأويليّة الرّمزيّة” على ما بحثناها أعلاه ، و بين ”المركزّية التّفسيريّة” التي تعتمد على المعطيات التّحليليّة الواقعيّة في ”التّفسير” ، من أجل مركزيّة دلالّية في تقدير القوّة تقديراً عمليّاً و واقعيّاً بعيداً عن المعطيات التّأويليّة ، التي تستمدّ ”معناها” (دلالاتها) من الإرث التّراثيّ للأّمة أو للمجتمع أو للدّولة المعاصرة قيد التّكوّن و التّشكّل و التّشكيل .

12▪ تقترن المسألة المركزيّة في هذا العرض الفكريّ ما بين التّأويل و الرّمزيّة ، من جهة ، و ما بين التّفسير و المركزيّة الذّاتيّة ، من جهة أخرى ، تقترن بموضوعة القدرة على التّفكير ، بوصف ”التّفكير” هو القدرة الأساسّية و الجوهريّة التي تتمكّن من تمييز التّأويل عن التّفسير في التّحليل ، أوّلاً ، و بوصفه ، ثانياً ، الحدّ القاطع الذي يفصل الرّمزيّة التّاريخيّة السّياسيّة عن المركزيّة الواقعيّة في حياة الأمم و الشّعوب .

و التّفكير هو أساس التّحليل الواقعي لمعطيات هي قيد التّناول ، إذ بواسطته يمكن تناولها بوضوح و جرأة و مسؤوليّة و واقعيّة و عقلانّية في وقت واحد .

و معروف أنّه لطالما اختلفت الأفراد و الشّعوب بقدرتها الإيجابّية على التّفكير النّقديّ الجريء ، الذي غالباً ما يتناول الواقع القائم و الحاضر عازفاً عن ذكريات الماضي القريب أو البعيد ، و مهما اتّخذت لها من أسماء أخلاقّية فارغة و كاذبة من مثل ”التّراث” أو ”الفولكلور” أو ”الذّاكرة الجمعيّة” للأّمة ، فهي غالباً ما انطوت على مخدّرات اجتماعيّة و أوهام سياسيّة و أعراض أمراض أخلاقّية و متلازمات نكوصّية و ارتكاسيّة و حسب .

13▪ نحن مع التّفسير في التّحليل ، بدلاً من التّأويل ، أمام عدّة تاريخيّة و معاصرة من مختلف العلوم و أدوات البحث و وسائل الإنتاج الفكرّية التي وفّرتها لنا الحضارة في رحلتها الطّويلة و تضحياتها الجسام و نتائجها الموثوقة و المجرّبة .

و نحن مع التّفسير في التّحليل أمام مركزيّة امتلاكنا لذواتنا و مشاكلنا و مسائلنا و حاجاتنا المضارعة و الحيّة ، و التي لا يمكن لأّيةٍ من المواقع الأخرى أن تشكّل لنا بديلاً عن هذه المركزيّة الحاسمة ، التي تتوهّج في المعاصَرة ، على عكس الاستيهامات الشّعوريّة الممتدّة بنا من الماضي غير المؤكّد ، و لا على أيّ نحو من التّأكيد في التّأويل و الرّمزيّات القابلة للتّحليلات ، التي ربّما تصل نتائجها إلى حدود التّناقض و الاختلاف و الخلاف ، و الواقع الذي نعيشه اليوم في سورية شاهد كبير و دامغ على ما نقول .

ففي التّحليل الحيّ بالتّفسير ، نقف على التّرابطات المتداخلة و المعقّدة التي تصنع الواقعة أو الظّاهرة، في مركزيّة نحن من يكون ممثّليها كحاجات حضاريّة ، متجاوزين العوز المعرفيّ الذي تُعبّر عنه ثنائيّات ”السّبب” أو ”العلّة” التي توفّرها لنا التّأويلات ، و التي تعدّ هي المسؤولة عن فقر الانتماء إلى الماضي و محدودّيات الاختيار و هزالة القرار .

في حدود معرفتنا ، فإنّ الواقع الذي يؤيّد معتقدنا في المركزيّة ، في إطار التّحليل الذي يعتمد على التّفسير ، هو ما يسمح لنا بإعادة القول و التّفكير و التّجربة و الحكم و البرهان بطرائق لا تحصى ، بالقياس مع فقر المعطيات التي يوفّرها التّأويل .

إنّ غنى التّحليل القائم على الحاضر لا يمكن مقارنته أبداً بالفقر الرّمزيّ الذي نعانيه في عمليّة التّحليل بالتّأويل ..

و أمّا من جانب آخر فإنّ للرّمزيّة التّأويليّة ساحاتها الأكثر خصوبة في الفنون و القضايا المجازّية ، و ها هي السّياسة تعلن باستمرار سخفها الذي نعاصره ، عندما تدور في فلك الرّمزيّات غير الواقعيّة التي تطمئنّ إلى التّأويل كطريقة في الفهم و التّحليل .

14▪ لقد اخترقت قواعد العالم المعاصر ، و السّياسيّة منها بخاصّة ، جميع الأزمنة التّاريخيّة و التّشكيلات الاقتصادّية – الاجتماعّية و المنظومات الاتّفاقيّة ، حتّى عادت العلوم نفسها تتخلّف عن الإحاطة بالمعطيات الواقعّية اليوميّة و الحيّة ، إلى درجة أصبحت معها مفردات الكلام ، نفسها ، مشكوكاً في مدى قدرتها على الإلمام بتفاصيل هذه المعطيات .

و في غضون ذلك ظهرت ”المبيانات” المتعدّدة و المختلفة و المتنوّعة لضبط حركة العالم اليوميّ ضبطاً إحصائيّاً و معلوماتيّاً ، و هي بالكاد تلهث وراء غزارة المعطيات وعاجزة في الوقت نفسه عن جعل تلك المعطيات في حوزة قواعد البيانات التي تلجأ إليها هذه ”المبيانات” ، عند الحاجة إلى اتّخاذ القرار في ظروف شديدة المركزيّة و بعيدة كلّ البعد عن رمزيّات التّأويل أو تأويلات الرّمزيّات .

إنّ اختزال العالم ، نفسه ، قد أدّى غرضاً تاريخيّاً في فرصة عالميّة تتّسع باستمرار ، من أهمّ صفاتها أنّها غير تأويليّة المفردات في المعطيات .

و بقدر ما يتركّز العالم في مفاهيم و معطيات معرفيّة جديدة ، فإنّ الحاجة إلى التّأويل تبدو أنّها قد أصبحت تنتمي إلى حقول الفعل البعيدة كلّ البعد عن المجتمعات و الدّول و السّياسة ، لتتفرّغ ( التّأويلات ) إلى المناشط الرّمزيّة المحضة و التي تتعلّق ، و قد تعلّقت نهائيّاً ، بالجماليّات التي تنبو عن التّحليل بالتّفسير ، و لن تني أو تفتأ تحتاج إلى الرّمزيّة في التّأويل .

15▪ في عالم اليوم اختلفت كثيراً أساليب الإدراك ”الصّحيحة” ( الواقعيّة و العقلانّية ) للعالَم ، حتّى بات من المؤكّد أنّنا على أبواب ثورة معرفيّة حقيقيّة تتجاوز كلّ ما يمكن أن يخطر في خاطر الفكر التّقليديّ الذي أصبح أثراً بعد عين .

فمع ثورة الفيزياء الكوانتيّة المعاصرة ازدادت قيمة الشّكّ المعرفيّ و اختلفت دَوالُّ المعرفة ( منطلقاتها ) و تداخلت حكاية العالم بالقصص الفرديّة للأشخاص ، و أصبح كلّ جزء في الواقع السّياسيّ العالميّ قادراً على أن يشكّل ، بمفرده ، رواية كاملة يحتاج تفسيرها إلى تحليل لحظيّ معمّق ، لن تكون العلوم المعاصرة ، مجتمعة ، قادرة على معاصرة مركزيّته ، ناهيك عن أطرافه المتراميات .

و في غمار ذلك تتعاظم ، يوماً بعد يوم ، مهمّات المفكّرين و الفلاسفة للإقلاع عن عادات ”المناهج” الكاذبة ، التي أصبحت قمينة بالحشر في المذاهب الفلسفيّة ”الإسميّة” تلك ، التي لا ترى في الوعي غير الأسماء الطّنانة المدوّية و الكاذبة .

إنّه ليس من المستغرب ، بعد اليوم ، ظهور ”اختزالات” خطرة للمفاهيم الكبرى و المناهج المزعومة و الحكايات المُطَوَّلة ، و ربّما للتّاريخ و الجغرافيا ، فيما سوف تتغيّر نظرتنا كثيراً إلى الأشياء ، بما فيها الخرافة و الأسطورة و المستحيل ..

قد يعجبك ايضا